حقائق شائقة عن الإسماعيليين النزاريين في كتاب البولندي ييجي هاوزينسكي – مراجعة بقلم د. يوسف شحادة
لا يزال الشرق المسلم، وتاريخه المعقد، يستقطب اهتمام الباحثين والمؤرخين الأوروبيين، ولا ريب أن الشغف العلمي المعرفي غالبا ما يُعد من أهم الدوافع التي تجعل هؤلاء العلماء، ومنهم البروفيسور البولندي ييجي هاوزينسكي، يتسابقون لكشف جوانب غامضة وملتبسة من تاريخ العالم الإسلامي، الذي لا يمكن تجاهل شأنه الكبير في تكوين شخصية العالم الحديث. لذلك يأتي كتاب هاوزينسكي “الحشاشون” ليفحص ما تسرب إلى أوروبا من أخبار وأساطير عن فرقة من فرق الإسلام، دعاها الفرنجة في آدابهم “طائفة الحشاشين”، وسُميت في مدوناتنا التاريخية، العربية منها والإسلامية، بالإسماعيلية النزارية، وأحيانا قليلة بالحشيشية. إن هذا الكتاب لم يكن العمل الوحيد الذي تناول فيه هاوزينسكي موضوع هذه الطائفة، فقد كانت أولى كتاباته عن “الحشاشين”، وتلاها كتب عديدة خصها الشرق والإسلام، منها: “فرقة الحشاشين المسلمة في الكتابات الأوروبية في العصور الوسطى” (بوزنان 1978)، و”السياسة الشرقية لفريدريك الثاني هوهنشتاوفن” (بوزنان 1978)، و”التاريخ العاصف للخلافة البغدادية” (وارسو – كراكوف 1993)، و”إمبراطور نهاية العالم. فريدريك الثاني هوهنشتاوفن” (غدانسك 2000)، و”اللحن الإيراني الفاصل. تاريخ فارس في القرون الوسطى” (تورون 2008).
يحوي كتاب “الحشاشون” بين دفتيه مقدمة طويلة، وخمسة فصول، وأربعة ملاحق تتضمن مقتطفات قصيرة من مصادر مهمة مثل: مؤلف “وصف العالم” لماركو بولو، و”الكامل في التاريخ” لابن الأثير، و”تاريخ جهانكشا” لعطاء ملك الجويني. يستعرض هاوزينسكي في المقدمة معلومات تعريفية عن “الحشاشين”، فيبدأ بتوضيح هذه التسمية التي ألصقت بهم في المراجع الأوروبية، وكانت مرادفا لألفاظ تجمعها المعاني التالية: القتلة، أو الاغتياليون، أو المجرمون المرتزقة. وكما يذكر المؤلف، فهذا هو المعنى المستخدم حاليا في مراجع غربية كثيرة، منها المراجع الإيطالية. ويقدم هاوزينسكي شرحا وافيا لهذه التسمية مستعينا في ذلك بمقتبسات من مصادر قديمة، تعود إلى القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، ليكشف عن حضور هذا المسمى في المدونات التاريخية القديمة، التي وسمت الإسماعيليين النزاريين بهذا الاسم. ومن بين الشواهد المقتبسة من وثائق الفرنجة ما يعرف تلك الطائفة بمسمى شعب الحشاشين. بيد أن المؤرخين والرحالة العرب والمسلمين لم يستخدموا مثل هذا التوصيف، مع أنهم ذكروا مصطلح الحشيشية أحيانا لكنهم لم يشرحوا معناه، ولم يعلقوا على هذه التسمية، ومصدرها، وأصلها. ويؤكد هاوزينسكي أن أول ذكر لكلمة “الحشيشية” في الكتابات العربية ورد في كتاب عماد الدين محمد الكاتب الأصفهاني الموسوم ب”نصرة الفترة وعصرة الفطرة”. ويذكر بعض المراجع التي استخدمت هذا المسمى لاحقا، وأهمها كتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” للشريف الإدريسي الذي نعت الإسماعيليين النزاريين بالحشيشية. ومع ذلك فقد تضاربت الآراء حول معنى هذا المصطلح، وبقي