جوني منصور يؤرّخ حيفا بلا تجرّد
المدينة قُتلت.. ولا تزال حيّة:
يستحضر الباحث والمؤرخ الفلسطينيّ الحيفاويّ د. جوني منصور تفاصيلَ وصورًا غزيرة من تاريخ مدينته قبل النكبة وأثناءها، كاشفًا عن جوانب اجتماعيّة وثقافيّة وحياتيّة لا نولي لها بالاً كما يجب، في مقابل التفاصيل السياسيّة والعسكريّة عن سقوط المدينة. د. منصور منحاز كليّة لشعبه ومدينته وروايته، ويقول بحزمٍ وتأكيد: الحياديّة والموضوعيّة هما كذبٌ في كذب. هذه تلفيقة تاريخيّة!
حاوره: علاء حليحل
الحياديّة والموضوعيّة كذب في كذب
رُغم ضبابيّة تعريف مفهوم “التأريخ” وإشكاليّة مهنة المؤرّخ في السياقيْن الفلسطينيّ والبشريّ عمومًا، إلاّ أنّ المؤرّخ الفلسطينيّ د. جوني منصور بدا واثقًا وحازمًا في اللقاء الخاصّ مع ملحق “فلسطين” وموقع “قاديتا”، في حزيران المنصرم: “كنتُ في الماضي أؤمن بما يُسمّى بالموضوعيّة، ولكن بعد وقت طويل أقنعت نفسي قناعةً تامّة بعدم وجود ما تُسمّى بالموضوعيّة. كنت في ما مضى أقول إنّ هناك ما يُسمّى بالحياديّة، ولكن لا توجد حياديّة. هناك انحياز. أنا أريد أن أختار مجموعة كلمات أنقل من خلالها الحقيقة والموروث على امتداد عشرات السنوات. نصّ مكتوب. ولذلك، أنا سأختار الكلمات وأدخل إلى عقل المتلقّي، وأفكّر في كيفيّة إقناع المتلقّي بفكرتي. هذه هي الصعوبة الموجودة لدى من يكتب النصّ التاريخيّ”.
• أنت كمؤرّخ، لماذا تريد إقناع الناس؟ لماذا لا تطرح أمامهم المعلومة وتترك القرار لهم؟
لا. أنا هدفي إقناعه. لا يمكنني مجرد طرح معلومة أمامه، هذا يستطيع قراءته في الجريدة… أنا لي وجهة نظر وموقف. أنا منحاز لقضيّتي. وتعرف ماذا؟ غدًا، إذا انتهت قضيتي، سأنحاز لقضيّة زمبابوي… الحياديّة والموضوعيّة هما كذب في كذب. هذه تلفيقة تاريخيّة”.
• علينا إذًا ألّا نستهجن من قيام مؤرّخ صهيونيّ بكتابة التاريخ تبعاً لانحيازه…
طبعًا. هو منحاز. وأنا منحاز. والشطارة في إقناع الآخر. وأوّلاً، إقناع مجموعتك، أفراد شعبك. أنا لا أكتب للغير، أنا أكتب لشعبي..
• تقنع شعبك بماذا؟
بالحقيقة التي وقعت وأنا أراها كما أراها. أريد محاولة إقناعه، في مقابل تيّارات أخرى تحاول إقناعه بأمور أخرى. نحن لا نعيش في نظام أحاديّ التفكير، توتاليتاري. الناس تتلقى المعلومات – في عصر التقنيّات الذي نعيشه – لا من المؤرخ فقط، بل من التلفزيون أيضًا. ووظيفتي أنا كمؤرّخ أن أنقل له الواقع الذي سمعه وعايشه، من خلال أشخاص ومراجع ووثائق. أحيانًا، تحصل على وثيقة معيّنة، لكنّ قراءاتها تختلف.
• الكتابة التاريخيّة هي إذًا نوع من أنواع الكتابة الأدبيّة.
نعم، هي نصّ أدبيّ.
• أنت تعي أنّك تكسر بهذا كلّ مفاهيم المرجعيّات التاريخيّة التي نشأنا عليها كفلسطينيّين.
