حتى مقهى الصّفصاف التونسي – خالد سليمان
المقاهي العربية: من البداية حتى مقهى الصّفصاف التونسي – خالد سليمان
منذ سنوات طوال بدأت رحلتي مع المقاهي التّي تمثل جزءًا من ذاكرة التاريخ وتراثه المتجدّد، وشاهدا على تقلّبات الدّهر وصروفه..، شاهد له دور فاعل يستأنف التّاريخ تارة ويراقبه تارة أخرى تتدفّق من خلالها سطور من التّراثالإنساني الذّي دون فيها وحولها..، يسير روادها على ضفاف نهر تراث شفاهي يتجدّد ويتراكم مع الأيّام كأنّه تطبيق عملي لمقولة الفيلسوف اليوناني “إنّك لا تسبح في نفس النهر مرّتين”.
ولا يعرف كاتب السّطور إن كان ولعه بالمقاهي قد بدأ زمن رافق فيه جدّه وهو طفل إلى مقاه للوجهاء، حيث كان ارتياد المقاهي عيبا على الصّغار ممنوعا على الصّبية وغير مسموح للشّباب إلاّ بعيدا عن حيّهم الأصلي حيث يجلس الكبار من أفراد العائلة، أم أنّ ذلك الولع قد بدأ مع سنّ المراهقة وهو يطالع روايات الرّائع الجميل الأستاذ نجيب محفوظ إلى الحدّ الذّي جعله ينصت إلى صوت «قرقرة شيشة الأستاذ»، تنبعث من بين سطور رواياته التّي طافت معه أفكار ذهبيّة عبر «قهوة عرابي» و«الفيشاوي» و«قشتمر» وغيرها من مقاه حملت رواياته أو أحداثها أسماء بعضها.
ذلك العالم السّحري العجيب الذّي يمثّل من وجهة نظر كاتب السّطور أحد الأوجه المتعدّدة «للواقعيّة السحريّة» هو الذّي دفعه في ما بعد لكتابة حلقة تلفزيونيّة «لقناة النّيل الثّقافيّة» حول مقاهي القاهرة التّي تعدّ من أثرى وأطرف وأهمّ مقاهي العالم من دون أدنى مبالغة من قهوة «متاتيا» التّي عرفت رواد الفكر والبعث «كالأفغاني» و«محمّد عبده» و«سعد زغلول» و«زعماء ثورة سنة 1919» إلى مقهى «ستانبيلوس» ملتقى «يهود القاهرة» «والجاليات الأجنبيّة.. عبر مقهى الفتوة الشهير «عرابي» الذّي أجار «مأمور قسم الظّاهر» من بطش «حكمدار القاهرة» الإنجليزي وقوات الاحتلال.. ومقهى عرابي من المقاهي التّي اصطلح على تسميتها «مقاهي نجيب محفوظ» وهي مقاه ارتبطت برواياته أو بمسيرة حياته وفي ملّتي واعتقادي أنّ أروع تلك المقاهي وأقربها لأجواء «الواقعيّة السحريّة» هو مقهى حقيقي تحت مستوى سطح الأرض اختاره«نجيب محفوظ» لكي يكون ملتقى لطالب الحقوق «فهمي عبدالجواد» ابن السيّد «أحمدعبدالجواد» أحد أبطال ثلاثيّته الخالدة، ولا تخلو مقاهي القاهرة من طرافة وسحر فمن «قهوة بعرة» الشّهيرة التّي يؤمّها أشهر ممثّلي أدوار «الكومبارس» في السّينما المصريّة والتّي يلجأ إليها كافّة المخرجين لاختيار ما يلائم أعمالهم في السّينما والمسرح والتلفزيون، إلى «قهوة العيّانين» بشارع «القصر العيني» والتّي يتفاوض فيها طلاّب «كليّة الطب» مع المرضى لمعرفة دائهم ودوائهم منهم شخصيّا قبل أن يسألهم أستاذهم على ذات المرض في «الاختبارات العمليّة»، فضلا عن المقاهي الخاصّة «بالصمّ والبكم»، ومقاهي الكتّاب والفنّانين مثل «مقهى ومطعم إيزافيتش» ملتقى اليساريين والشّيوعيين والذّي كان أطرف ما في حكايته أنّ صاحبه «يوغسلافي» فار من الحكم الشّيوعي «لجوزيف بروس تيتو» آنذاك..، وكذلك مقهى «ريش» و«البستان» و«سوق الحميديّة» و«السكّريّة» وانضمت لقافلة مقاهي المثقّفين مؤخّرا مقاه مثل «أفتر ايت» و«التكعيبة»..، وحتّى المنحرفين من «نشّالين وشواذ» كان لهم نصيب من مقاهي القاهرة دون أن ننسى مقاهي عريقة في الإسكندرية كالقهوة التجارية وقهوة فاروق ومقاهي «بياصة العوالم»؛ ومقاهي شهيرة في باقي محافظات مصر التي تتكرر فيها خاصة في القاهرةوالإسكندرية وطنطا والمنصورة «قهوة الآلاتية» الخاصة بعازفي الموسيقى.
