جيشٌ في مواجهة مقاومٍ ومقاومةٌ تصارع دولةً
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
جيشٌ لجبٌ وقوةٌ جبارةٌ، ولفيفٌ كبيرٌ من القادة وكبار الضباط العسكريين ورجال الأمن الإسرائيليين، ومعهم المئات من الجنود وعناصر الشرطة، المدججين بالسلاح، والمزودين بكل وسائل القتال والمواجهة، التي تعززها الطائرات والدبابات والعربات المدرعة، ومعها الجرافات والآليات الثقيلة.
وقد سبقت جحافلهم قراراتٌ بمنع التجوال، ووضعت قواتٌ أخرى حواجز عسكرية أغلقت الشوارع والطرق، وجعلت من البلدةِ مربعاً أمنياً حصيناً، قبل أن تحيط بالبيت الذي تحصن فيه الشهيد محمد الفقيه، وما هي إلا دقائق قليلة حتى استحالت بلدة صوريف إلى ساحة قتالٍ وميدان مواجهةٍ، ومزق صمت المكان الذي خيم على البلدة والسكان، أصواتٌ مذعورةٌ خائفة، تفتقر إلى الثقة والطمأنينة، وتخشى الخيبة والخسارة، خرجت عييةً بلكنةٍ غير عربيةٍ من مكبرات صوتٍ تحملها عرباتٌ عسكريةٌ، تنادي على محمد الفقيه أن يلقي سلاحه ويستسلم، وأن يخرج من مكمنه ولا يقاوم، وتنبهه بأن المكان كله محاصر، ولا فائدة من المقاومة والصمود، والعناد وعدم الخضوع.
لكن محمد الذي سبق له أن سجن وأعتقل، وعذب واضطهد، وعرف معاناة الأسرى وعذابات المعتقلين، وذاق المر من ممارسات العدو وتجرع الهوان من سياسة الاحتلال، كان يدرك بعد أن قتل الحاخام الإسرائيلي المتطرف ميخائيل مارك، أنه سيمضي في دربه، وسيواصل طريقه، وسيكمل ما بدأه مقاومةً وقتالاً، ومواجهةً واستبسالاً، وسيستهدف آخرين من أعدائه، وسينال من الحاقدين منهم والمستوطنين فيهم، وأنه لن يسلم للعدو نفسه ليسجن ويعذب، ويضطهد ويقهر، وإن كان ذلك فلن يكون إلا جسداً لمقاومٍ صمدٍ، ورفاةً لبطلٍ صنديدٍ، وبقايا أشلاءٍ لرجلٍ أبى أن يخضع، ورفض أن يستسلم، بينما ستسبقه روحه إلى الجنه، وسيسري عبق ذكره بين أهله وشعبه، وستروى قصة صموده ورواية ثباته، ليخلد مع الشهداء، ويلحق بركب الأبطال الأطهار.
ذاك كان محمد الفقيه، مثال الفلسطيني المقاوم، المتمسك بحقه والرافض الخضوع لعدوه، مهما بلغت قوته وزادت عنجهيته، وتعاظمت قدراته، وقد كان يعرف ما يريد، ويدرك ما يقوم به مختاراً راضياً، مصمماً ماضياً، ليعلم العدو أن هذا الشعب مثاله، وهو منه واحدٌ وعنهم لا يختلف، ينفذ إرادتهم ويمضي على منهجهم، فإن سقط فإن غيره من بعده سيتابع، وسيحمل الراية في تتابعٍ متصلٍ فلا تسقط، ولئلا تنهار المقاومة وتنتهي، فيظن العدو أنه بقوته انتصر، وبجبروته حقق ما يريد ونال ما تمنى، وأنه بما يملك من قوةٍ قادرٌ على إخضاع هذا الشعب وإسكات صوته وإخماد أنفاسه.
