حركة فتح :شرعية وديمومة الفكرة وتعثر التنظيم والممارسة – د. ابراهيم ابراش
مقدمة
ليس من السهل الكتابة عن حركة تحرر بعد نصف قرن من انطلاقتها ، وخصوصا إن لم تنجز هذه الحركة مهمة التحرير التي انطلقت من أجلها، وسيكون الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لحالة كحالة فتح التي تعيش وتعيش معها القضية الوطنية أوضاعا صعبا . نعم ، من الظلم وخارج إطار ومنطق التحليل العلمي محاسبة حركة فتح انطلاقا من إنجازها لهدف تحرير فلسطين وقيام الدولة أو عدم إنجازه ، أو تحميلها لوحدها المسؤولية عما آلت إليه الأمور ، لأنها منذ انطلاقتها لم تقل بأنها وحدها ستحرر فلسطين ، ولأنها ليست الفاعل الوحيد في الساحة الفلسطينية ، كما أن الفلسطينيين ليسوا اللاعبين الوحيدين فيما يخص القضية الفلسطينية حتى وإن كانوا أصحاب القضية .
ومع ذلك ، ولأن حركة فتح على رأس النظام السياسي الفلسطيني ، سواء كان منظمة التحرير أو السلطة الوطنية ، ولأن رئيسها نفسه رئيس منظمة التحرير والسلطة ، ولأنها تحتكر الفكرة لوطنية الفلسطينية ، ومؤسسة المشروع الوطني الحديث وقائدته … فمسؤوليتها أكبر من مسؤولية الآخرين ، والرهان عليها أكبر وأهم من رهان الشعب على الآخرين من أحزاب وحركات فلسطينية أو على أصحاب المحاور والمشاريع العربية والإقليمية .
في الذكرى الخمسين لانطلاقة حركة فتح لا يجوز أن يقتصر الأمر على إقامة مهرجان مهما كان متميزا في بهرجته ، كما يجب أن لا يقتصر هدف المؤتمر السابع على شرعنة ما هو قائم ، بل يحتاج الأمر لمراجعة استراتيجية شاملة لكل أمور الحركة في الداخل وفي الشتات. نعم مطلوب مراجعة فكرية خارج صندوق استحقاقات وحسابات اللحظة الراهنة المأرومة والملتبسة . مراجعة خارج حسابات السلطة ومنافعها واستحقاقاتها ، وخارج حسابات التسابق على المواقع والمناصب في التنظيم ، وخارج حسابات الانقسام وتداعياته ، وخارج حسابات التسوية السياسية ومآلها.
لأن الذكرى الخمسين تتزامن مع استحقاق عقد المؤتمر السابع للحركة ، نتمنى أن يقوم المؤتمر بهذه المراجعة الاستراتيجية التي ستكون أهم من تدوير الأشخاص في المواقع القيادية ، لأن تغيير بعض الأشخاص في ظل نفس ضبابية الرؤية وعدم الحسم في الخلافات الداخلية لن يساعد على استنهاض حركة فتح لتقوم بدورها الريادي.
هذه المراجعة الاستراتيجية تؤسس على حقائق أهمها أن فلسطين ما زالت تحت الاحتلال وحتى الاعتراف بدولة فلسطين من عديد من دول العالم وحتى من الأمم المتحدة لن يغير من هذه الحقيقية شيئا ، كما أن حركة فتح كحركة تحرر وطني وجِدت قبل وجود السلطة الوطنية وقبل الانقسام .
في بحثنا هذا سنقوم بمقاربة ومراجعة استراتيجية لحركة فتح ليس من باب النقد الذاتي فقط ، بل أيضا من باب التأكيد على أن المراجعة النقدية هي المدخل لتلمس مواطن الخلل في مسيرة امتدت لنصف قرن ، حتى يتم تدارك ما وقع من تجاوزات وتصويب مسار الحركة لتستكمل مسيرتها ودورها الوطني سواء كحركة تحرر وطني أو كحزب حاكم بعد قيام الدولة الفلسطينية .
سنقارب الموضوع من خلال المحاور التالية :-
المحور الأول : حركة فتح كضرورة وطنية
المحور الثاني : قضايا استراتيجية تحتاج لتفكير مغاير
المحور الثالث : المؤتمر السابع وتحدي استعادة القرار الوطني
المحور الاول
حركة فتح كضرورة وطنية
أولا : سر تميز فتح عن بقية الأحزاب الأخرى
برغم أن كل أخطاء وخلل وفساد مرحلة ما بعد أوسلو تُحسب على حركة فتح ، فيقال سلطة فتح وحكومة فتح وأجهزة أمن فتح الخ ، إلا أن غالبية أعضاء الحكومة ، ومستشاري رئيس الوزراء بل ومستشاري الرئيس أبو مازن ، والقائمون على إدارة أهم مؤسسات المجتمع المدني ، والمؤسسات الإعلامية ورؤساء الجامعات … ليسوا من حركة فتح ، و تنظيم فتح يعتاش تطفلا على أموال السلطة ، الأمر الذي أساء كثيرا لحركة فتح وجعلها كشاهد زور على ما يجري .[2]
ومع ذلك فإن حركة فتح ما زالت محل رهان الشعب لتحقيق أهدافه الوطنية لعدة اعتبارات :-
1- لأن حركة فتح ما زالت ترفع راية الوطنية الفلسطينية : هوية وتاريخا وكيانا سياسيا ، وما زالت تناضل سياسيا لتثبيت الدولة الفلسطينية المستقلة ولو على جزء من أرض فلسطين بما لا يتعارض مع بيان استقلال الدولة في الجزائر 1988.
2- لأن فتح وليس غيرها من التنظيمات الأيديولوجية ، تمثل النقيض الرئيس لإسرائيل ومشروعها الصهيوني ، وإسرائيل تدرك جيدا أن نقيض مشروعها الصهيوني هو المشروع الوطني ، ومن يحمل هذا المشروع ويمثله حتى الآن حركة فتح وليس أية جماعة فلسطينية أخرى، فلا قيمة لمنظمة التحرير –مع كامل التقدير لكل القوى السياسية المنضوية فيها- بدون حركة فتح .
