حرب الجَلَد والتحمل بين إيران وأمريكا – عبد الستار قاسم
تميل موازين القوى بين أمريكا وإيران بصورة كبيرة لصالح الولايات المتحدة وذلك على مختلف المستويات العسكرية والأمنية والاقتصادية، ولا يوجد على المستوى العالمي من يتحدى هذه الحقيقة أو ينكرها. لدى الولايات المتحدة من القوى العسكرية ما يكفي لإلحاق أضرار جسيمة بإيران سواء على مستوى المصانع أو المفاعلات أو المزارع أو الأسلحة ومخازنها أو البنى التحتية ، وبمختلف المنشآت الاقتصادية والمدنية والعلمية والثقافية، الخ. لكن هذا لا يعني أن إيران غير قادرة على إلحاق الأذى بالولايات المتحدة. إيران قادرة على ضرب أهداف بحرية أمريكية في الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي، وقادرة على تدمير قواعد عسكرية أمريكية، وبإمكانها إن كانت قد أعدت العدة مسبقا أن تستولي على قواعد عسكرية أمريكية في المنطقة وأسر جنود أمريكيين. كما أن بإمكانها إسقاط صواريخ وطائرات أمريكية وأسر طيارين. وهي قادرة على ضرب إسرائيل بالتعاون مع حزب الله، وإعادة إسرائيل سنوات كثيرة إلى الوراء إن لم يقم حزب الله باقتحام الجليل.
أمريكا واثقة من قدراتها التدميرية، لكن السؤال الذي يحوم حول رأسها: هل هي مستعدة لتحمل الخسائر التي ستلحق بها مقابل تدمير مفاعل آراك الإيراني؟ وأين تكمن مصلحة أمريكا في ذلك ومصلحة ترامب الذي لا تفارق عينه مصالحه الانتخابية؟ والسؤال الآخر الذي يوازي الأول بالأهمية: هل التدمير سيجر إيران إلى الاستسلام أم أن النظام الإيراني سيصمد وسيعيد بناء مختلف الأوضاع؟ صمود النظام الإيراني سيشكل هزيمة للولايات المتحدة، وهذا ما من شأنه أن يقوي شوكة إيران في المنطقة ويجعلها أكثر قدرة على استقطاب الطاقات لتقليص نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وبذلك تكون أمريكا قد استخدمت قواها العسكرية ضد نفسها.
ولهذا تجنح أمريكا بقوة نحو ممارسة الضغوط غير العسكرية على إيران عسى أن يؤدي ذلك إلى انهيار النظام من الداخل. دائما تراهن الدول الاستعمارية على سياسات تؤلب الشعوب ضد النظام السياسي القائم فتخرج غاضبة حتى إسقاط النظام. هكذا فعلت إسرائيل وأعوانها وما زالوا يفعلون ضد قطاع غزة. لقد راهنوا على رفض الشعب الفلسطيني للمقاومة في القطاع، وحققوا بعض النجاح التأليبي، لكن الصمود بقي العنوان الأشمل في غزة وبقيت المقاومة قائمة باحتضان شعبي. لم يكتفوا في غزة بالضغط الاقتصادي والمالي والحصار، بل شنوا حروبا متتالية ضد القطاع دعما لسياسات الحصار وفشلوا.
ذات نظرية الضغط تجري ممارستها الآن ضد إيران، لكنهم على ما يبدو لا يأخذون بعين الاعتبار قضية هامة في سياسة عض الأصابع وهي قدرة الشعوب على التحمل. عادة، تتحمل الشعوب الواقعة تحت الاستعمار أو الاحتلال أو التي تتعرض لحرب ضغط أكثر بكثير مما
تتحمل شعوب الدول المعتدية. غالبا تعيش شعوب الدول المعتدية حياة أكثر استرخاء وبحبوحة من حياة الشعوب الواقعة تحت الظلم، وتتمكن الشعوب المعتدى عليها من امتصاص الآلام والأحزان المترتبة على العدوان، لكن شعوب المعتدين لا تتحمل النزر اليسير من الخسائر، وسرعان ما تتحرك ضد حكوماتها لإنهاء المعاناة المترتبة على قتل جنود وخسائر مالية. أي أن الشعب الإيراني قادر على امتصاص أحمال وأعباء وأثقال كبيرة وأكبر بكثير مما يمكن أن يتحمله الأمريكيون. الإيرانيون يتحملون تدمير منشآت ومصانع ومزارع، وفورا ينطلقون مؤكدين قدرتهم وإصرارهم على إعادة البناء، في حين أن الشعب الأمريكي قد لا يتحمل إغراق سفينة حربية أمريكية واحدة وهي بعيدة آلاف الكيلومترات عن الداخل الأمريكي.