هذا نصّ! أفكار تحوّلت إلى نصّ. يمكن أن تسميّ النص أدبيًّا، وآخر يمكن أن يسمّيه تاريخيًّا، وآخر يسمّيه تأريخًا جغرافيًّا، أيّ على نسق “جغرافيا المكان”. ماذا تعني جغرافيا المكان؟ ما هو المكان؟ المكان ليس أمرًا جامدًا أمامك. للمكان تاريخ.. حتى للجبل والوادي تاريخ. لذلك، أنا أريد نقل أفكاري من خلال علاقتي مع القارئ. هو حرّ بالاقتناع أم لا. أنا عليّ كتابة مقالة ودوري ينتهي مع النشر.
عدوى حبّ حيفا
في 26 أيّار المنصرم أطلق د. منصور كتابه الأخير “حيفا الكلمة التي صارت مدينة”، في أمسية كبيرة وحاشدة في مسرح “الميدان” في حيفا. وبدا من عدد الحضور الكبير والاهتمام بالكتاب وبمؤلّفه أنّ د. منصور نجح في التحوّل إلى مؤرّخ مدينة حيفا، بتتويجٍ من الناس على الأقلّ. فدأبه الكبير منذ مطلع سنوات السبعين على توثيق وتأريخ هذه المدينة بكلّ تفاصيلها، وحرصه على التواصل المباشر مع الناس كقرّاء عبر الصحف المحليّة، وكعائلات حيفيّة عريقة تملك مكنوزات تاريخيّة كالأوراق والصور والقصص. لك كلّه أسّس، وبصبرٍ كبير، لولادة هذا الكتاب الضخم والاستثنائيّ، الذي يسمّيه د. منصور “كتابًا ألبوميًّا”. وهو يقول عنه: “الكتاب مكتوب للعامّة، بلغة سلسلة وسهلة وجميلة. هذا هدفي”.
• سأعود إلى قضيّة الانحياز في سياق هذا الكتاب: أنا سجّلت عنوانيْن استخدمتهما أنتَ في الكتاب: “حيفا تأبى النسيان”، وهو عنوان يذكّر بمنشور حزبيّ، و “ساحة الحناطير ساحتنا”. الانطباع لديّ أنّ واضع هذا الكتاب إنسان غيور على حيفا ومُحبّ لها ويكتب إثباتًا ضدّ رواية أخرى، مفادها: أرض بلا شعب، لشعبٍ بلا أرض. هل هذا تاريخ كما “يُفترض” بالتاريخ أن يكون؟
أنا أنجزت أبحاثاً أكاديميّة جافة وعلميّة عدّة، ومثل هذه الأبحاث يقرأها عادةً أربعة أشخاص. لذلك، في سياق الكتاب وبناءً على سؤالك المحوريّ، كان هدفي الأساسيّ أن أقول للقارئ: هذه مدينتنا أنا وأنت. ولكوني منحازًا لمدينتي، أريد تجنيد جيشٍ من المُنحازين. لذلك أكتب “ساحتنا”. تبعيّتها لنا تاريخيًّا. لذلك، يجب أن تعتبره نصًّا يراوح بين الأحداث التاريخيّة وبين العاطفة. هناك مؤرّخون يجرّدون أنفسهم من العاطفة، ولكن عند حديثي عن أمر يخصّني أشعر بأنّه لي وبأنّه يحدث الآن، أنا أتكلّم معك الآن وفي خيالي الساحة كما كانت…
• أعتقد أنّك نجحت في هذه المهمّة؛ فمن يقرأ الكتاب، لا يستطيع ألّا يُصاب بعدوى حبّ حيفا.
هذا هدفي على الأقل. من خلال مخاطبتي للقارئ، أريده أن يبني وأن يجدّد القديم… كيف يمكن أن تبدأ واقعًا جديدًا من دون الماضي أو ما سبق؟ وكذا الأمر بالنسبة إلى اليهوديّ: هل يستطيع أن يطوي صفحة النازية؟ أنا متضامن معه ضدّ النازيّة، ولكني لا أستطيع أن أطوي صفحة أحداثي.