3- بالرغم من وجود خلافات داخل حركة فتح ، إلا أنها ما زالت الفصيل الأكبر والأكثر تماسكا. حيث إن قوى اليسار لوحدها لا تمثل المشروع الوطني لاعتبارات إيديولوجية ولاعتبارات موضوعية واقعية لها علاقة بتشرذمها ومحدودية امتدادها الجماهيري ، وجماعات الإسلام السياسي في فلسطين لا تحمل مشروعا وطنيا ولا تعبر عن البعد والانتماء الوطني ، كما أنها موجة خارجية هبت على الحالة الفلسطينية ، حتى وإن كانت موجة قوية تبقى موجة عابرة ومآلها بات واضحا بعد فوضى ما يسمى بالربيع العربي ،إلا إذا استدركت جماعات الإسلام السياسي الفلسطينية الأمر ووطنت أيديولوجيتها .
نعم ، كثيرون راهنوا على نهاية حركة فتح بعد انتخابات 2006 ، إلا أن الواقع أثبت فشل كل الرهانات ، فحركة حماس بعد نشوة النصر السياسي في الانتخابات ونشوة الانتصار الدموي بعد السيطرة على قطاع غزة وصلت لطريق مسدود ولفشل معمم : فشلّ في استراتيجية المقاومة ، وفشلّ اقتصادي وإداري وسياسي في إدارة قطاع غزة ، وفشلّ في التحالفات الخارجية ، والأهم من ذلك فشل في التعبير عن الوطنية الفلسطينية وفي تمثيل الكل الفلسطيني ، بالرغم من الفرصة التاريخية التي مُنحت لها بعد الانتخابات . وقوى اليسار وبالرغم من دورها الوطني تاريخيا إلا أنها بقيت تدور في حلقة مفرغة ولم تستطع أن تزيد من رصيدها الشعبي أو تشكل تيارا وطنيا يملأ فراغ أزمة تنظيم حركة فتح . أيضا فشلت كل المحاولات لتأسيس حالة جديدة تحت عنوان المستقلين بالرغم من احتضان دول لبعض المستقلين وما يتمتعون به من أموال.
هناك سبب آخر كان وراء خطأ مراهنة المراهنين على نهاية حركة فتح وهو الخلط بين تنظيم فتح وحركة فتح . نعم كل ما يقال من سلبيات إنما يذهب لتنظيم فتح ولقياداته ، وليس للفكرة الوطنية التي تعبر عنها حركة فتح .
كثيرة هي المحطات التي خرجت فيها الجماهير الفلسطينية بدافع الوطنية الفلسطينية لتنقذ تنظيم فتح من حالة هبوط سياسي وعجز تنظيم ولتُعيد له ولقيادته الثقة ، هذا ما جرى مع الانتفاضة الأولى 1978 ، وما جرى أيضا في مهرجان انطلاقة الثورة الفلسطينية في ساحة السرايا في 4 يناير 2013 . كان المهرجان مؤشرا واضحا على فشل كل المراهنين على نهاية حركة فتح وتراجع الوطنية الفلسطينية، لأن هؤلاء المراهنين حكموا على حركة فتح من خلال واقع تنظيم فتح ، حيث كان تنظيم فتح وخصوصا في قطاع غزة يعيش أوضاعا صعبة سواء من حيث الانقسامات والخلافات الداخلية بين قيادات التنظيم ، أو من حيث التباعد وانعدام الثقة بين الهيئة القيادية والقواعد التنظيمية .
حمل المهرجان رسائل متعددة وخصوصا لإسرائيل مفادها أن الوطنية الفلسطينية حالة متجذرة في الشعب الفلسطيني وأن الحصار والانقسام وكل ما أنتجته المفاوضات من كوارث وما أفرزت السلطة من سلبيات لم يغيروا من أصالة الشعب الفلسطيني ومن تمسكه بهويته الوطنية والتفافه حول عنوانها الرئيس حركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح) ، وكان من المتوقع أن يكون مهرجان إحياء ذكرى استشهاد الراحل أبو عمار في نوفمبر 2014 مناسبة أخرى تؤكد قوة حضور الوطنية الفلسطينية ، إلا أن التفجيرات أمام منازل قيادات فتحاوية ولمنصة الاحتفال أجهض الاحتفالية .
إذن ، عندما نقول (حركة) فتح فلا نقصد (تنظيم) فتح ، فنحن نميز بين حركة فتح وتنظيم فتح ، والجماهير التي تؤيد حركة فتح والتي خرجت في مهرجانات الانطلاقة لم يُخرجهم تنظيم فتح ولم يَخرجوا دفاعا عن تنظيم فتح ، بل أخرجهم انتماؤهم الوطني والغيرة على الوطنية الفلسطينية ودفاعا عن حركة فتح المعبرة عن هذه الوطنية التي شعرت الجماهير أنها باتت مهددة بالانقسام ، وبحالة الانفلاش الذي يعيشها تنظيم فتح في القطاع ، وبعجز السلطة الوطنية في التعبير عن أو حماية الوطنية والأرض الفلسطينية في الضفة ، وإحساس الجماهير أن هناك تآمرا على الوطنية الفلسطينية من عدة أطراف داخلية وخارجية .
نعم ، حركة فتح ليست تنظيم فتح ، اللجنة التنفيذية والمجلس الثوري والمجلس الاستشاري فقط ، بل أشمل من ذلك ، و الحال الذي آل إليه التنظيم أخيرا بأشخاصه ومؤسساته أساء كثيرا لحركة فتح ، من حيث عدم قدرته على لملمة الحالة الفتحاوية أو على بلورة رؤية وفكر يعبر عن أصالة حركة فتح وما يميزها عن الآخرين ، وبسبب تكالب قيادات من التنظيم على المناصب والامتيازات وكأن الدور النضالي لحركة فتح قد انتهى والآن مرحلة جني المغانم !.
طوال العقود الثلاثة الأولى من عمر حركة فتح حدث تماهي وتداخل بين حركة فتح وتنظيم فتح ، إلا أنه في العقدين الأخيرين وتحديدا خلال العقد الأخير حدث تباين بينهما . فالتنظيم كأشخاص أو أدوات تنظيمية وتنفيذية ومؤسسات لم يعد يعبر تعبيرا صادقا عن حركة فتح المجسدة للوطنية الفلسطينية ، بل بات تنظيم فتح يسيء لحركة فتح ، كل الانتقادات والمساوئ والأخطاء التي ينسبها الناس لفتح إنما سببها تنظيم فتح وقياداته وليس حركة فتح ، وللأسف يتم إسقاط أخطاء وتقصير تنظيم فتح على حركة فتح ، وهو الأمر الذي يتطلب استنهاض تنظيم فتح ليصبح في مستوى عظمة حركة فتح ، وهذا مطلب ضروري وملح بعد تراجع المراهنة على جماعات الإسلام السياسي وعودة الاعتبار للدولة الوطنية في العالم العربي.