السؤال قائما عن المقصود من كلمة “الحشاشين”؛ بيد أن الكاتب ينأى بنفسه عن المعنى الذي قصده الأدباء والمؤرخون الأوربيون، على أنه متأت من اسم المخدر المعروف. ويدرك هاوزينسكي أن المدونات التاريخية استخدمت مصطلح “الحشاشين” أو “الحشيشية” استخداما ملتبسا في نعتها الإسماعيلية النزارية به، ويفند مزاعم بعض المؤرخين والرحالة الأوروبيين، ومنهم ماركو بولو على سبيل المثال، ويدحض الأساطير التي حفلت بها كتبهم ووثائقهم. ومنها أن القتلة “الفدائيين” كان يقدم لهم مادة مخدرة، “الحشيش” أو الأفيون، ليقوموا بتنفيذ عمليات القتل الموكلة إليهم بحماسة شديدة، ودونما تفكير. ومن الجيد أن المؤلف أيضا قد كشف الخطأ الذي اقترن بلقب زعيم الإسماعيليين النزاريين في المراجع الأوروبية، فيذكر أنه نقل إلى اللغات الغربية بمعنى “عجوز الجبل”، والصواب أن الأصل العربي يكون بلفظ “شيخ الجبل”. فيشير معتمدا على معاني هذه الكلمة العربية، أن المقصود بكلمة “شيخ” في هذا الموضع ليس العجوز الكبير السن، بل هو السيد الكبير ذو المكانة أو الفضل، أي الزعيم. ومن الأمور الطريفة، التي يتوقف عندها هاوزينسكي، مزاعم ماركو بولو في ذكر أن “شيخ الجبل” قد بنى جنة تحاكي ما بشر به نبي الإسلام، محمد (صلعم)، المؤمنين من نعيم وجنات تتدفق فيها أنهار الخمر والعسل والحليب. ويروي أن “شيخ الجبل” كان يأمر بأن يُلقى إلى جنته بمن اختارهم مخدرين بالأفيون، فيُخيل إليهم أنهم فعلا في الجنة الموعودة. وبعد ذلك يستدعيهم ويرسلهم لاغتيال من يريد، وقد أقنعهم أن العائد منهم سالما سيعاد إلى الجنة التي كان فيها، ومن يمت يدخل الجنة التي بشر بها محمد (صلعم) من مات في سبيل الله شهيدا. وقد غذى غموض الإسماعيليين، وباطنيتهم، خيال مبتدعي مثل هذه الأساطير، فنمت في مخيلة الأوروبيين خرافات شتى عن سكان الشرق هؤلاء، وأصبح الحشاشون مادة خصبة لأدبائهم ومؤرخيهم.
يخصص الفصل الأول من كتاب “الحشاشون” لميلاد الإسماعيلية النزارية، والظروف المرافقة لنموها وترعرعها، والمحطات التاريخية التي عبرتها. ويعتمد الكاتب على مراجع متنوعة كثيرة العدد، عربية وأوروبية، في تناول عملية تكون هذه الفرقة، التي انشقت عن الفاطميين في القرن الحادي عشر الميلادي. وقد سميت بالنزارية لأن قادتها كانوا يدعون إلى إمامة نزار المصطفى لدين الله، ومن جاء من نسله. ونزار هذا هو ابن الخليفة أبو تميم معد بن الظاهر، المعروف بالمستنصر بالله الفاطمي، والإمام التاسع عشر للشيعة الإسماعيلية النزارية. يركز هاوزينسكي على شخصية الحسن بن الصباح – مؤسس طائفة “الحشاشين”، أو ما سمي بالدعوة الجديدة. ويسلط الضوء على دور ابن الصباح الكبير في نشر هذه الدعوة، حيث اتخذ من قلعة آلموت الحصينة، الواقعة في مناطق فارس الوعرة، اتخذ مركزا لهذه الدعوة، التي سرعان ما انتشرت في المناطق الجبلية المنيعة في فارس والشام. يسرد المؤلف في الفصل الثاني، الموسوم ب “ما قبل سنان”، وقائع تاريخية متشابكة، اكتنفها الغموض، متقصيا أخبار الشبكة الخفية المنظمة التي نشطت على الأراضي السورية، وكان من نتائج أعمالها التسلل