وهذا ينطبق على ميدان المعركة. هناك فارق هائل بين جندي يقاتل في سبيل الله ويعي أن الشهادة مدخله إلى الجنة، وجندي آخر مقابله يفكر في ليالي البار والصديقات. ذاك يقاتل وهو يعي أن الموت يقربه من الراحة والطمأنينة فيقبل على القتال بكل قوة وشجاعة، وذاك يقاتل لأن القانون يفرض عليه ذلك فيمسك البندقية بأيد ترتجف خوفا من الموت.
من تجربة الشعب الفلسطيني وتجارب أمم أخرى مثل كوبا وفياتنام وكوريا وفنزويلا الآن، فشلت الدول الاستعمارية في كسر إرادة الشعوب، وبقيت الشعوب سندا قويا لقياداتها على الرغم من وجود عدد من المحبطين والمثبطين الراغبين بالاستسلام. في إيران هناك من يتمنى سقوط النظام وانتصار الولايات المتحدة، لكن نسبتهم قليلة ولا يشكلون قوة ظاهرة في الساحة الإيرانية، وما نعرفه الآن أن الشعب الإيراني موحد وله موقف واضح وواحد من سياسات الولايات المتحدة. لكن من مسؤولية حكومة الجمهورية الإسلامية أن تتبع سياسات من شأنها تعزيز التلاحم الداخلي ورفع مستوى ثقة الشعب
بها وهزّ مواقف الأعداء وتفتيتها. وبهذا الصدد، أرى التالي:
أولا: مطلوب من الحكومة الإيرانية إقامة العدل بين الناس، وأن يسهر مسؤولوها وموظفوها على راحة الناس. ومحاربة الفساد بكل قوة هو الخطوة الأولى نحو إقامة العدل. من الواجب والضروري والحيوي أن تعيد إيران تقييم سياساتها ضد الفساد، وأن تغلق كل الثغرات القانونية والأمنية التي ينفذ من خلالها الفاسدون. وعليها أن تعيد النظر بسياساتها الخاصة بالتوزيع: توزيع الحظوظ المادية والمعنوية. حسن توزيع الحظوظ هو المفتاح نحو شعب متكامل متكاتف متضامن يشد أفراده بعضهم بعضا. إن كانت إيران قد أخلت بمعايير حسن التوزيع بخاصة فيما ينصف المعارضة ويعدل لها، حان الآن الوقت لتصحيح الأخطاء لكي تتمكن من جمع الشعب جميعه حولها. قوة إيران لا تنبع من الصواريخ والطائرات والسفن الحربية، وإنما تنبع من شعبها.
كما هو الحال لدى كل الدول، الدولة قوية بشعبها، والدولة التي تعجز عن حشد شعبها خلفها لا تتمكن من مواجهة التحديات مهما صغرت. يجب التركيز على وحدة الشعب الإيراني، ويجب إعطاء عناية مكثفة وسريعة للفئات التي شعرت بالظلم أو تشعر به الآن. يجب إعطاء المعارضة فرصتها للعمل مع الجميع من أجل صمود إيران ومنعتها وتثبيت أقدامها. الخطابات الرنانة لا تكفي أبدا، وقد يكون مفعولها سلبيا، ويجب أن تكون هناك خطوات عملية. أنا لا أعلم كيف تتطور إدارة الدولة الإيرانية في ظل الأزمات، لكن يبقى من المهم عدم إقصاء أحد عن المشاركة والمساهمة في اتخاذ القرار. ومن أهمل الناس أهملوه، ومن أهمله الناس أضعفوه.