لأن حركة فتح تعبر عن الهوية الوطنية وعن التوق للاستقلال فهي باقية كحركة تحرر ما بقي الاحتلال ، إلا أن بقاءها مرتبط بقدرتها على الاستمرار في التعبير عن الوطنية وبقدرتها على اشتقاق وسائل نضالية ضد الاحتلال، كما أن عمر حركة فتح غير مرتهن بعمر قادتها وهي ليست ملكية خاصة لقادتها ،لا للرئيس ولا لأعضاء اللجنة المركزية أو المجلس الثوري، ويجب تحريرها من وصاية وسطوة قيادة التنظيم الحالية ، حيث كثيرون من قيادة التنظيم الحالية يكرسون كل جهدها وإمكانياتها ليستمروا في مواقعهم، بل وبعضهم يلعب دور تخريبيا في بنية التنظيم حتى يضمن فوزه في انتخابات المؤتمر السابع أو يُفشل عقد المؤتمر.
نعم ، حركة فتح تحتاج لثورة فكرية داخلية ومراجعة استراتيجية على كافة المستويات ، تعيد صهر وتماهي تنظيم فتح وحركة فتح والوطنية الفلسطينية ، وعلى أعضاء اللجة المركزية أن يعلموا أن (التاريخ النضالي) لا يمنح شرعية لأحد ، خصوصا إن كان هذا (التاريخ النضالي) غطاء للتغطية على الفشل في التعامل مع استحقاقات المرحلة .
ثانيا : المراجعات الاستراتيجية والنقد الذاتي كمدخل لاستنهاض فتح
تتزامن الذكرى الخمسون لانطلاقة حركة التحرر الوطني الفلسطيني -فتح – مع أحداث داخلية وخارجية تعصف بالحركة وتطرح كثيرا من التساؤلات حول واقع ومستقبل الحركة. فما بين المؤتمر السادس واستحقاق المؤتمر السابع المتزامن مع الذكرى الخمسين للانطلاقة حدثت تطورات وأحداث كبيرة وخطيرة تؤثر على الحركة وعلى مجمل القضية الوطنية ، كمآل الربيع العربي وتراجع نفوذ الإخوان المسلمين ، ثلاثة حروب على قطاع غزة ، تمسك حماس بالسلطة في قطاع غزة بالرغم من الوضع المأساوي في القطاع ، احتدام الخلافات الفتحاوية الداخلية وخصوصا مع محمد دحلان وجماعته ، فشل المفاوضات والتوجه للأمم المتحدة .
إن الوفاء لحركة فتح الفكرة والهوية الوطنية يتطلب ألا تقتصر ذكرى الانطلاقة وكذلك أشغال المؤتمر السابع على التمجيد بالحركة والحديث عن ماضيها وهو تاريخ يستحق كل تقدير واحترام ولا شك، بل يحتاج الأمر أيضا لوقفة مراجعة وتقييم لأوضاع الحركة بروح نقدية بناءة تهدف لإصلاح حال الحركة لتعود وتأخذ دورها الريادي .
ندرك جيدا أنه في ظل الانقسام الحاد في الساحة والذي يتوغل ويمتد إلى كل نواحي حياتنا ، وفي ظل تعدد التيارات والمواقف داخل حركة فتح نفسها، والتراشق الإعلامي غير المسبوق الذي وصل لدرجة الاتهام المباشر بالتآمر والخيانة ، فإن أي انتقاد لطرف سيُفَسر بأنه يخدم الطرف الثاني حتى وإن كان نقدا موضوعيا بناء ، فثقافة النقد الذاتي غير مرحب بها في المنظومة الثقافية والفكرية داخل أحزابنا الفلسطينية التي تشهد ضعفا تنظيميا وفكريا ومأزقا في الأداء السياسي والعسكري تجاه العدو الرئيسي – إسرائيل – تحاول أن تخفيه بتمظهرات قوة مبالغ فيها توجهها لخصمها الوطني .
ما بين جلد الذات وتقديسها يأتي النقد الذاتي البناء. النقد الذاتي الذي يوجهه شخص لظاهرة أو لحزب ينتمي إليه أو يتعاطف معه أكثر تأثيرا وأقدر على تلمس مواطن الخلل ، والإرشاد لطريق الخلاص، لأنه ينطلق من شخص منتمي للظاهرة المُنتقدة مُطلع على جوانيتها وحريص عليها، إلا أنه في نفس الوقت يثير حفيظة وضغينة القوى النافذة والمستفيدة التي تشعر بأن النقد يمسها شخصيا أو يهدد مصالحها ، أو أن المنتَقِد يتطلع لمنافستها على مواقعها، فتستنفر قواها وتشهر سيوفها لمواجهة هذا المارق الذي تجرأ على نقدها وتضعه في صف الأعداء ، بل تعتبره أخطر عليها من الأعداء فهو في نظرها طابور خامس ، مثير للفتنة ، ناكر للجميل ، أو مدفوعا بدوافع الحسد والغيرة من زملائه لأنهم أصبحوا قياديين ومسئولين وهو دون ذلك الخ. هذا ما جرى مع كثير من الأخوة الفتحاويين الذين دفعتهم غيرتهم وحرصهم على الحركة لانتقاد سلوكيات وسياسات خاطئة وسمت حركة فتح خلال السنوات الأخيرة وأدت إلى ما هي عليه من واقع بات يهدد ليس فقط قيادتها للشعب الفلسطيني بل وجودها كحركة تحرر وطني ، وقد تطالنا الاتهامات والتشكيك لأننا في نظر البعض نتطاول على من يعتبرون انفسهم قيادات تاريخية تسمو على كل نقد.[3]
صحيح أن بعض الذين تنطعوا لانتقاد حركة فتح مدعين بأنهم فتحاويون غيورون على حركة فتح كانوا مدفوعين بحقد شخصي وتصفية حسابات شخصية ، وبعضهم كان صادقا في تشخيص الأخطاء ولكنه غير صادق ولا بريئا في رؤيته لتصحيح المسار وسبل الخلاص ، وآخرون كانوا من رموز الفساد في الحركة ومن المسؤولين عن انحرافها ، فلجئوا لسياسة (الهجوم خير وسيلة للدفاع ) حيث انتقدوا الحركة وقيادتها لإخفاء فسادهم ودورهم في تدمير الحركة ونهجها. لكن مقابل هؤلاء المغرضين في نقدهم يوجد الصادقون الغيورون على الحركة والراغبون في استنهاض الحركة من كبوتها ، لإيمانهم بأن لا استنهاض للمشروع الوطني إلا باستنهاض حركة فتح.
