حرب حزيران العدوانية وتهويد القدس الشرقية – د. غازي حسين
أشعلت «إسرائيل» في الخامس من حزيران عام 1967 حرب حزيران العدوانية بالتنسيق مع الادارة الامريكية لتدمير القوات والمنجزات والقضاء على الوحدة العربية والأنظمة الوطنية وتجويع وخنق الشعوب وكسر الارادات الرسمية واحتلال القدس الشرقية وتهويدها وتهويد المقدسات العربية فيها الإسلامية منها والمسيحية وفلسطين وسيناء والجولان وعرقلة التنمية والتطور والاستقرار، ورسم خريطة جديدة للمنطقة أسوأ من خريطة سايكس ـ بيكو ولفرض الهيمنتين الأمريكية والإسرائيلية من خلال مشروع الشرق الأوسط الجديد وإقامة «إسرائيل» العظمى الاقتصادية لتحقيق الخرافات والأكاذيب والأطماع التوراتية والتلمودية في فلسطين والوطن العربي لتصفية قضية فلسطين وحل أزماتها المزمنة ووإقامة «إسرائيل» العظمى الاقتصادية كقائد ومركز للشرق الاوسط الجديد.
احتلت «إسرائيل» في السابع من حزيران القدس الشرقية وكانت آنذاك جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية وعاصمتها الثانية، وبدأت على الفور بحملات إرهابية وحشية بحق المقدسيين في الشوارع والمنازل والجوامع والكنائس ولا تزال مستمرة حتى اليوم لبث الخوف والذعر في صفوف المقدسيين وترحيلهم وسلب أراضيهم ومنازلهم وإقامة الأحياء والمستعمرات اليهودية فوقها وعلى أنقاضها ولتهويد المدينة التي أسسها العرب قبل ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام.
وطردت على الفور عدداً من القادة السياسيين والدينيين إلى الأردن، واستخدمت القوات «الإسرائيلية» الغازية في عدوانها على المدينة العربية المقدسة مدينة الإسراء والمعراج الأساليب نفسها التي استخدمتها العصابات الإرهابية اليهودية المسلحة كالغاناه وشتيرن والأرغون في المجازر الجماعية التي ارتكبها عشية احتلال الشطر الغربي من المقدس عام 1948 حيث أكد روحي الخطيب أمين العاصمة “أن القوات «الإسرائيلية» قد أمطرت المدينة وسكانها بوابل من القصف المتواصل بالقنابل المحرقة أرضاً وجواً وزخات من رصاص الرشاشات حيث استشهد حوالي (300) من المقدسيين بينهم عائلات بكاملها داخل المنازل وبعضهم في الطرقات والأزقة”(1).
وكانت تفرض منع التجول لساعات طويلة بل وأيام وأسابيع تقوم خلالها باعتقال العرب وتعذيبهم وتضييق الخناق عليهم مما زاد من موجات النزوح عن المدينة المقدسة لتغيير وجهها الديمغرافي.
بدأت الجرافات «الإسرائيلية» بتغيير معالم المدينة العربية المحتلة منذ الساعات الأولى للاحتلال لتحقيق الاستعمار الاستيطاني والتطهير العرقي وجعل المدينة العربية بشطريها المحتلين عاصمة لأكبر غيتو يهودي استعماري وإرهابي وعنصري في قلب المنطقة العربية الإسلامية.
وشرعت بهدم حي المغاربة وتحويله إلى ساحة كبيرة أمام حائط المبكى، وأزالت بوابة مندلباوم التي كانت تفصل شطري المدينة.
وأخذت بإصدار القرارات والأوامر الإدارية لوضع المدينة العربية المحتلة تحت السيادة «الإسرائيلية».
فأصدرت في 11/6/1967 قراراً ضمت فيه الضفة الغربية بما فيها القدس، كما أصدرت الكنيست ووزير داخلية في 27 و28/6/1967 عدة قرارات جعلت القدس الشرقية جزءاً لا يتجزأ من القدس الغربية المحتلة عام 1948(2).