يمتدّ الكتاب على 502 صفحة من الحجم الكبير، وقد صدر عن الكاتب نفسه بالتعاون مع “دار الأركان الفلسطينيّة”. لم يكن صدور الكتاب ممكنًا لولا الدّعم السخيّ الذي لاقاه د. منصور من أفراد ومؤسّسات ورد ذكرهم في مقدّمة الكتاب، ولا مجال لذكرهم هنا. ويراوح الكتاب بين السياسة والحروب والثقافة والاقتصاد والحياة الاجتماعيّة. وعلى خلاف التأريخ التقليديّ الذي نعرفه، تحوّل التوثيق المجتمعيّ والحياة الاجتماعيّة في الكتاب إلى العصب الأكبر والأبرز فيه، والأكثر جذبًا. فمن خلاله نجح د. منصور في تحويل كلمة قد تكون مجرّدة في أعين الكثيرين، وهي كلمة “مدينة”، إلى حالة تراكميّة في الكتاب تكبر وتكتسي بالملامح الغزيرة: “نحن نتحدّث عن تشكّل مجتمعيْن وقتها: مجتمع مدينيّ ومجتمع ريفيّ حافظ حتّى على ملابسه. ضواحي المدينة بشكل مجازيّ. هؤلاء جاؤوا لغاية العمل، ولم يكونوا على رغبة بالاندماج، على خلاف أولادهم الذين تربّوا ونشأوا في المدينة، فهم شكّلوا المادة البشريّة المزوّدة لحياة المدينة في تلك الفترة”.
وإلى جانب الاختلافات المجتمعيّة الداخليّة في حيفا الفلسطينيّة وقتها، يشير د. منصور إلى كون الحياة في الأحياء العربيّة تشكّل حياة مختلفة عن المجتمع اليهوديّ الذي كان يعيش حياة أوروبيّة بكامل تفاصيلها، تمامًا كما أتوا منها، على شاكلة حيّ الهَدار ومركز الكرمل الذي بدأ كحيّ ألمانيّ… “أفكار البستنة مثلاً، العرب تأثّروا بها وتفاعلوا معها، ومن كان يملك القدرات قام ببناء بيته على هذا النمط”.
• لاحظت وجود رومانسيّة مفرطة أحيانًا في التعامل مع حيفا في صفحات الكتاب. حيفا السيئة غير حاضرة. الفقر أو الجريمة أو العمالة. هذه كلّها غير موجودة في الكتاب، ما يُضفي أحيانًا نوعًا من “الكيتش”. هل توافقني؟
أنا اخترتُ حيفا الجميلة، على غرار موسوعة “يافا الجميلة”. حيفا جميلة – وليس بمناظرها فقط. أنا قابلت العشرات منذ العام 1979. الكلّ يتحدّث عن تلك الفترة كفترة جميلة جدًا. نعم، كانت هناك جرائم، ونصّابون، ونشّالون، ودعارة.. طبعًا، هذه مدينة فيها كلّ شيء.
• مثل فاطمة “الزّعرة”؟ المدام التي كانت تدير بيت دعارة…
نعم، بالتأكيد. لكنّني أريد مدينتي جميلة.
• في الكتاب عمليّة متراكمة وحثيثة لاستحضار الأرواح. في كلّ صفحة وصورة، تحضر الحياة التي كانت هنا بكلّ بهائها. ولكنّ مع إدراك قويّ وحزين بأنّهم جميعًا ماتوا. ما يشبه متلازمة موت/ حياة. حيفا في كتابك بهيّة جدًّا، لكنّها أيضًا مليئة بالموت الجاثم بين السّطور. هذا كتاب رثاء.
هذا موت مدينة. أوافق معك مبدئيًّا على أنه كتاب رثاء. هذه مدينة ماتت بمواقعها وبناسها. بيافطاتها. لقد فقدنا المدينة.. السير في الشوارع اليوم منهِك للغاية. أنا أتألّم كلّ يوم. أقطع المدينة كلّ يوم بحكم عملي وتمرّ حيفا أمامي كلّ يوم. وأكثر من ذلك: أنا أرى أبي رحمه الله في الأماكن التي عمل فيها والتي دلّني عليها. تصوّر. لكن أنا حالة خاصّة، فغالبيّة الناس لا ترى إلّا بيتها ومكان عملها. وهذا دورنا جميعًا لزيادة الوعي بالعلاقة التاريخيّة القائمة بين الإنسان والمكان والزمان، شريطة ألّا نظلّ عالقين في الماضي، وأن ننظر إلى المستقبل.