أولئك الذين ارتبطت حياتهم السياسية بحركة فتح وناضلوا وعانوا الكثير من أجلها، أولئك لا يمكنهم أن يتخلوا بسهولة عن انتمائهم لحركة فتح كفكرة وطنية وتاريخ نضالي، فالانتماء للحركة بالنسبة لهم ليس مجرد انتماء لتنظيم أو بحث عن راتب ، بل واجب يفرضه روح الانتماء للوطن وللفكرة الوطنية ، والوفاء لمسيرة طويلة تماهت فيها شخصيتهم مع فتح الفكرة الوطنية، هؤلاء يجب الاستماع لهم وتقبل انتقاداتهم، فأن نعترف بالأخطاء ونتداركها خير من المكابرة والمعاندة والاستمرار في الزعم بأن تنظيم فتح لا يخطئ وبأن أوضاع الحركة على خير ما يرام.
مقولة قبيلة أو عشيرة فتح غير القابلة للقسمة ، وهي المقولة التي يرددها البعض لتبرير الاختلافات والانقسامات داخل الحركة والتهوين من شأنها ، ثبت أنها مقولة مضللة وغير دقيقة. لقد أساء (فتحاويون ) لحركة فتح أكثر مما أساء إليها أحد من القوى والفصائل الفلسطينية الأخرى ، بل إن غيرة فلسطينيين غير فتحاويين على حركة فتح أكثر من غيرة بعض المنتسبين لحركة فتح ، كما أنه ليس المهم أن تستمر فتح بالوجود حتى اليوم بل المهم دورها السياسي وفعلها الميداني .
بات من الواضح – وخصوصا بعد المؤتمر السادس وما صاحب عقده من التباسات وضغوطات خارجية ، وما افرز من قيادات ، أن فجوة تتزايد يوما بعد يوم بين فتح الفكرة والفكر التحرري الوطني من جانب وفتح التنظيم من جانب آخر. فتح التنظيم – لجنة مركزية و مجلس ثوري و قيادات الساحات – لا يمثل تمثيلا صحيحا وكاملا فتح الفكرة وخصوصا بعد ما رأينا من تطاول بعض أعضاء اللجنة المركزية على رئيس فتح ورئيس الشعب الفلسطيني ، وهم أنفسهم الذين سبق وان تطاولوا على الرئيس أبو عمار.
كنا نأمل أن تبقى الخلافات داخل البيت الفتحاوي ويتم حلها داخل مؤسسات فتح ، ولكن أن تخرج الخلافات للعلن وان يتطاول فتحاويون من داخل المؤسسة القيادية لفتح وعبر الفضائيات على رئيس الشعب الفلسطيني ورئيس حركة فتح ، وأن لا تتوقف الانتقادات عند انتقاد الموقف السياسي بل تصل لدرجة التخوين واتهامات بالمسؤولية عن تدمير حركة فتح ومحاولة تصفيتها الخ ، فهذا أمر يثير القلق على مستقبل الحركة.
ليس مرامنا أن نجلد حركة سياسية وطنية ننتمي لها طوال أربعة عقود ، حركة حَمَلت وحمت القضية الوطنية وقادت النضال الوطني طوال خمسين عاما، حركة قبل أن تكون حركة تحرر ضد الاستعمار الصهيوني ، كانت حركة تحرر وتحرير للفلسطيني من حالة السلبية والإتكالية والإحباط وفقدان الثقة التي سيطرت عليه بعد النكبة مباشرة ، حين كان الفلسطيني يخجل أن يقول أنا فلسطيني ، وحين كان الفلسطيني مجرد رقم في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين – الأونروا – وكان الناشطون الفلسطينيون لا يجرؤون على تشكيل حزب خاص بهم ، فجاءت حركة فتح لتنتشل الشعب الفلسطيني من هذا الواقع الآسن وتخلق منه شعبا جديدا فرض نفسه وحضوره على القريب والبعيد وأعلن للعالم استنهاض شعب عريق ومجيد أُريد له أن يموت كباره وينسى صغاره ، فحمل الصغار الراية ، راية فتح الثورة والوطنية والكفاح المسلح لاستعادة الوطن السليب، كانت فتح السيف الذي كسر عن الشعب قيود الخنوع والذل ليصبح الرقم الصعب في معادلة الصراع في الشرق الأوسط وما زال.
ولكن … من حقنا بل وواجب علينا وعلى كل فتحاوي وفلسطيني يؤمن بالوطن والوطنية أن يكون له رأي فيما آلت إليه حركة فتح لأن فتح ليست مجرد حزب سياسي عادي كبقية الأحزاب، فهي العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني ، ورئيسها رئيس الشعب الفلسطيني ، أيضا عندما تقول حركة فتح بأنها حركة تحرر وطني أو إنها حزب السلطة ، يصبح من حق كل فلسطيني أن يكون له رأي في هذه الحركة ، وينتقد كل سلوك يرى أنه يتعارض مع متطلبات حركة التحرر أو متطلبات السلطة الراشدة ، ولكن ضمن قواعد وأخلاقيات النقد .
فتح الفكرة ليست حكرا على فتح التنظيم بواقعه الراهن بل ملك لمن ينتمي لها ويُخلص في التعبير عنها وتجسيدها ثقافة وسلوكا والتزاما. التنظيم يكون فتحاويا بمقدار التزامه بفتح الفكرة، ومجرد كون الشخص وصل لموقع قيادي في تنظيم فتح حتى وإن أصبح عضو لجنة مركزية لا يعني بالضرورة أنه فتحاوي أكثر من غيره ، أهلية من يتنطع للقيادة لا تُستمد من موقعه بل من ممارساته ومدى إيمانه بفكر وقيم وثقافة حركة فتح كحركة تحرر وطني .