ترى هل كان في البيت الذي حاصره جنود الاحتلال بهذه الأعداد الكبيرة غير محمدٍ واقفاً، وسواه مقاتلاً يحمل سلاحه، ويطوي في قلبه يقينه، وهل ظن العدو أن بين جدران هذا البيت جيشٌ يقاتل، ومسلحون كثرٌ يتحصنون، فاستخدم هذه القوة المفرطة، واستعان بكل هذه القطع من الآليات والسلاح والعتاد، فدمر البيت وقوض أركانه، وسوى بالتراب بيوتاً أخرى كثيرةً في المكان والجوار، ظناً منه أن فيها مقاتلون، وأنهم منها سينطلقون وسيهاجمون، فعجل بتدمير كلِ شئٍ حتى بات المكان وكأنه قد أصابه إعصارٌ أو نزل به زلزالٌ فدمره وبعثره، ووقف فوق ركامه يعلن انتصاره، ويزهو بدماره.
قد يظنها البعض معادلة خاسرة، ومعركة فاشلة، تفتقر إلى التوازن والتكافؤ، وتعاني من الخلل والاضطراب، وتشكو من انعدام الثقة وفقدان الأمل، إذ أن نتيجتها محتومةٌ قطعاً، وخاتمتها معروفةٌ مسبقاً، فالغلبة للأقوى والأكثر عدداً، والفوز لمن يملك سلاحاً وعتاداً، وعنده جيشٌ وترسانة، ودولةٌ وقيادة، وإمداداتٌ واتصالاتٌ وآليات نقلٍ، بينما الخسارة من نصيب الأضعف قوةً، والأقل عدداً، المحاصر في مكانه، الفقير في سلاحه، والمجرد من العتاد، من الذين لا ناصر لهم ولا سند عندهم، ولا مدد ينجدهم ولا قوة تنقذهم.
تلك هي حسبة من لا يؤمنون بأهدافهم، ولا يثقون في حقهم، ولا يؤمنون بقدراتهم، ولا يتمسكون بثوابتهم، من الذين يضعفون في الأزمات، ويجبنون عند مواجهة الأعداء، ويتخلون عند أول التحديات، ولا يعرفون مذاق التضحية ولا طعم العطاء، ولا يحتسبون الأجر ولا يتطلعون إلى المثوبة، ممن يستعجلون النصر، ويتعسفون النتائج وقطف الثمار، وهي من قبل رؤية من لا يتقون بالله ولا يتوكلون عليه، ويصرون على الاعتماد على أنفسهم والركون إلى قدراتهم، وعدم اللجوء إلى الله ربهم، فلا يسألونه النصر، ولا يطلبون منه الثبات والصمود، وتسديد الرمي وإصابة الهدف.
قد نسمع أصواتاً تخطيء محمداً، وتصف ما قام به بالجنون والخبل، وعدم العقل وغياب الحكمة، إذ كيف له أن يواجه بصدره العاري وسلاحه البسيط وقدراته المحدودة، هذا الجيش الذي جاء كالوحش الضاري، وفغر فاه كحيوانٍ مفترسٍ جائعٍ، يريد أن يفتك بضحيته ويقتله، غير مبالٍ بقيم العسكر وأخلاقيات الجيش، الذي لا يليق به أن يقاتل بعديده فرداً، وأن يواجه بقوته شخصاً، وهو المعد لقتال الجيوش وخوض الحروب النظامية، ولكنه تضائل كقزمٍ أمام مقاومٍ شمخ كعملاقٍ وصمد كجبل.
إنها المقاومة الفلسطينية البطلة، وإنها الخليل العنيدة، وإنهم لرجال الأولى وأبطال الثانية، الذين يصرون على الحق ويثبتون في مواجهة العدو، فإن النصر سيكون بإذن الله حليفهم، والغلبة وإن تأخرت فستكون من صفهم، فذاك هو سبيل المقاومين وسنة الأولين، من تمسك بها وصل، ومن ثبت عليها انتصر.
فطوبى لك محمد ما قدمت، وهنيئاً لك ما حققت، فإنك اليوم لدينا مكينٌ عالي القدر والمقام، نحفظ اسمك، ونذكر فعلك، ونتأسى بك ونقلد عملك، وإنَّا على طريقك ماضون، ولعهدك حافظون، ولأمانتك راعون، ولوديعتك مخلصون، وسيقول من بعد الآتون، إنا على دربك سائرون، ولرايتك الخفاقة حاملون، ولحقك الأبلج صائنون وعيه أمينون.
بيروت في 28/7/2016