برجوازيّة وكاميرات
• في الكتاب خلطة جميلة: حروب، سياسة، تآمر، ضياع بلد، وهناك بشر وعائلات ووجوه وصور، وكأنّ هناك تزاوجًا مخيفًا أحيانًا بين الموت والحياة. هذا صعب جدًّا للقراءة. أنت تسمع أنّ المدينة ضاعت، وفجأة ترى على امتداد هذا الكتاب ما تعنيه النكبة…
هناك ألبوم صور أثّر فيّ كثيرًا بشكل خاصّ. والألبومات تبدأ من العام 1896. ومن أعطتني الصور عمرها اليوم 76 سنة، وهي آخر فرد من أفراد هذه العائلة، عندما تموت تنتهي هذه العائلة كلّها، في حيفا وفي فلسطين. عائلة مدوّر. كانوا من أغنياء البلد، وكان لهم دور قويّ في المجتمع في أثناء الحكم التركي ثم الانتداب. كانت لهم بالطبع علاقات قويّة مع المؤسّسة الحاكمة. ومثلما انتهت المدينة، انتهت هذه العائلة وغيرها من العائلات. لذلك، أنا حاولت أن أحيي المدينة بالصورة. وقد كانت ألبومات الصور أغلى شيء لدى هذه العائلات. وثاني أغلى شيء هو الأوراق.
• واضح أنّ هناك عائلات كانت ذات ثراء ووعي اجتماعيّ وثقافيّ لضرورة التصوير وتخليد اللحظة. شعرت من الصور في الكتاب بأنّ هناك شريحة معيّنة من الناس هي مركز الصور: طبقة غنيّة، برجوازيّة، ومسيحيّة بالأساس. لماذا؟ هل هناك سبب تاريخي؟
توجد صور أيضًا لعائلات إسلاميّة مدينيّة غنيّة. من تحدّثت عنهم كانوا في وضع اقتصاديّ جيّد. ثانيًا: كانوا يعيشون في بيوت فخمة. وثالثًا: قدراتهم الماليّة للعيش اليوميّ كانت تفوق الناس بدرجات، مثل إرساليّات الطعام الجاهزة وإرساليّات كيّ الملابس وغيرها. وكانوا يخلّدون الأحداث بالصور. وليس لدى مجرّد مصوّرين عاديّين. فهناك مصور اسمه سافيذيس كان يدرج في الصور التي يلتقطها على وضع رسمة شبّاك في الخلفيّة. ومصوّر آخر كان مشهورًا جدًا بوضع مكعبات خشبيّة في الصور. هذا أرمنيّ وسافيذيس يونانيّ وكلّ واحد يرى الأمور بطريقته الخاصّة. وفي سنوات الأربعين، اقتنى بعض الناس كاميرات خاصة وأنتجوا صورًا ليست مهنيّة تمامًا، لكنّها تعكس سلوك الناس داخل المجتمع. كأن تتصور فتيات مع شاب في الخارج، في الشارع. وهناك أيضًا صور عن الطبقة المتوسّطة، بينما تكاد تنعدم الصور بتاتًا عن الطبقة الفقيرة، وهؤلاء هم الأغلبيّة الساحقة من الناس، وغالبيتهم من القرى. وإلى جانب ذلك، تحضر الصور التي التقطها المهاجرون اليهود في سنوات الأربعين بعد صعود النازيّة، فهم أتوا بكاميراتهم معهم. وقد استعنتُ ببعض صورهم، خصوصًا صور الأسواق والحياة الاقتصاديّة الاجتماعيّة والحيّزات المدينيّة الأخرى التي لم يدرج الفلسطينيّون على التقاطها مثلهم.
تسمح لنفسها بالتصوّر هكذا
جمع د. منصور هذا الكمّ الكبير من الصور على مدار 30 عامًا من العمل والبحث والتجميع، “ومنذ 15 عامًا تقريبًا بدأت بطرق الأبواب لدى عائلات قديمة في حيفا، وصرت أخمّن أنّ الجيل الثاني أو الثالث بدأ يلتقط الصور. ثم بدأ الناس بالاتصال بي، وتشكلت لديّ مجموعات متنوّعة ومختلفة”. وتحوي أرشيفات حيفا الرسميّة عددًا غير كبير من الصور، وغالبيتها صور نُهبت من البيوت الفلسطينيّة بعد سقوط حيفا. وهناك مصادر صور لم تتكشّف لنا حتى اليوم، وهي الأديرة. ويعتبر د. منصور أنّ الأديرة هي كنز أرشيفيّ كبير. وعن أسباب عدم الكشف عن هذه الصّور، يقول: “لأنّ علاقة الأديرة بالمكان هي صفر تقريبًا. فهذه علاقة بعثة لها مهمّة معيّنة قد تنتهي ولا حاجة لنسج علاقات قريبة مع الناس. والأديرة تاريخيًّا تهتمّ بالأرشيفات بشكل كبير. هذا البُعد منع الكثير من الباحثين من التوجّه ومن استجابة الأديرة لهذه التوجهّات، وأنا استجابت لي بعض المؤسّسات ومؤسّسات أخرى امتنعت عن فتح أرشيفها أمامي”.