وبتاريخ 29/6/1967 قام الحاكم العسكري «الإسرائيلي» للضفة الغربية بتسليم روحي الخطيب أمين العاصمة أمراً عسكرياً نص على حل مجلس أمانة القدس المنتخب ديمقراطياً وحظر نشاطه وجاء فيه: «باسم جيش الدفاع» أعلن للسيد روحي الخطيب ولأعضاء المجلس البلدي (أمانة العاصمة) في القدس حل المجلس البلدي(3).
وبموجب المرسوم الذي أصدرته حكومة الاحتلال في 28/6/1967 بشأن سريان القانون «الإسرائيلي» على القدس الشرقية ومناطق أخرى مساحتها (70) ألف دونم تمتد من صور باهر في الجنوب إلى مطار قلنديا في الشمال ضمت هذه المناطق للقدس الشرقية المحتلة لتوسيع مساحتها، وصادق الكنيست المقام على أرض فلسطينية محتلة عام 1948 ملكية وقفية وخاصة على تعديل قانون البلديات تمهيداً لضم القدس الشرقية إلى صلاحيات القدس الغربية المحتلة.
وبلغ الخبث والمكر والخداع والتضليل والكذب اليهودي حداً وافق فيه الكنيست على تشريع آخر وهو قانون المحافظة على الأماكن المقدسة، ونص في مادته الأولى: «تحفظ الأماكن المقدسة من انتهاك حرمتها ومن كل مساس آخر بها ومن أي شيء قد يمس بحرية وصول أبناء الأديان إلى الأماكن التي يقدسونها أو بمشاعرهم تجاه تلك الأماكن»(4).
أراد المحتل «الإسرائيلي» من هذا القانون تضليل العالم وخداعه والإيحاء بأن دولة الاحتلال تعمل على حماية الأماكن المقدسة ولكن الهدف الحقيقي منه السماح لقطعان المستعمرين اليهود من الدخول إلى باحات المسجد الأقصى تمهيداً للاستيلاء عليها ومصادرتها وتهويدها، وهذا ما ظهر بجلاء فيما بعد.
ويعني أيضاً المحافظة على الوضع غير الشرعي الذي خلقته في حائط البراق (أي ما تسميه كذباً وبهتاناً بحائط المبكى) والمحافظة على تقسيم المسجد الإبراهيمي في الخليل.
ووصل الكذب والتضليل والحقارة «الإسرائيلية» حداً وقف فيه أبا إيبان وزير خارجية العدو أمام الأمم المتحدة يقول: «إن ما حدث في القدس الشرقية لا يتعدى أموراً عادية تتضمن تزويد القسم الثاني من المدينة بالماء والكهرباء والمجاري وكل ما هو صحي ومفيد، ولهذا فإنه لا يعرف أسباب هذا الضجيج الذي لا مبرر له»(5).
وألغت سلطات الاحتلال في 30/6/1967 القوانين والأنظمة الأردنية واستعاضت عنها بالقوانين والأنظمة «الإسرائيلية» وفرضت حكماً عسكرياً أخضعت المقدسيين إلى إرهابه وعنصريته لإكمال تهويد القدس العربية بشطريها المحتلين.
تقدمت الحكومة الأردنية بتاريخ 4 تموز 1967 بشكوى إلى الأمم المتحدة ضد الإجراءات التي اتخذتها «إسرائيل» في القدس.
فاتخذت الجمعية العامة في 14 تموز 1967 قراراً اعتبرت بموجبه جميع إجراءات «إسرائيل» باطلة، وطالبت بإلغائها والعدول عن اتخاذ أي عمل من شأنه تغيير الوضع في القدس المحتلة.
وبلغ تمرد «إسرائيل» على قرارات الأمم المتحدة حداً وقف فيه وزير خارجيتها أمام المنظمة الدولية يقول: «إنه حتى لو صوتت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ضد إجراءات ضم القدس فإن «إسرائيل» لن تتزحزح عن قراراتها أو تلغي هذه الإجراءات»، ووعدت «إسرائيل» الأمم المتحدة بالعمل على رفاهية الفلسطينيين ورفع مستوى حياتهم المعيشي إلى مستوى الحياة السائد في «إسرائيل»، ولكن الواقع أثبت للعيان أن اليهود أساتذة كبار في فن الكذب، وأن «إسرائيل» تفوقت على ألمانيا النازية في الوحشية والأطماع الاستعمارية وفي الخداع والكذب واحتقار مبادئ القانون الدولي والعهود والمواثيق الدولية.
