حسن حميد في ناغوني الصغير والوجه القبيح “لإسرائيل”.
في روايته الجديدة ناغوني الصغير، الصادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية لعام 2021 وتقع في نحو من مئتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط، يأخذنا حسن حميد، عبر إصداره الجديد إلى خفايا وكواليس هذا المجتمع العنصري، الذي طالما تخفى خلف قناع الحرية والعدالة والديمقراطية ومبرزا في الوقت ذاته الوجه الحقيقي لهذا المجتمع بكل بشاعته، عبر تناوله لسيرة يهودي من يهود الفلاشا، الذين تم جلبهم من أثيوبيا، بشتى طرق الحيل والخداع.
يبدأ حسن حميد روايته بمفتتح عنونه ب ” عتبة لا بد منها”، يشرح فيه الملابسات، التي دفعته لكتابة هذه الرواية والتي هي في الأساس مذكرات ورسائل، كتبها بطل الرواية نفسه، المدعو “ناغوني الصغير” وتركها لدى نورا ابنة قرية سمخ التي استأجر عندهم فترة من الزمن ونشأت بينهما علاقة ما، علمته خلالها اللغة العبرية والى حد ما العربية، فقامت بعد رحيله بترجمة هذا العمل، الذي وصل إلى الكاتب بطريقة ما، والكل بطبيعة الحال من خيال المؤلف وبنات أفكاره، حيث تقول: ومنذ البداية علي أن أعترف بأمرين اثنين هما: الأول : هو أنني أقامر بحياتي وحياة أسرتي، بسبب هذه الترجمة الحافلة بما لن يرضى عنه الخواجات.
والثاني: هو أنني لم أحذف أو أتجاهل أو أحيد أو أتجاوز، أي كلمة قالها ناغوني جفت في مدونته هذه.
ثم يبدأ الكاتب في الحديث عن واقع الحياة في “إسرائيل”، على لسان البطل، فيقول: أبدو وحيدا.. وحيدا تماما، لكأنني من ذباب التسي تسي، أو لكأنني ثعبان مخيف، يطل برأسه الأقرع من جحر سطحي مكشوف، أو لكأني جاموسة أصابها الجرب أو مرض الصفرة القاتلة، فتحيدني الآخرونـ، لا أحد حولي ولا أحد يخاطبني ولا أحد يجادلني وإن سألت لا أحد يجيبني، كل من هم حولي، يريدونني أن أبقى بعيدا عنهم.. لوني الأسود فضحني وميزني عنهم.
صورة غاية في القتامة لمجتمع غاية في العنصرية والاضطهاد وفي مشهد آخر، يقول ناغوني مصورا حجم المعاناة التي يعيشها في هذا المجتمع: أعترف أنني ومنذ وصلت إلى هنا.. إلى إسرائيل وروحي تكاد تفر مني، مثل طير حبيس، فمنذ وصولنا إلى هنا والإهانات تلاحقنا وما من أحد يعرف لماذا، لقد أخذنا مثل قطيع للبقر، أو مثل بغال يائسة أو مثل كلاب شاردة، أخذنا إلى براكيات من التوتياء، طويلة مثل قاطرات لا نهاية لها، لا شيء فيها سوى أسرة حديد وبطانيات ، أمامها صهاريج وبراميل مياه وعلى مبعدة حفر عميقة، من أجل طرح الفضلات وحولنا تدور رياح، بروائح تشبه الجثث المتعفنة.
صور كثير يعرضها الكاتب على لسان بطلة، تبرز بوضوح مدى العنصرية، التي وصل إليها هذا المجتمع: كان لوننا الأسود آية الحضور وكان النهر والسباب والزجر والضرب، آيات يومية تطال الجميع ، كان الجنود الشقر يتقصدون إيذاء الجميع دون استثناء.