• نحو 1,00 صورة في الكتاب: لن أسألك ما هي أهمّ صورة، ولكن هل هناك صورة خاصّة متميّزة في الكتاب تحبّها بشكل خاصّ؟ أنا اخترت صورة ماري خلاط في صفحة 53. هكذا أرى فلسطين: امرأة، علاقتها مع المكان جميلة، وقفتها عند الشباك، والنظر إلى المكان وضوء الشمس يغمرها. وأنت؟
أنا أختار صورة أليكسا خوري (ص. 348)… هذه من مجموعة صور في ألبوم عائلة مدوّر، التقطت العام 1934، وهي تتصوّر في قصر دار الخوري (هُدم في نهاية سنوات الستين- ع.ح.)، وتسمح لنفسها بالتصوّر بهذه الوضعيّة.. هذه صورة مرعبة. تعطي ظهرها لكنك ترى وجهها وجسمها كله.. في بيت بتصميم شرقيّ/ غربيّ، ومن حولها القناطر الثلاث. صورة مؤثّرة جدًا.
• لدينا استحواذ على الصور، على مستوى الأفراد وعلى المستوى الجمعيّ، على غرار كتابيْ “قبل الشتات” و “كي لا ننسى”… وكأنّنا نريد أن نبرهن لكلّ من يسأل أنّنا كنّا وعشنا وبنينا. كأنّ النصّ لا يكفي.
كتاب “قبل الشتات” فتح الباب للتاريخ المصوّر، الذي يُمكّنك من قراءة التاريخ الاجتماعيّ من خلال الصورة. ليس لهذا التوجّه أدوات ثابتة بل هناك مخزون معرفيّ ويجب عليك أن تعرف كيف تتعامل مع الصورة. ومع الوقت ساعدت التقنيّات.. هذا كتاب صور. أسمّيه كتابًا ألبوميًّا. نصوص وصور. هذا الهدف منه. وبرأيي أنّ الناس تتداول اليوم الصور عن طريق وسائل الشبكات الاجتماعيّة وبدأت تنسى ثقافة الألبومات المطبوعة. الصورة هي دليل إضافيّ إلى جانب الأوراق والأدوات مثل الأرشيف (ورق) والتأريخ الشفويّ.
التاريخ: زمن قراءته، وكيفية كتابته
• ما هو التاريخ وما علاقته بالماضي، انطلاقًا من عمليّة الفصل بين الماضي والتاريخ باعتبارهما أمريْن منفصليْن.
أنت تقرأ التاريخ اليوم، في ضوء المعرفة التي لديك والأحداث الجارية. أنت لا تعود إلى الماضي كحدث وتجرّده. مثلاً، قراءة قضيّة التحكيم بين معاوية وعلي: أنت تقرأها اليوم بطريقة مختلفة كليّة عمّا قرأها الطبريّ وأيّ مؤرخ من القرون الوسطى. القراءة التاريخيّة تختلف من شخص لشخص ومن باحث لباحث، وتختلف بحُكم الزمن الذين نعيشه. نحن نقرأ اليوم أحداث 1948 بطريقة مختلفة كليّة عمّا قرأها المؤرّخون الذي كتبوا في الماضي القريب. حتى إذا تناولت قسطنطين زريق، أوّل من كتب عن موضوعة النكبة، فإنّه كتب النصّ في شهر آب 1948، في قمّة الحدث. أمّا نحن كفلسطينيّين باقين في أرضنا، فنقرأ الحدث بقراءات مختلفة. نحن نقرأ بفعل الجرح الدائم والمتواصل الموجود أمامنا. أنا مثلًا أعرف غالبيّة القرى المهجّرة في منطقتنا، وأعرف بعضًا من ناسها وذكرياتهم، بحكم المقابلات التي أجريها. ولذلك، فإنّني أقرأ الحدث بقراءة اليوم للفترة تلك.