مقاه عربيّة
ومن مقاهي القاهرة والإسكندريّة وعموم الديّار المصريّة كانت نقطة الانطلاق إلى مقاه عربيّة رائعة في المشرق والمغرب..، وإذا كان المشرق قد نال نصيب الأسد في الاهتمام خاصّة في بيروت وبغداد ودمشق بعد القاهرة.. خاصّة مقهى «النوفرة» في دمشق الشّام بالقرب من الجامع الأموي المعادل الموضوعي «للفيشاوي» فى حي «الحسين» بالقاهرة..، فإنّ مقاهي المغرب العربي لم تحظ بالاهتمام الكافي على الرّغم من عراقتها خاصّة في تونس مهد ما أطلق عليه «الرّبيع العربي» حتّى إشعار آخر.
و لعلّ أهمّ تلك المقاهي هو «مقهى تحت السّور» بحي «باب سويقة» الذّي شهد نشأة أهمّ جماعة أدبيّة حملت ذات الاسم في أوائل القرن المنصرم وهي «جماعة تحت السّور» التّي تزعّمها الأديب والفنّان المتعدّد المواهب «علي الدّوعاجي» وانضوت تحت لوائها أسماء كبيرة مثل «مصطفى خريّف» و«محمود بيرم التّونسي» خلال فترة نفيه إلى تونس..، إلاّ أنّك تجد آراء متعدّدة في تحديد الموقع الحقيقي لمقهى تحت السّور الأصلي.. فهناك من يقول إنّه «مقهى الحاج علي» الحالي، وهناك من يزعم هدمه عند تحديث المنطقة، فيما أطلق آخرون اسم تحت السّور على مقاهيهم زاعمين أنّها المقهى الأصلي..، لكنّ «مقهى شمنططّو» الذّي يمثّل معقل بثّ الأغاني والموسيقى المشرقيّة من بداية القرن العشرين مازال باقيا على حاله في «حي باب الجديد» العريق وإن خفت صوت رسالته الفنيّة بعد أن أخنى عليه الدّهر وكذلك منافسه مقهى «الجمعية»..، فيما اختفى «مقهى المغرب» الشّهير الذّي كان يؤمّه ذات يوم كبار المثقّفين.
وظلّ «مقهى باريس» في شارع «الحبيب بورقيبة» في وسط العاصمة قابعا في مكانه في أهمّ شوارعها لكنّ رواده من الكتّاب والفنّانين العرب ومن شتّى بقاع الأرض انصرفوا عنه، حتّى أنّ مقاعده التّي خلت منهم تحنّ إلى أمسيات اختلط فيها شعر «عبد الرّحمن الأبنودي» بقصائد «محمود درويش»، وجدل «جابر عصفور» برؤى «محمود المسعدي» و«علي بن عياد» و«عزّالدّين المدني»، وسخريّة «سمير العيّادي» بمشاغبات المبدعين الشباب وأحلام «محمد إدريس» و«الفاضل الجزيري» وجماعة «المسرح الجديد» فيما كان مثقّف من طراز رفيع «كالشّاذلي القليبي» لا يملك ترف الانعتاق من دهاليز مسئوليّاته السّياسيّة لكي يعود من جديد إلى الآفاق الأرحب للثّقافة والفنون.
غاب من غاب عن مقهى باريس بين أمواج الحياة المتلاطمة..، ورحل من رحل إلى عالم اليقين، لكنّ رجع صدى أحاديثهم الحميمة مازال يلقي على المكان بعض هيبته التّي لا تتناسب مع رواده اليوم مؤكّدة أنّ «بضدّها تتميّز الأشياء» إيجابًا وسلبًا.
شموخ الصّفصاف وصبر الجمال
لمقهى الصّفصاف في ضاحية «المرسى» الرّاقية بالعاصمة التونسيّة سحر خاص وعراقة ربّما لا تجد لها مثيلا..، لن تستطيع أن تجد ذلك العبق في «مقهى الأتراك» بالمدينة العتيقة رغم آثار العزّ القديم البادية عليه، كما لن تجد ذلك في المقاهي العتيقة «بنهج الزيتونة»، ولا حتّى في مقهى «الشواشين» في قلب المدينة العربيّة، حيث يترامى إلى مسامع زائريها أنغام «المألوف» مع شدو عازف العود في السّهرات الرّمضانيّة.