واستمرت الأمم المتحدة في موقفها الرافض لتهويد القدس العربية المحتلة فاتخذ مجلس الأمن الدولي في 21 أيار 1968 القرار رقم 253 أكد فيه أن الاستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري أمر غير مقبول، ويأسف لعدم امتثال «إسرائيل» لقرارات الجمعية العامة، ويعتبر أن الإجراءات والأعمال التشريعية والإدارية التي قامت بها «إسرائيل» ومنها نزع ملكية الأراضي والممتلكات التي تهدف إلى تغيير الوضع القانوني في القدس إجراءات وأعمال باطلة، وطلب مجلس الأمن في قراره المذكور من «إسرائيل» أن تلغي جميع الإجراءات التي اتخذتها، والامتناع عن اتخاذ أي إجراء يهدف إلى تغيير الوضع في القدس المحتلة.
ونظراً لهيمنة اللوبيات اليهودية على رؤساء الولايات المتحدة والكونغرس الأمريكي أعلنت «إسرائيل» في الجلسة نفسها الذي اتخذ فيها القرار أنها لن تنفذه، وقررت في 28 أيار أي بعد أسبوع من اتخاذ مجلس الأمن نقل القيادة المركزية للجيش الإقليمي وقيادة الشرطة ومكاتب البريد والعمل إلى القدس المحتلة إمعاناً منها في التمرد على قرارات الشرعية الدولية، وذلك بسبب التأييد الأمريكي المطلق لاحتلال «إسرائيل» للأراضي الفلسطينية والعربية وتهويدها لمدينة الإسراء والمعراج وأولي القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
وجاءت محاولة «إسرائيل» إحراق المسجد الأقصى المبارك في 21 آب 1969 لتظهر بجلاء تصميم «إسرائيل» على بناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.
وعلى أثر محاولة «إسرائيل» إحراق المسجد الأقصى اتخذ مجلس الأمن القرار رقم 271 في 15 أيلول 1969 عبّر فيه عن الحزن لما لحق بالمسجد الأقصى من الحريق المتعمد والخسارة التي لحقت بالثقافة الإنسانية، وأكد المجلس على جميع قراراته وقرارات الجمعية العامة وعلى عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري، وطالب «إسرائيل» الامتناع عن خرق القرارات السابقة وإبطال جميع الإجراءات والأعمال التي اتخذتها لتغيير وضع القدس.
وعاد مجلس الأمن واتخذ القرار 298 في 25 أيلول 1971 أكد فيه على أن جميع الأعمال والإجراءات التي اتخذتها «إسرائيل» لتغيير وضع القدس ملغاة ولا تستند إلى شرعية قانونية، ودعاها إلى إلغائها وعدم اتخاذ خطوات أخرى في القدس المحتلة. وشجع الموقف الأمريكي المنحاز انحيازاً أعمى لتهويد القدس، وتخاذل الموقفين العربي والدولي وهزالة الموقف الفلسطيني على تمرد وعصيان «إسرائيل» لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية . وأصبحت لا تكترث بالرفض الفلسطيني والإسلامي والعالمي وعلى الرغم من أن قرارات المنظمة الدولية تعتبر أن القدس الشرقية مدينة فلسطينية محتلة وأن جميع الإجراءات «الإسرائيلية» فيها غير شرعية وملغاة وباطلة، وما بني على باطل فهو باطل مهما طال الزمن.
المصادر:
1 ـ الموسوعة الفلسطينية، روحي الخطيب، الجزء الثاني، بيروت 1990، ص874.
2 ـ مجلة شؤون فلسطينية، العدد 106، بيروت، أيلول 1980، ص15.
3 ـ مجلة شؤون عربية، العدد 40، القاهرة 1984، ص7.
4 ـ مجلة شؤون فلسطينية، العدد 106، أيلول 1980، ص16.
5 ـ مجلة شؤون عربية، العدد 40 كانون الأول 1984، ص8.