المسألة الثانية هي الصعوبة في الكتابة: كيف يمكن أن تجنّد كلّ هذه الطاقة المعرفيّة وتكتبها؟ أنت تريد نقل الحدث المعرفيّ الذهنيّ الفكريّ الموجود في مخيّلتك ومعرفتك الذاتيّة، من هذا الزمن إليك، ومنك إلى نصّ.. وكيف تكتب النصّ؟ عليك اختيار الكلمات.
• رُغم ذلك، لا بدّ من ضوابط مهنيّة في هذا النوع من الكتابة…
طبعًا؛ لنفترض أنك تريد إنجاز بحث عن مؤسّسة مثل الكليّة العربيّة في القدس. مؤسّسة كان لها دور كبير في الثقافة والمشهد التربويّ والتعليميّ وتحضير الرعيل الأوّل من المثقفين والمتعلّمين، أنا بحاجة إلى ما يُسمّى الأرشيف. أنت تتحدّث عن فترة زمنيّة يجب أن تجري عنها مقابلات شفويّة، والإمكانيّات ضئيلة جدًا في هذا السياق بسبب محدوديّة العمر. الوثيقة تعيش أكثر من الإنسان، ولذلك عليك العودة إلى الأرشيف. عليك أن تفحص أيّ أرشيف يناسب المشروع الذي تعمل عليه.
على سبيل المثال، أنا أعمل اليوم على بحث معيّن: في العام 1948، نزح أناس من مدن حيفا ويافا والّلد والرملة (أساسًا) باتجاهات مختلفة. هناك من نزح عن طريق البحر من حيفا ويافا وعكا، وهناك من نزح عبر البرّ. الكثيرون من النازحين عبر البرّ أتوا إلى نابلس وقراها. مَن هم هؤلاء؟ أولًا، غالبيّتهم من هذه القرى أصلاً وكانوا هاجروا إلى حيفا للعمل، بعضهم اشترى البيوت والبعض أودع توفيراته في البنوك. وهناك من لم يتملّكوا فعادوا إلى القرى. من تولّى مسؤوليّة إدارة شؤونهم بعد النزوح إلى القرى؟.. الأونروا لم تكن قد تأسّست بعد. أنا أتحدّث عن فترة 1948 حتى مطلع الخمسين. من تولّى إدارة شؤونهم كانت بلديّة نابلس. من أين إذًا سأستقي المعلومات؟ من الأرشيف. وهكذا أنا أروح وأجيء إلى نابلس لمعاينة الأرشيف. ترى الكثير من الطلبات التي قُدّمت وقتها: أنا كنت ساكن في عنوان كذا، ولي أملاك كذا… هناك مثلًا من كتب في طلب ما أنّ لديه طاولة و12 كرسيًّا في البيت. أنا كمؤرّخ أرى أنّ 12 كرسيًّا هو عدد كبير. هذا يعني أنّ وضعه الاقتصاديّ والاجتماعيّ كان جيدًا. كان يدعو الناس للموائد. أحاول الآن وضع قوائم بأسماء من ظلّوا على قيد الحياة من هؤلاء، ولكنّني لا أجد. وعندها، تلجأ إلى أولادهم. إذًا أنتَ تملك هذه المعطيات، وأنا أسجّل تفاصيلها الكاملة من الأرشيف وأحاول أن أبني النصّ التاريخيّ الذي يراوح بين التفاصيل بقدر ما، كي لا أنهك القارئ.
• قد يكون من مساوئ الأرشيف أنّ من لم يقدّم طلبًا وقتها خرج من التاريخ.
صحيح. وهناك أمثلة أجدها، كأن يقدّم أحد ما أكثر من طلب بأسماء مستعارة. كَشَفُوه. لا تعرف سبب محاولات الاحتيال هذه، ربما بسبب الظروف. نحن نحاول أن نفهم كيفيّة إدارة أمور هؤلاء النازحين طيلة العام ونصف العام.
في مقابل ندرة الوثائق والسيطرة على الأرشيفات، تبرز أهميّة كبيرة للمقابلات الشخصيّة مع الناجين أو أولادهم. ما نسميّه بالتاريخ الشفويّ. يوجد نقاش اليوم حول التاريخ الشفويّ، وما إذا كان بالإمكان الاستناد إليه بكلّ حقيقة، أم تعتبره مساهمة فقط.