لسنوات ونحن نجد عذرا لسلوك هذا القائد الفتحاوي أو ذاك النهج السياسي ، وحتى عندما كنا ننتقد كانت انتقاداتنا مترددة وحذرة حتى لا تُفسر بما يخدم أعداء الحركة والمتربصين بها وهم كُثر . أما وقد بلغ السيل الزبى ، لم يعد مجالا للسكوت عن ما يجري داخل تنظيم حركة فتح من تصدع وصراعات صغيرة بين القيادات لها علاقة بمصالح شخصية أو جهوية و التهيئة لانتخابات المؤتمر السابع ، دون أي حضور للقضية الوطنية المركزية وكيفية استنهاض حركة فتح .
لسنوات ونحن نراهن أن يتغير حال الحركة للأفضل وان تتغلب العناصر الوطنية والصادقة على العناصر المشبوهة والانتهازية التي تسللت لمواقع قيادية داخل التنظيم ، أو فرضتها حسابات عربية وإقليمية ودولية ، أو القيادات النظيفة ولكنها شاخت ولم يعد بإمكانها تقديم المزيد للحركة وللقضية الوطنية وباتت تستنفذ رصيدها الوطني النضالي لمجرد أن تبقى في الصورة وتستمر في الاستفادة من المكاسب المادية التي يوفرها لها الموقع والوظيفة .
هذه العناصر التي تحتكر مواقع قيادية أساءت كثيرا لفتح الفكرة ولفتح التنظيم ، و شوهت مشروع السلام الفلسطيني الذي وضع أسسه الزعيم أبو عمار والرئيس أبو مازن، وساهموا في حالة الفوضى والانفلات الأمني التي أدت لهزيمة فتح في انتخابات يناير 2006 ، وكانت بصماتهم واضحة في تمرير مخطط الانقسام بتسهيل سيطرة حركة حماس لقطاع غزة تنفيذا لمخطط إسرائيلي استراتيجي مهدت له خطة شارون للانسحاب الأحادي من القطاع عام 2005 ، هذه القيادات نفسها تعيق المصالحة في الداخل وفي كل أماكن الشتات الفلسطيني.
إن حركة فتح ضرورة وطنية وإصلاح حركة فتح واستنهاضها على أسس وطنية ضرورة ومدخل لاستنهاض المشروع الوطني ، مشروع الكل الفلسطيني. القول بأن فتح صاحبة الانطلاقة الأولى ومؤسسة المشروع الوطني ولها السبق بالكفاح المسلح … كل ذلك لا يمنح شرعية دائمة وثابتة لحركة فتح ولا يعطيها الأسبقية دائما على غيرها من القوى والحركات السياسية ، فتح تحتاج بالإضافة إلى ما سبق أن تتصدر المشهد السياسي النضالي والتعبير عن نبض الشعب وعن تطلعاته بالحرية والاستقلال .
التاريخ لا يمنح شرعية سياسية لحزب أو حاكم ، كما الدين لا يمنح شرعية سياسية لحزب أو حاكم، ما يمنح الشرعية هو التمسك بالثوابت والوطنية وما يتحقق من إنجازات في الواقع على طريق تحقيق الأهداف الوطنية التي ما وجدت الأحزاب إلا لتحقيقها ، وسر قوة فتح وتسيدها للمشهد السياسي الفلسطيني كان قبل أن توجد السلطة ويوجد الحل السلمي وكان مصدره قدرتها على التعبير عن الوطنية والتصادم العقلاني مع الاحتلال ، والمزج المبدع ما بين العمل السياسي ومقاومة الاحتلال .
ما يشفع نسبيا لحركة فتح أنه بالرغم من التطور الذي طرأ على الخريطة السياسية الحزبية الفلسطينية من حيث دخول حركات وقوى سياسية جديدة عليها إلا أن لا حزب أو حركة استطاعت أن تعبر عن الوطنية الفلسطينية كما تعبر عنها حركة فتح. هناك حركات إسلام سياسي تمثل امتدادا لحركات وإيديولوجيات مقرها خارج الوطني وبالتالي لا تعبر عن الهوية والثقافة والانتماء الوطني ، ونتمنى أن توطن هذه الحركات إيديولوجيتها الدينية لتصبح جزءا من المشروع الوطني ، وهناك أحزاب ذات أصول يسارية وشيوعية وطنت فكرها وأيديولوجيتها ، إلا أنها متعددة وغير قادرة على أن تقود تيار الوطنية الفلسطينية، حركة فتح وحدها ما زالت المؤهلة لتمثيل الوطنية الفلسطينية ولكن حتى تقوم بهذا الدور كما قامت به سابقا يجب أن تعيد بناء ذاتها وعلاقاتها.
المحور الثاني
قضايا استراتيجية تحتاج لتفكير مغاير
أولا : ضرورة تحرير حركة فتح من مغارم ومغانم السلطة
من الأخطاء التي وقعت فيها حركة فتح ، كما هو الأمر بالنسبة لمنظمة التحرير الفلسطينية ، أنها خفضت من سقف مواقفها السياسية وغيرت من منطلقاتها لتصبح في مستوى سقف الاستحقاقات المفروضة على السلطة الوطنية بمقتضى اتفاقية أوسلو ، في مراهنة على أن تؤدي تسوية أوسلو لقيام دولة فلسطينية مستقلة. هذا الخطأ يعود في جزء منه إلى كون رئيس حركة فتح هو نفسه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الوطنية ، هذا الأمر خلق حالة من التعقيد ومن الزياحات في المواقف والمواقع لصالح نخبة مخضرمة تشكلت في ظل السلطة ، تملك المال وتملك القرار السياسي الفعلي .
أدى تحول حركة فتح لحزب سلطة تعتمد في وجودها على اتفاقات موقعة مع إسرائيل وعلى تمويل من جهات مانحة تتبنى في غالبيتها المواقف الإسرائيلية إلى تباعد أو التباس في المواقف والرؤية بين حركة فتح والقاعدة الشعبية الواسعة ، وإلى المس بكينونة وروح حركة فتح كحركة تحرر وطني ، وإلى فراغ في ميدان المقاومة والممانعة ، وهو الميدان الذي كان لفتح دور الريادة فيه منذ إنشائها ، الأمر الذي أفسح المجال لقوى فلسطينية أخرى ، وخصوصا حركتي حماس والجهاد الإسلامي ، لتحاول ملء هذا الفراغ . ومع تراجع فرص التسوية العادلة واستمرار إسرائيل في سياساتها الاستيطانية ، ومع الضعف المتواصل للسلطة … تراجعت مكانة فتح كحركة تحرر وطني إلا في حدود اجتهادات شخصية هنا وهناك وأشكال من المقاومة الشعبية المحصورة ، وكان آخرها استشهاد القائد الفتحاوي زياد أبو عين .