ثم ينتقل بنا الكاتب إلى الفتاة الشقراء الأوكرانية “إيفا”، التي راحت ضحية جمالها، في مجتمع لا يرى في الجمال سوى وسيلة، يجب توظيفها لتحقيق غايات أخرى، فتنشأ بين الاثنين علاقة، منبتها أنهما ضحيتا مجتمع كاذب.. مخادع غرر بكليهما وبالكثير من أمثالهما، لغاية في نفس يعقوب ومن خلال العلاقة التي تطورت بينهما، تطالبه بالحديث عن نفسه لكي تعرفه أكثر، فيبدأ بالحديث عن طفولته في أثيوبيا وكيف أن الصهاينة وعبر رسلهم، التي كانت تجوب الآفاق بحثا عن اليهود والتغرير بهم، من أجل نقلهم إلى إسرائيل أرض السمن والعسل كما يزعمون، فيحدثها كيف كان في المدرسة يجلس مع الأطفال فوق حصير من أوراق الحلفا، حين وصل إلى سمعهم وقع أقدام تقترب، حيث كان المراقب مع ثلة من أقرانه الطلاب، الذين تم نقلهم إلى معلم الدين والذي بدوره أخذهم واشترى لهم ملابس جديدة، تمهيدا لنقلهم إلى”إسرائيل” وحين هم بعضهم وتجرا بسؤاله: هل سنعود لبيوتنا؟، قال : لا، قلنا إلى أين؟ قال : إلى الجنة.. إلى الجنة، فجئت إلى هنا إلى “إسرائيل”.. إلى المكان الذي وصفه المعلم بالجنة وهنا يسهب الكاتب في الحديث على لسان ناغوني، حيث يصف لنا طبيعة الحياة الهانئة الوادعة في قريته “ما مينا” الأثيوبية وحال العيش فيها بأدق التفاصيل، وبشكل ينم عن سعة اطلاع الكاتب وإعداده الجيد للعمل،
ثم يكمل على لسان ناغوني، مصورا لحظة الوصول إلى أرض السمن والعسل : حين جئنا إلى هنا، أخذونا إلى ساحة عامة وطلبوا منا أن نخلع ثيابنا وأن نقف عراة فوقفنا، فرشونا بالمواد الكيميائية، تماما مثلما ترش الأغنام والجواميس الجربانة، ثم حلقوا رؤوسنا بالأمواس الحادة.
صور قاتمة تقشعر لها الأبدان، يرسمها الكاتب على لسان بطله، يكشف من خلالها زيف الدعاية الصهيونية وكذب ادعائها عن بلاد السمن والعسل وعن الحرية والمساوة وصور قاتلة يرسمها، عن حياة الليل وتجارة الجنس والرقيق الأبيض، بالإضافة إلى زيف دعواهم عن الفلسطينيين وصور بشعة في التعامل معهم، بشكل متعمد ومدروس، كما روى ناغوني الذي عمل فترة من حياته زبالا وسجانا وجنديا وحارسا، مهن متعددة حاول من خلالها، إيجاد ذاته في مجتمع كان يراه حشرة ضارة لا أكثر ولا أقل.
ناغوني الصغير عمل مميز ومتفرد، سواء من حيث الشكل أوالمضمون، فمن حيث المضمون هو عبارة عن صور قاتمة لمجتمع عنصري، طالما حاول إخفاءها عن العالم، لكن هذه الرواية فضحت الكثير من جوانبها، التي تعرضنا لها وأخرى آثرنا تركها للقارئ، حتى لا نفسد عليه متعة الغوص في الرواية، أما من حيث الشكل، فقد عمد الكاتب إلى استخدام أسلوب الرسائل والمذكرات، التي رواها على لسان بطله، كتكنيك فني يخرجه من رتابة السرد، التي قد توقع القارئ في الملل وكذلك مكنته من التستر خلف ناغوني الصغير وكأنه من يتحدث إلى القارئ وليس السارد ، كذلك اعتمد شخصيات ثلاث رئيسية في الرواية هي ناغوني الشخصية المحورية وإيفا الشقراء الأوكرانية ونورا، التي ترجمت هذه المدونات وخاطرت بترجمتها وصدرها الكاتب بلغة سلسة.. شاعرية، رغم بشاعة المشاهد التي تعبر عنها، ناغوني الصغير، عمل كبير وكبير جدا، يستحق البحث والدراسة بشكل مستفيض وهذه القراءة المتواضعة، مجردة بقعة ضوء على العمل لا أكثر.
عن بروفيلي محمد نصار وحسن حميد في فيسبوك.