• خصوصًا أنّ ذاكرة البشر انتقائيّة.
نعم، وأنت تتحدّث إلى أناس محدّدين. وإذا أخذت شاهدًا سبق وأُجريت معه ثلاثين مقابلة حتى الآن، فمن الواضح أنه أصبح يلفّ القصّة ويتحكّم بها كما يريد. يجب على المؤرّخ أن يكون محقّقًا حقيقيًّا قبل أن يكون كاتبًا.
• عملية التأريخ هي تقريبًا فعل مستحيل. أنت تحاول وضع رواية نوعًا ما عمّا حدث.
ما هو التأريخ؟.. أنت تأخذ حدثًا معيّنًا وقع فعلًا، مثل غزو نابليون لمدينة حيفا قبل 200 عام. نحن نعرف عن الأماكن التي وصلها في حيفا، إلى جانب معلومات أخرى موجودة في الوثائق التي كتبها شخص ما. ما أستطيع فعله هو أن أحصل على الوثائق وأطوّعها وأعزّزها، بما يوضح الأمور أكثر وأكثر. أنا أعترف في هذا السياق أنّ الروائي مرتاح أكثر. فأنت كممارس للنصّ الروائي تبني الرواية ما بين النصّ “الحقيقيّ” الذي كان وما بين النصّ الذي تريد أنت وضعه. لا تصدّق أنّ المؤرّخ “يؤرّخ”. نحن نسمّي أنفسنا مؤرّخين، لكنّنا عمليًّا نبني الروايات التاريخيّة بأدوات وكلمات وصيغ متفق عليها تقريبًا في التأريخ. لكنّ المحاولة الأساسيّة هي أن تحافظ على الحدث كحدث، تحاول نقله، وهناك دائمًا نصوص مختلفة عن الحدث نفسه.
• هل يؤرّخ التابع بشكل مختلف عن المهيمن، بحسب النظريات البوست كولونياليّة؟ وهل يحقّ للضحيّة في سياق التأريخ ما لا يحقّ للآخر القامع؟ هل تملك كفلسطينيّ ما يتفوّق على المؤرّخ اليهوديّ الصهيونيّ؟
نعم. لأنّ لدينا قضية. يستطيع مؤرّخ آخر أن يقول إنه مؤمن بما يوجد على أرض الواقع فقط. لكن أنا لي قضيّة وهي قضيّة الإنسان والأرض، في هذا السياق التاريخيّ. ولذلك، فإنّني أريد أن أكتب دفاعًا عن هذا الإنسان ودفاعًا عن هذه الأرض، وحماية هذيْن العنصريْن سويّة، فهما شكّلا المشهديّة الحياتيّة التي كانت موجودة في البلد. مارك توين جاء إلى البلد في القرن التاسع عشر، وقال إنّه مشى مسافة طويلة نحو 40 كيلومترًا “ولم أرَ إلّا شخصيْن”، فكتب أنّ البلد فارغة. أنظر على ماذا يعتمدون. يُخرجون جمَلاً من السياق ويفسّرونها كما يرغبون. أنا مؤمن بعدالة قضيّتي، ولذلك أنا منحاز. ولذلك، أريد أن أجيّش وأجنّد كلّ طاقاتي المعرفيّة والكتابيّة والتحليليّة لخدمة القضيّة.
• هذا بالضرورة سيجعلك متسامحًا أكثر مع التاريخ الذي تكتبه… أن تغضّ الطرف أحيانًا عن أمور لا تخدم القضية؟
طبعًا! المنحاز هو انتقائيّ، ولكن يعرف كيف ينتقي الأشياء. هذا لا يعني أنّني لا ألوم أو لا أوجّه أصابع الاتهام لقياداتي وشعبي. أنا أوجّه اللوم للقيادات والرجعيّة العربيّة بخصوص نكبة 1948. لم تستطع هذه القيادات أن تضع نظارة وأن ترى ما يحدث. كانوا يرون ما يحدث من استيطان ونقود وسرقات وهيمنة يهوديّة، لكن لماذا لا تضع النظّارة بشكل صحيح؟
• وهذا قد يكون غباءً أو جهلاً، ويمكن أن يكون تواطؤًا.