إن كانت السلطة الوطنية نتاج لتسوية مفروضة ، وفي بعض وجوهها يمكن اعتبارها منجزا وطنيا إذا ما تم تغيير وظيفتها ، فإن حركة فتح ليست نتاجا للتسوية ولا يجوز إخضاعها لاستحقاقاتها ، وخصوصا بعد أن خرجت تسوية أوسلو عن مسارها وأهدافها الأولى كما اعترف بذلك الرئيس أبو مازن وقرر على إثرها وقف المفاوضات . حركة فتح تأسست قبل أن توجد السلطة الوطنية ، وتأسست في ظل الشتات الفلسطيني ، وهي خلاصة عقد وميثاق دم وشرف بينها وبين الشعب لا ينتهي إلا بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين.
وحيث إنه لا ضمان باستمرار السلطة الوطنية ولا بقدرتها على تغيير وظائفها ، مثل إعادة النظر بالتنسيق الأمني ، كما لا ضمان بأن تحديد جدول زمني لإنهاء الاحتلال كما هو منصوص عليه في مشروع القرار المقدم لمجلس الأمن سيتم في الوقت المقرر له وهو ثلاث سنوات ، أو أن الدولة ستُقام بالفعل مباشرة بعد هذه الفترة ، لكل ذلك على حركة فتح أن تحافظ على هامش من الاستقلالية بينها وبين ما يتم طرحه من تسويات دون أن تعارضها أو تعيقها ، وأن تستمر ملتزمة بعهدها وبميثاق الدم والشرف بينها وبين الشعب ، وأن تنفض عن نفسها سخم السلطة والتزاماتها المذلة وتستنهض نفسها كحركة تحرر وطني .
حركة فتح كحركة تحرر وطني إن كانت غير قادرة الآن على ممارسة منطلقاتها الأولى كحركة مقاومة للاحتلال ، فعليها على الأقل أن تمتلك رؤية سياسية وفكرا واضحا ، ففي ساحة كالساحة الفلسطينية التي تعج بكل الأيديولوجيات الوطنية وغير الوطنية، وحيث التدخلات والمشاريع والمؤامرات الخارجية ، لا حصر لها ، فإن على حركة فتح امتلاك رؤية سياسية واضحة تُمكن أبناء فتح من تمييز أنفسهم عن غيرهم من الجماعات والأحزاب وتمكنهم من مقارعة خصومهم السياسيين وهم على ثقة وإيمان بالأفكار التي يتبنوها ، وأن تكون مواكِبة وقريبة من الحدث العربي والإقليمي. [4]
بات استنهاض حركة فتح كحركة تحرر وطني واستنهاض منظمة التحرير الفلسطينية كإطار جامع لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ضرورة وطنية اليوم ، وضرورة وطنية في ظل اتضاح خطورة ما تطرحه الإدارة الأمريكية من رؤية لتسوية متساوقة مع السياسة الصهيونية وما يُخطط له الأوروبيون ودول عربية وإقليمية من صناعة بديل لمنظمة التحرير وتوظيف حالة غزة للالتفاف على المشروع الوطني الفلسطيني وربما العمل على تقزيم الدولة الفلسطينية لتصبح في حدود قطاع غزة فقط . [5]
لا يمكن الاستمرار في تجميد وضع حركة فتح في مراهنة على التسوية وما قد تمنحنا من فائض بشر وفائض ارض لنقيم (دولة) بدون سيادة ، يريدها الإسرائيليون للتخلص من الكثافة السكانية الفلسطينية ، وكمناورة لامتصاص المواقف الدولية المؤيدة للفلسطينيين ، وتمهيدا للإجهاض لاحقا على هذه الدولة التي لن تتوفر على مقومات البقاء أو الدفاع عن نفسها.
بات من الملح والضروري الخروج من المنطقة الرمادية التي حكمت مواقف ورؤى فتح خلال عقدين من تماهيها مع السلطة ، توضيح موقف حركة فتح من التسوية والمفاوضات والشرعية الدولية والمقاومة واللاجئين والمصالحة ومع دول الجوار ، على قاعدة الالتزام بالثوابت والحقوق الوطنية ، وليس على حسابها أو باللعب على الحدود الحمراء لهذه الثوابت والحقوق والمساومة عليها حتى كتكتيك ومناورة ، كما لا يجوز دفن الرأس بالرمال كما جرى خلال عشرين سنة أو أكثر حيث تتباين تصورات ورؤى أبناء فتح من كل هذه القضايا، وعندما تتأزم الأمور يحاول كل منهم الهرب من المسؤولية والزعم بأنه لم يوافق على كذا أو كان ضد كذا.
غياب الرؤية السياسية والفكرية عند القيادة العليا ينعكس سلبا على القاعدة حيث تتخبط القاعدة الفتحاوية سياسيا وفكريا ولا تستطيع أن تدافع عن نفسها في مواجهة خصوم فتح لأنها لا تعرف ما يجري وبالتالي يعتمد كل فتحاوي على اجتهاده الخاص . ومن نماذج هذا التخبط الموقف من المقاومة المسحة وحتى السلمية ، والموقف من حل الدولتين حيث نسمع أعضاء في اللجنة المركزية يشككون بنجاح وجدوى حل الدولتين في الوقت الذي يناضل فيه الرئيس أبو مازن من أجل حل الدولتين .[6]
من الضروري التفكير بهامش من الاستقلالية بين حركة فتح من جانب والسلطة واستحقاقاتها والتزاماتها من ناحية المواقف والرؤية السياسية من جانب آخر، لأن إخضاع حركة فتح للسلطة والتزاماتها يُخرج حركة فتح من كينونتها ويتعارض من مبادئها . التداخل بين السلطة وحركة فتح وهيمنة الأولى على الثانية يشكل سببا مهما في إعاقة استنهاض حركة فتح وفي ضبابية الرؤية عند أبناء الحركة وفي فقدان الحركة مصداقيتها عند الجماهير العربية والإسلامية ، بل إن الصراع على السلطة ورئاستها بين قيادات فتح بات من أهم الأخطار المهَدِدة لوحدة الحركة بل لبقائها اليوم .