ثانيا: من الضروري العمل على تفتيت مواقف الجهات التي يمكن أن تكون سندا لأمريكا ضد إيران. من المهم التركيز على المواقف الأوروبية واتباع سياسات يمكن أن تفتت مواقف الأوروبيين وتبعد التأثير البريطاني عن المحيط الأوروبي. إيران تعرف جيدا مصالح كل دولة أوروبية، وبإمكانها الضرب على وتر المصالح لإثارة الشكوك بين الأوروبيين وتمزيق موقفهم إن كان سيتوحد ضد إيران لصالح أمريكا. ومطلوب ذات الشيء على الساحة العربية. حتى الآن لم نر نشاطا إيرانيا على الساحة العربية لاستقطاب مواقف ضد العدوان الأمريكي. من المفروض التوجه نحو العراق والجزائر وتونس وغيرها من الدول. طبعا نعي جيدا أن الخير المرجو من العرب قليل، لكن صوتا معك أفضل من صوت ضدك. والتركيز يجب أن يكون على دول الخليج بهدف عزل السعودية وإشعارها بالخطر الكبير الذي يتهدد الأسرة الحاكمة إما من خلال أعمال مباشرة سرية أو من خلال الهجمات التي يقوم بها الحوثيون. السعوديون لا يكترثون بعزة أو كرامة وإنما يهتمون فقط باستمرار حكم الأسرة الحاكمة.
من الضروري طمأنة الأنظمة العربية غير المنخرطة بالعدوان، واستفزاز أعصاب الأنظمة الداعمة للعدوان.
ثالثا: صناعة انطباعات على الساحة الدولية بأن روسيا والصين ستدخلان منطقة الخليج وستكون لهما محطات تزويدية وصيانة على الشواطئ الإيرانية، وذلك لدفع الأمريكيين وأعوانهم في المنطقة إلى التفكير بالتطورات المستقبلية والأضرار التي يمكن أن تلحق بهم. وإيصال رسالة واضحة للأوروبيين بأن نصيب شركاتهم في الاستثمار في إيران سيتقلص لصالح الشركات الروسية والصينية والتركية. الورقة الاقتصادية والأمنية مهمة ويجب استحضارها في هذه الحرب.
رابعا: مطلوب أن تشعر إسرائيل أن وجودها أصبح مهددا، وأن الصواريخ ستنهال عليها من كل مكان ومن كل اتجاه. وربما من المفيد البحث مع المقاومة العراقية بهذا الشأن وتدبير أمر يدفع إسرائيل إلى التخفيف من غلوائها التحريضي ضد إيران. من المفيد أن تتلقى إسرائيل درسا يكبح جماحها وجماح الولايات المتحدة، وهذا درس يجب أن يكون متعلقا بوجودها لا بمصالحها الاقتصادية. ومن المفيد أن تقوم كل حركات المقاومة في المنطقة بتوجيه صواريخها نحو الكيان الصهيوني في إشارة للاستعداد لتوجيه ضربات مضادة.
خامسا: النقطة الخامسة موجودة ممارسة في العقلية الإيرانية وهي الاعتماد على الذات. نظرية الاعتماد على الذات هي المخرج لكل الشعوب التائهة التي تعاني من الاضطهاد والمؤامرات، ومن المفروض تحويلها إلى ثقافة وطنية وتتبناها كل المناهج التعليمية والتربوية والإعلامية منذ نعومة الأظفار حتى الممات. الشعب الذي لا يعتمد على نفسه لا يملك إرادة حرة، وهو دائما عرضة لاستعباد الآخرين.
في المحصلة، أمريكا لن تنتصر إذا صمد الشعب الإيراني. لا يمكن لأمريكا أن تنتصر في حال صمود الشعب الإيراني إلا إذا خاضت حربا برية الأمر غير الوارد بتاتا. أمريكا خسرت برا في أفغانستان والعراق، وهي ليست على استعداد لخوض تجارب عسكرية فاشلة من جديد. الطيران لا يحقق نصرا ولا صواريخ توما هوك، وإنما الجيوش الزاحفة هي التي تحققه. الطيران يحقق تدميران ويقتل الناس لكنه لا يقيم متراسا على الأرض. الحرب البرية ليست جزءا من التفكير الأمريكي فيما يتعلق بإيران.