– لا تخطئ العين التّي تزور المرسى لأول مرّة فخامة وبذخ تلك القصور والفيلات الضّخمة التّي سكنها ذات يوم «حكّام تونس من البايات» والحاشية المحيطة بهم وقلّة من الوجهاء والأثرياء كانت تلك الضّاحية قبلتها خاصّة في فصل الصّيف وعند اعتدال الطّقس، فيما كانت البورجوازيّة العليا والمتوسّطة من أبناء مدينة تونس ممّن يطلق عليهم مصطلح «البلديّة» يذهبون إلى «ضاحية المرسى» للنّزهة أو الاصطياف لماما، إلاّ أنّ أشهر تلك النّزهات بعد «التّمشية» على «كورنيش» المرسى هو تناول القهوة في ساعات «العصاري» في «مقهى الصّفصاف» قبل العودة إلى مدينة تونس للّحاق بصلاة المغرب أو العشاء، ولابدّ أن الرّحلة كانت أكثر رومانسيّة بالعربات التّي تجرّها الخيول منها في القطار.. خاصّة أنّها تتيح الاستمتاع أكثر بالمناظر التّي كانت أكثر سحرا خلال الطّريق وسط الخضرة وغابات قرطاج والآثار الرّومانيّة…
– تتضارب الأقوال عن عمر قهوة الصّفصاف، لكنّ أشجار الصّفصاف التّي تسكن باحتها يناهز عمر بعضها المائة عام بعقود وربّما احتلّت المكان قبل إنشاء المقهى الذّي يجاور قصر «الناصر باي» أو ما تبقّى من أطلاله التّي تشهد على اندثار جزء مهم من تاريخ البلاد دون أدنى التفاتة أو اهتمام من أحد.
– لابدّ أن تنجذب عينا الداّخل إلى «مقهى الصّفصاف» إلى البئر الذّي يكاد يتوسّط باحتها المظلّلة بالأشجار «وساقيته» التّي يديرها ذلك «الجمل» الصّبور على جهد رفع المياه في زمن مضى..، ولابدّ أنّه الآن أكثر صبرًا على مضايقات الزّائرين وإصرارهم على العبث معه قبل التقاط الصّور التّذكاريّة خاصّة عندما يحلّ اللّيل وتومض في عينيه أضواء «الفلاش» بينما هو صابر على جهد البلاء الذّي لحق به من بني البشر، وقديما قال الشّاعر الشعبي التونسي «مسكين يا جمل النّواعير.. بالهجر ضاقت خلوقه.. يسمع في الماء بوذنيه.. لا يشبحه ولا يذوقه»، كانت مهمّة «الجمل» آنذاك هي إدارة «السّواقي أو النّواعير»، أمّا اليوم فلابدّ له من الصّبر على مكارهالمداعبة الثّقيلة والتّصوير اللّيلي وما يستجدّ من أنانيّة البشر.
– تستمتع بظلّ الأشجار أو «برجولات» الباحة المنفتحة على النّسيم في فصلي الرّبيع والصيف وأنت تستمع إلى الموسيقى التّونسيّة الأصيلة تعزفها الفرقة التّي خصص لها «كشك للموسيقى» في صدر المكان، وفي فصل الشّتاء يمكنك الاحتماء من الرّياح والأمطار في الأجزاء الداخليّة المغلقة التّي تشبه «الأواوين» على جانبي المقهى، وإحداها إيوان مرتفع مغلق يبرز المستويات الثّلاثة التّي يتميّز بها المقهى والذّي تحول جزء من حديقة المستوى السّفلي لها إلى مطعم يقابله مسرح تقدّم عليه العروض الموسيقيّة خاصّة الإنشاد الدّيني في المهرجانات وشهر رمضان، وما أجمل أن يتناغم اللّحن الصّوفي مع درجة أخرى من السمو الرّوحي حين تعبر من فوق رؤوس الرواد أسراب الطّيور المهاجرة صيفا وشتاء كأنّها تذكّرك برحلة «الإيلاف» وهي تسبح بأجنحتها في سماء تونس الصّافية في اتّساق عجيب مع تلك الأنغام، وربّما رأيت أحد تلك الطّيور فوق سطح مطعم المقهى وقد أنهكه التّعب فتخلّف عن اللّحاق برفاقه فاستسلم لمصيره المجهول كمريد زاهد غريب قد تدركه يد المنون بعيدا عن وطنه تؤلمه نظرات الشّفقة العابرة أكثر ممّا تواسيه، إلاّ أنّ الحياة تسير ولا تتوقّف من أجل أحد أيّا كان فينصرف النّاس إلى التهام «البريك» التّقليدي الشّهي الذّي تشتهر به ضاحيتا «المرسى» و«حلق الوادي» محشوًا بالبصل والتونة والمقدونس والبيض الذّي كان يمكن أن يتحول «لو أكمل دورته المعهودة» إلى طائر مهاجر انتهى أمره وحيدًا غريبًا شريدًا فتذكّر أيّامه الخوالي فوق سطح مقهى الصّفصاف الذّي بقي صامدًا حتّى اليوم إلى جوار أطلال قصر «محمّد النّاصر باي» الذي دفع ثمن عشقه لتونس غاليا لكن من يتذكره أو يتذكر داره التي تداعت مثل قوى ذلك الطائرالوحيد الذي ينفطر قلبه غريبا بعيدًا عن الأهل والأحبة دون أن يشعر به أحد ممن امتلأت أفواههم وبطونهم مستظلين بآلامه.