حدائق الخريف(2006): فيلم فرنسي فائق السخرية والمدلول والطرافة
مهند النابلسي
كوميديا معبرة وتهريج سينمائي “رفيع المستوى”: خيبة الوزراء وعبثية الحياة “الحسناء” وجمالية التشرد “والاختفاء”…
*”فينسنت” هو وزير بروتوكيلي متنفذ، ويحتفظ ببعض الوسامة واللياقة البدنية وهو في منتصف العمر، حيث يمارس كالشباب رياضة الوقوف على الرأس بخفة ورشاقة،، كما أنه كأي فرنسي يعشق الطعام والنبيذ، أما عشيقته او زوجته “اوديلي” فهي ما زالت شابة وجميلة، كما انها جذابة وذكية وطموحة ومتطلبة، وتحب كثيرا الثياب الجميلة والمظاهر الباذخة، وتتميز بالنزق وقلة الاخلاص، فهي تتخلى عنه فورا بعد ان يفقد وظيفته العامة كوزير.
*اما الوزير الجديد “تيودور” المتعلق بامه المسنة المتحذلقة، فيقوم فور استلامه للوظيفة الجديدة بتغيير كل شيء في مكتب الوزارة وحتى الأرفف والأثاث واللوحات والتحف والمكتب والكرسي، وصولا للتلفون ومنافض السجائر…فهل سيبقى طويلا في منصبه الوزاري الجديد، ولكنه متفائل على اي حال.
*ولا يبدو “فينست” متأثر من فقدانه لوظيفته الهامة، بل يبدو وكانه بدأ بالعيش الحقيقي، ليتحول برغبته الى مجرد متشرد “ثري”، عاشق للحياة والأصدقاء والعلاقات والطعام والنبيذ، وحتى لنمط التشرد والتخلي عن معظم المقتنيات…وفي النهاية يلتقي فينسنت مع تيودور بعد ان يفقد بدوره وظيفته لنفس الأسباب والاحتجاجات التي لا نعرف الكثير عنها، ثم على غير المتوقع لا يشمت فيه بل يتعاطف معه، ويقول له بروح منفتحة وبلا كراهية: “تبدو مرهقا، دعنا نتناول كأسا معا”!
*هذا الفيلم الطريف هو من اخراج “اوتار اوسوليني” المخرج الجورجي الهارب للغرب، ومن انتاج 2006، وهو نفسه واضع السيناريو كما يقوم بدور أحد اصحاب البطل العجائز الشغوفين بتناول النبيذ، والفيلم من بطولة كل من سيفران بلانشيت، جيسنشي جاكيت، واوتار اوسليني بدور صديقه الوفي العجوز السكير ارنود، كما يقوم الممثل القدير ميشيل بيكولي بدور والدة البطل الثرية الطيبة ماري(وبدا وكأنه تقمص الدور ببراعة لافتة وباسلوب سلس بلا تصنع)، اما منهجية اوتار في الاخراج فهي شيقة وكوميدية وتحفل بالسخرية التلقائية، وتبدو كحلقة مغلقة، حيث تتكرر فيها الأحداث الطريفة مرارا بصورة متجددة لافتة، كما بمشاهد الفهد المحجوز في الحديقة، او بالطائر الغريب المنقار النادر المستأنس والمحجوز في قفص كبير، او بمشاهد مرافقة الوزير المستقيل لحاكم افريفي متبجح ومعاينة حالات صيد الغزلان، او باطلاق وصيد مجموعة من الخنازير البرية، حيث تتكرر هذه المشاهد مع الوزير الجديد ايضا، كما بدا الحاكم الأفريقي وكأنه ما زال يحتفظ بمحبته الخاصة للوزير المستقيل ربما لطيبته وتلقائيته، ونجد بالتوازي انه فيما تسيطر العشيقة المتطلبة على الوزير القديم، تسيطر عقدة الام على الوزير الجديد التائه، وهناك شخصية كوميدية لافتة تجسدت بشخص غريب االأطوار، طويل ومنفر المنظر، وهو بدا بمشاهد الاستهلال وهو يعاين تابوتا يناسبه، ثم نراه يعيش مع الأفريقيين المنبوذين الساكنين عنوة بقصر ام البطل المهجور، ونراه يواصل بمثابرة غريبة بالقاء المياه القذرة من فوق الشرفة على المارة ومن جملتهم الوزير المستقيل!
*يتحدث الشريط عن عبثية الحياة منذ اللقطات الاولى، حيث نرى اربعة اشخاص مختلفي الأحجام وهم يتناقشون فيما بينهم ومع صانع التوابيت المحترف، حول اهمية مطابقة التابوت لحجم صاحبه، ومنهم نفس الشخصية الطويلة النحيفة غريبة الأطوار (التي يتكرر ظهورها فيما بعد) ..ثم نرى الوزراء يقيمون عرض صيد مع الزعيم الأفريقي الزائر، ونراهم يخفقون بصيد الغزلان المنفلتة، كما الخنازير البرية الخارجة من اقفاصها، ثم نطلع على الروتين اليومي لعمل الوزير، الذي يبدأ باستقبال الشخصيات بروتوكوليا، ثم بلعب ورق الشدة وكثرة التواقيع، ومن مفارقات الفيلم اللافتة ان كلا الوزيرين يفقدان وظيفتهما بفضل احتدام الاحتجاجات والمظاهرات المناوئة لهم والتي لا نعرف سببها الواضح، سوى في لقطة عابرة حيث يقوم عمال مطرودين بالشماتة من الوزير الأول بعد ان فقد وظيفته.