منذ سنوات وفي عهد أبو عمار تم طرح مشكلة احتكار الرئاسات من طرف شخص واحد – رئيس فتح ورئيس منظمة التحرير ورئيس السلطة ورئيس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة – بل حتى لا يوجد نائب لأي رئاسة من هذه الرئاسات ، وكان يتم تبرير الأمر بأنه ضمان عدم حصول تضارب في الموقف السياسي ، أو محاولة لتوحيد النظام السياسي ، وهو في ضني نفس تبرير الأنظمة الاستبدادية ، ومجريات الأحداث فلسطينيا كشفت خطورة هذا الأمر وما أدى إليه وخصوصا في عهد الرئيس أبو مازن من استبداد بالرأي وتهميش وشلل كل الكيانات المُشار إليها ، حتى باتت المؤسسات الأربعة الأربع تُقاد من المقاطعة التي بات لها سلطة تعلو كل السلطات ، سلطة يحتكرها مستشارون للرئيس جزء كبير منهم من خارج المدرسة الوطنية .
نتمنى قبل أن يفوت الوقت أن يتم ، على الأقل ، الفصل بين رئاسة حركة فتح ورئاسة السلطة الوطنية ، لأن الصراع على السلطة يدمر حركة فتح ، حيث يعلم المتنافسون الكبار في انتخابات حركة فتح أن من يفوز برئاسة فتح سيصبح رئيسا لمنظمة التحرير وللسلطة وللدولة ، وسيكون الأمر اكثر خطورة في حالة عدم ترشيح الرئيس أبو مازن نفسه لرئاسة فتح . مطلوب اليوم أن تعود حركة فتح حركة الجماهير الشعبية في كل مكان وخصوصا في المخيمات وفي الشتات وأن يكون للاجئين دور الريادة في الحركة حتى لا يتم ضياع حق العودة في دهاليز المفاوضات دون الحصول على مقابل وطني. [7]
كلما تراجعت فرص التسوية العادلة وتأكد مأزق مشروع الإسلام السياسي الذي تراهن عليه حركة حماس ، وتزايد الوضع العربي والإقليمي تفككا وتدهورا …كلما استشعرنا أهمية وضرورة الحاجة لمنظمة التحرير الفلسطينية و في قلبها حركة فتح الحزب الأكبر لحماية المشروع الوطني من خطر الزوال والشعب من حالة ضياع وتيه لا ندري إلى متى ستستمر .
بالرغم من خطورة المرحلة إلا أن الحراك المؤسَس على استيعاب هذه الحقائق والتخوفات لا ترق إلى مستوى الحدث ، وكأن هناك من يعمل على الهروب من استحقاقات استنهاض حركة فتح ، وبالتالي يعمل على إضعاف حركة فتح وإخراجها من ساحة المواجهة ومن دورها الطليعي كحركة تحرر وطني لكل الشعب في الداخل والخارج ، كما تم مع منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني.
القول بتحرير فتح من استحقاقات السلطة لا يعني التخلي عن السلطة الوطنية الفلسطينية ولا المطالبة بإلغائها ، حيث ليس من السهل إلغاء السلطة الآن بقرار فتحاوي أو من منظمة التحرير ، فهكذا قرار يحتاج لشجاعة وعناصر قوة غير متوفرة الآن ، حتى وإن توفرت عناصر القوة لاتخاذ قرار إنهاء السلطة فليس من المصلحة القيام بذلك دون إعداد البديل الوطني لملء الفراغ ، وبالتالي المطلوب تغيير وظائف السلطة لتصبح قريبة من مفهومها كما ورد في البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير 1974، أي سلطة وطنية مقاتلة .[8]
إذن ، إن لم تكن حركة فتح قادرة أو راغبة بحل السلطة ، فعليها وبقية فصائل منظمة التحرير اتخاذ موقف شجاع تجاه السلطة ، إما أن تتحمل كامل مسؤوليتها عن الحكومة والسلطة من خلال تولي رجالات فتح من مناضلين ومثقفين وتكنوقراط غالبية المناصب الحكومية والسلك الدبلوماسي ومستشاري الرئيس الخ ، أو يتم الفصل بين رئاسة السلطة ورئاسة فتح ، وأن تتحرر حركة فتح من مذلة التعيش من الأموال التي تقدمها السلطة لها والمعروف مصدرها وشروط تقديمها للسلطة ، وأن يتوقف استجداء قادة فتح لرواتب ومساعدات ووظائف لهم ولأبنائهم من رئيس حكومة غير فتحاوي ، وأن يتوقف الحديث بأن السلطة سلطة فتح مما يترتب عليه من تحميل حركة فتح كل المسؤولية عما آلت إليه أوضاع السلطة ، أو بمعنى آخر أن لا تستمر حركة فتح شاهد زور عن تردي الأوضاع بشكل عام .
ثانيا : لا مشروع وطني بدون غزة : غزة جرح فتح النازف
مرور الوقت على فصل غزة عن الضفة يحدث مفاعيله الانقسامية الخطيرة التي باتت تمس ليس فقط الوحدة الجغرافية والسياسية للنظام السياسي ، بل أيضا المنظومة الاجتماعية والثقافية والنفسية ، كما أثر على الوحدة الداخلية للأحزاب الفلسطينية . من تداعيات الانقسام أنه أثر على وحدة تنظيم حركة فتح وأوجد تمايزا ما بين واقع حركة فتح في الضفة وواقعها في قطاع غزة – وهذا ينسحب على بقية الفصائل والحركات – إلا أن الخطورة المستجدة تكمن في انعكاسات الخلافات داخل قيادة فتح على وحدة الحركة في الضفة وغزة ومحاولة البعض تصوير الخلافات الأخيرة وكأنها بين فتح غزة وفتح الضفة.
الخلافات الأخيرة داخل حركة فتح حيث يبدو دحلان وكأنه يمثل الفتحاويين المظلومين والمستبعدين خصوصا في قطاع غزة ، أو يروج لذلك ، بالإضافة إلى واقع الانقسام بين الضفة وغزة وصعوبة التواصل وضبابية الرؤية السياسية وتسرب اليأس بالنسبة لسرعة إنهاء الانقسام ، كلها أمور تثير تساؤلات عند أبناء فتح في قطاع غزة ذات طبيعة مختلفة عما هو مُثار في الساحات الأخرى وخصوصا في الضفة الغربية.