يمكن أن يكون كلّ هذه الأمور.. غباء، عدم إدراك وفهم لما يجري، لأنّ الكثير من القرارات التي اُتخذت بخصوص فلسطين والقضيّة الفلسطينيّة هي قرارات صُنعت في مطابخ أخرى غير موجودة في منطقتنا، كالمؤتمر الصهيونيّ الأول أو تصريح بلفور أو سايكس بيكو. هذه كلّها مطابخ أوروبيّة. هل كانت قيادتنا هنا ترى ذلك؟ نعم، كانت ترى. نجيب نصّار (مؤسّس ومحرّر صحيفة “الكرمل” الحيفاويّة – ع.ح.) كان شايفها مئة بالمئة. نحن كنا خارجين من الحكم التركيّ، ثم مرّت سنوات العشرين والثلاثين، وصار لدينا متعلّمون ومثقفون واعون، ولكنهم لم يستطيعوا تشكيل قيادة تُترجم على أرض الواقع لقيادة صمود وتحدٍّ للمشروع الصهيونيّ.
• ونحن لم نكتب حتى الآن تاريخ النكبة الحقيقيّ. فالنكبة مأساة هائلة، لكنّ فيها أيضًا التواطؤ والعمالة وسمسرة الأراضي والخيانة.
هذا نوع من الهروب من الحقيقة والواقع اللذيْن كانا سائديْن. يجب عليّ ألّا أنتظر أن يأتي مؤرّخ إسرائيليّ مثل هيلل كوهن وغيره ليكتب نصًّا عن التُجار والسماسرة.. هل عليّ أن أرفض هذا النصّ وأقول له إنّه يخدم مشروعه الصهيونيّ؟ صحيح أنّه يخدم هذا المشروع، لكنّه في الوقت نفسه يقدّم لي وثيقة يجب أن أتعامل معها. كان هناك سماسرة أراضٍ، لماذا يجب أن نغطّي نحن على ذلك؟ أن نعلق كلّ شيء على شمّاعة المشروع الصهيونيّ والكولونياليّ؟
• ألا توجد مفارقة بأنّ من كتب هذه الأمور يهوديّ، وأنّ هناك يهوديًّا آخر (إيلان بابه) هو الذي كتب عن التطهير العرقيّ في فلسطين؟
يجب أن تأخذ بعين الاعتبار قضيّة السيطرة على الأوراق. أشدّد: الأوراق. بكلّ مفاهميها. صدر قرار لدى المنظّمات الصهيونيّة المختلفة (في النكبة – ع.ح.) بإحضار أيّ ورقة يُعثر عليها. أنا كفلسطينيّ لا أرشيف لي. لا أتحدّث عن الأوراق الموجودة لدى أفراد هنا وهناك… هذا لا يعني الكثير إذا لم تكن هذه الأوراق مجتمعة في مكان واحد ويمكنني أن أطلب من الناس أن يأتوا ويقرأوا. أنا مضطرّ لتلقّي خدماته الأرشيفيّة، ولكن حتى هذا مع قيود: فهناك الملفات المغلقة والسريّة.
جوني منصور في سطور
وُلد د. جوني منصور في العام 1960 في حيفا، ويقيم فيها مع عائلته. هو حاصل على الدكتوراه في موضوع التاريخ، ويعمل محاضرًا في موضوعه منذ 35 عامًا. نشر حتى اليوم مقالات وبحوثًا كثيرة في التاريخ والتربية والسياسة، وله 34 كتابًا بالعربيّة والإنكليزيّة، تركّز قسم بارز منها في مدينة حيفا وجوارها، منها: “شوارع حيفا العربيّة” و “الخط الحديديّ الحجازيّ” و “مسارات حيفا العربية”، إلى جانب كتب ودراسات في المنظومة الإسرائيليّة منها: “الاستيطان الإسرائيليّ” و “المؤسّسة العسكريّة في إسرائيل” و “معجم المصطلحات والمفاهيم الصهيونية والإسرائيليّة”. شارك في مؤتمرات كثيرة عالجت شؤوناً تاريخية وسياسية وتربوية، وهو ناشط سياسيّ واجتماعيّ في محافل عدّة داخل الوطن وخارجه.
* نشر في السفير ملحق فلسطين الشهري
(*) بالتنسيق مع موقع “قاديتا” للأدب والثقافة