*…ثم تظهر شخصيات طريفة مدمنة للكحول والنبيذ، مثل الكهنة المزيفين وصديقه العجوز الظريف أرنولد(نفسه المخرج اوتار) وأصدقاء آخرين، كما تظهر عاهرات فرنسيات وافريقيات متعاطفات، وتبدو جميع الشخصيات في هذا الشريط وكأنها تعرف بعضها البعض بشكل او بآخر، وقد بدا الممثل الفرنسي المخضرم”ميشيل بيكولي” منغمسا وحقيقيا بادائه لدور والدة الوزير “الثرية والطيبة والحكيمة”، عكس الصورة “الاستحواذية” التي ظهرت فيها والدة الوزير الجديد الشديد الارتباط بامه، كما بدا عشيق عشيقة الوزير الأول “عصبيا ونزقا وكوميديا” بطريقة ادائه الهيستيرية المتنفذة…
*الفيلم يعكس سخرية الحياة ومفارقاتها العجيبة، كما يكشف بيروقراطية الوزراء وسخافاتهم وبذخهم وتعاليهم أثناء تواجدهم بوظائفهم، ثم يكشف حقيقتهم وبساطتهم عندما يفقدون مناصبهم ويتحولون لاناس عاديين، بل ربما لأشخاص متواضعين ومشردين، عاشقين للصداقات والطعام و”عدم الالتزام” والنبيذ، طبعا يختلف الأمر هنا مع وزراء ما يسمى “العالم الثالث” الذين يحافظون على هيبتهم وتعاليهم وعلاقاتهم، ويقفزون لمناصب مفصلية هامة هنا وهناك، بل قد يعودون في تشكيلة وزارية جديدة وكأن النساء لم تلد عباقرة غيرهم، وبعضهم يتمادى في الغرور والاستعلاء وينتفخ، بل قد يتعالى على رفاق دربه وينكر معرفته المسبقة بهم، واذكر من خبرتي الطويلة في الصناعة ايام كنت اعمل مهندسا في صناعة الاسمنت، أن مهندسا وصوليا ضحك على رئيس مجلس الادارة “المؤقت آنذاك” وأوهمه بعشقه للعمل المتواصل الجدي وبولعه بالتفاصيل الدقيقة، وعندما اقتنع الرئيس الساذج به أخيرا عينه مديرا تنفيذيا في صناعة لا يفقه شيء فيها، وعندما تم تثبيته استعان بطاقم كامل من المهندسين والماليين و”دكاترة الجامعات” لكي يكتبوا له اطروحة الدكتوراة التي نالها من جامعة بريطانية مرموقة، ليتاجر بسمعته ومنصبه وشهادته “فيما بعد” ويصبح وزيرا للصناعة والتجارة ولأكثر من مرة …هكذا شتان بين وزرائهم “العاديين” البيروقرطيين التافهين والظريفين والمبذرين ثم المتواضعين عندما يفقدون وظائفهم، ووزرائنا “الأكارم المبجلين” المغرورين االمتعالين دوما والمتنفذين وأصحاب العلاقات، وربما أحيانا “الفاسدين والمستغلين لمناصبهم”، ولله في خلقه شؤون!
*قدم المخرج “اوتار اوسياني” فيلم بنكهة طريفة مشوقة، مع بعض السمات السيريالية اللافتة حول ما يحدث عندما نخرج للحياة بلا مناصب وعمل، فالوزير الأول المستقيل كان يملك صلاحيات واسعة وسيارة رسمية فخمة ومكتب كبير، وكان يملك عشيقة جميلة نزقة متطلبة، وبعد ان يطرد من وظيفته ويقدم استقالته، ينتقل لمتع التشرد والشوارع والأصدقاء والنبيذ و”اللاالتزام” والتقاط النساء ، وبدا وجوده بعد التقاعد لا يقل اهمية عن عمله كوزير بروتوكولي “سخيف”، وبدا وكأنه يستمتع تماما بحالته كمشرد “ثري”، وقد تعود على التجول في المنتزهات والشوارع والمقاهي وبيوت أصدقائه ومنزل والدته المهجور، وهناك مشاهد جميلة غريبة تحدث في الهواء الطلق، مستوحاة من رسومات الفنان الانطباعي الشهير “مانيه”، ولا تفرق بين حالات العمل واللعب، وما هذا الفيلم سوى تصوير حيوي جذاب لمهازل حياتية عملية، وعبارة عن “سكتشات هزلية” مترابطة مع حوارات ارتجالية، فالمخرج يقتبس من سيريالية “بونويل” واحيانا من واقعية “فيلليتي”…الممثل “سيفرا بلانشيت” يتقن بعفوية التهريج الطريف المعبر ضمن سيناريو غامض، ويقف على رأسه اكثر من اللازم، ونشعر وكأننا برفقته عندما يزور البيت الريفي عند والدته العجوز الطيبة (أبدع ميشيل بيكولي بتقمص الشخصية بدون اسفاف وتهريج)، التي تتماهى نوعا ما بحركاتها مع الملكة اليزابيت من حيث ارتدائها للاحذية والحقائب وبطريقة تسريحها للشعر الأبيض ومشيتها، ولكنها بالتأكيد فهي تختلف كثيرا بخفة الدم والظل والطرافة والتلقائية والتواضع الطبيعي.
مهند النابلسي/باحث وناقد سينمائي/ mman2005@yahoo.com