فما أن تمر بضعة شهور إلا ونسمع عن مشاكل تواجه تنظيم حركة فتح في قطاع غزة وعن إقالة أو استقالة الهيئة القيادية العليا للتنظيم ، وكان آخرها ما جرى يوم 31 يناير 2014، ثم التقارب بين حركة حماس والنائب في التشريعي والقيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان ، مما فتح الطريق لجماعة دحلان للعمل العلني في قطاع غزة بل وتنظيم مسيرات ومؤتمرات تحت حراسة وحماية أجهزة حماس الأمنية ، وهو ما فاقم من أزمة حركة فتح ، وأخيرا تعثر تنظيم فتح في استكمال الانتخابات في الاقاليم والمناطق تمهيدا لعقد المؤتمر السابع قي يناير القادم كما هو مقرر. فأين يكمن الخلل ؟ هل في قيادات فتح في القطاع ؟ أم في اللجنة المركزية لفتح ؟ أم هناك أسباب وخفايا لا يدركها الجمهور الفتحاوي ؟.
إذا وضعنا جانبا دور إسرائيل في إعاقة استنهاض حركة فتح كحركة تحرر وطني ، والإعاقات التي تضعها حركة حماس أمام حرية التحرك لتنظيم فتح في قطاع غزة ، ومن خلال متابعتنا ما يجري في تنظيم فتح في القطاع وما نسمع من ذوي الشأن التنظيمي من قيادات وعناصر، يمكن حصر الإشكالات الداخلية في قضايا تتشارك في غالبيتها مختلف أقاليم فتح في الوطن وخارجه ، إلا أن خصوصية الحالة في قطاع غزة يزيد من وطأة هذه المشاكل على الحياة التنظيمية في غزة ، وهذه المشاكل :
1- التهميش المتعمد لتنظيم فتح في القطاع وبعده عن مركز القرار وخصوصا بعد الانقسام وانتقال مقر قيادة السلطة ومنظمة التحرير وحركة فتح إلى الضفة الغربية . هذا الأمر أدى لأن يشعر أبناء فتح في القطاع بانهم باتوا غير فاعلين بل ويشعر بعضهم بالدونية تجاه أبناء التنظيم في الضفة الغربية ، أيضا أدى بعد تنظيم فتح في قطاع غزة عن مركز القرار في الضفة إلى ضبابية الرؤية السياسية عند قيادة حركة فتح في القطاع وامتداد ذلك لبقية أبناء التنظيم .
2- غياب مهام محددة لتنظيم فتح في قطاع غزة ، فبالإضافة إلى الإشكال العام الأول المتعلق بالرؤية السياسية والفكرية فإن تنظيم فتح في غزة ونظرا لوقوع غزة تحت حكم حركة حماس مع استمرار الاحتلال والحصار ، بات في حالة إرباك حول مهامه وكيفية التصرف في مواجهة حركة حماس والاحتلال والحصار . عندما يتم تكليف هيئة قيادية بقيادة التنظيم فلا يُحدد لها أهداف محددة لا سياسية ولا اجتماعية ، وهذا يفقدها مصداقيتها عند قاعدتها وعند الفصائل الأخرى . وعليه فإن الهيئة القيادية لفتح في القطاع لا تستطيع أن تعطي إجابات واضحة لقاعدتها أو للجمهور العام حول المسائل السياسية والفكرية محل الخلاف ، بل إن غالبية الجيل الجديد من شباب فتح لا يعرفون عن حركة فتح سوى ما تقدمه من مساعدات ورواتب والرئيس أبو عمار وتاريخ مشوش عن بطولات فتح . يُفترض أن يشكل تنظيم فتح في القطاع حكومة ظل مُلِمة ومتابعة لكل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأكاديمية والصحية الخ ، وهذا ما لا يوجد لأسباب متعددة كغياب الرؤية كما ذكرنا ، بالإضافة إلى ضعف الإمكانيات المادية وضعف الكادر القادر على ذلك .
3- عدم تجديد الأطر القيادية . من يتابع التغيرات التي تطرأ على الهيئة القيادية في قطاع غزة سيلاحظ أن نفس الأشخاص تقريبا هم من يتولى مناصب في الهيئات القيادية المتعاقبة دون دخول شخصيات جديدة سواء من جيل الشباب أو من الفتحاويين القدامى ذوي الكفاءة ممن لم تُسنح لهم الفرصة لتولي مناصب قيادية. مع كامل الاحترام للقيادات المخضرمة للتنظيم ولتاريخهم النضالي وإدراكنا للصعوبات التي يواجهونها وخصوصا تدخل أعضاء من المركزية بشؤونهم ،إلا أن هذه القيادات تولت مناصب متعددة وجربها التنظيم والشعب خلال سنوات الخير وقبل أن تسيطر حماس على غزة ، ولم يكونوا موفقين في عملهم ، بل إن فتح خسرت الانتخابات وخسرت قطاع غزة في ظل وجودهم على رأس التنظيم والسلطة . سيكون من العبث الإصرار على استمرار نفس الأشخاص في مواقعهم القيادية ، وخصوصا أنه خلال عملهم ونتيجة تكرار التغيير في الهيئة القيادية بإقالة بعضهم وتعيين آخرين منهم ثم إقالة هؤلاء وعودة الأولين الخ ، تولدت عداوات وانعدام ثقة بين بعضهم البعض مما يجعل من الصعب أن يُشكل من بينهم هيئة قيادية منسجمة ،بالإضافة إلى العداوات وانعدام الثقة بينهم وبين القاعدة .
4- كل أعضاء اللجنة المركزية من قطاع غزة تم تعيينهم من الرئيس أبو مازن ولم يأتوا عن طريق الانتخابات ، وما دام بقاؤهم في مراكزهم مرتبط بالرئيس ورضاه ، فلا يحتاجون لتأييد ورضا القاعدة الفتحاوية ، وهذا ما يُضعف من شعبيتهم ، كما يمنحهم إحساس زائدة بالقوة . سابقة تعيين قيادات فتحاوية وليس انتخابهم يكمن اليوم وراء تعثر إجراء الانتخابات في غالبية الأقاليم في القطاع ، حيث يعتقد البعض أن عدم إجراء الانتخابات سيدفع الرئيس لتعيين أعضاء المؤتمر الخامس الممثلين لغزة ، وربما تعيين أشخاص محددين في المواقع القيادية .
5- يتعامل أعضاء في اللجنة المركزية لحركة فتح مع قطاع كحديقة خلفية أو م