إلى المدن، وظهور جرائم الاغتيالات الأولى. يتحدث المؤلف هنا عن حكام القلاع، وقد كان للنزاريين عشرة حصون تموضعت في المناطق الجبلية السورية الصعبة، بين ساحل المتوسط وبادية الشام، وكان عدد النزاريين في ذلك الوقت ستين ألفا، وفق تقدير المؤرخين الفرنجة. ووصل نفوذ هذه الطائفة، وتأثيرات حكمها إلى حلب، وبانياس، وحماة، ومصياف، ومدن أخرى عديدة في البر الشامي. يتناول هاوزنسكي في الفصل الثالث شخصية راشد الدين سنان، الملقب بشيخ الجبل، مسلطا الضوء على باطنيته، وقدرته الفائقة على التأثير في أنصاره، ويتشعب الحديث لينصب على تدعيم فرقته، وتوحيدها، ليصل بها إلى مرحلة التكامل. ويصف الكاتب عمليات الاغتيال، والتخطيط لها، وتهيئة الشبان المندفعين، وتلقينهم الطاعة العمياء للزعيم، باسم الإيمان الأعمى، لينفذوا جرائمهم طائعين، طامعين بالجنة الموعودة. وهذا ما دفع هاوزينسكي إلى أن يطلق على هذه الأعمال المرعبة وصفا، يلخصه بعنوان “تقنية الإرهاب”، ومع أن هذا الوصف يحيل بلغته الحادة إلى عصرنا الحديث، فهو لا يجانب الدقة والصواب في كثير من جوانبهما. بيد أن توظيف هذا المصطلح الحديث في توصيف جرائم قديمة قد يستخدم عند كارهي الإسلام من الأوروبيين في الإشارة إلى أن ما يسمى “الإرهاب الإسلامي” صفة ملازمة لطوائف هذا الدين منذ القديم. ولعل الابتعاد عن استخدام “مصطلح الإرهاب”، في نعت ما جرى في القرون الوسطى، يجعل أطاريح الكتاب أقرب إلى الموضوعية المنشودة. يدخل هاوزينسكي محراب قضية عويصة، تتلخص في محاولة فهم العلاقات الملتبسة بين نور الدين والنزاريين السوريين، من جهة، وبين سنان الباطني وصلاح الدين – عدو “الزنادقة”، من جهة أخرى. وقد تناول بالشرح المستفيض ما جرى بين صلاح الدين وشيخ الجبل من محاولات اغتيال، وانتقام، وحصار، إلى هدنة، فمسامحة، فتحالف ضد ممالك الفرنجة في سورية وفلسطين. يُخصص الفصل الرابع من الكتاب لفترة ما بعد سنان، فنرى المباحث رتبت بشكل منطقي متسلسل عاكسة الأحداث الفاصلة في تاريخ النزاريين السوريين. فبعد رحيل زعيمهم الخارق سنان، الذي توفي عام 588 هـ (1192م)، عاد النزاريون السوريون إلى الخضوع لهيمنة المركز في آلموت، وظلوا فترة من الزمن يهادنون صلاح الدين والأيوبين. وكغيرة من المؤرخين، يؤكد هاوزينسكي أن العد التنازلي لنهاية الحشاشين بدأ مع بداية الهجوم المغولي على معاقلهم وتدمير قلعة آلموت بعد حصار طويل، ثم ضربهم ومطاردتهم في حصونهم السورية. يسرد الكاتب حال النزاريين في سورية بعد انتصار الظاهر بيبرس على المغول، ودحرهم عن الشام، ويصف كيف خضع “الحشاشين” له، ودفعوا الجزية، وأصبح هو من يعين رؤساءهم ويخلعهم، إلى أن انتهت دولتهم في الشام عام 1273م. لكي يقدم المؤلف صورة كاملة عن مصير الإسماعيليين النزاريين يضع مبحثا خاصا يتناول فيه أوضاعهم في العصر الحديث، فيتحدث عن ما يحدث في سورية الآن من حرب، يسميها حربا أهلية مدمرة، واصفا حال الإسماعيليين الصعبة، وما حل بآثار أجدادهم من قلاع وحصون. يخصص هاوزينسكي الفصل الخامس من كتابه لما يسميه “ظاهرة شيخ الجبل” في سياسة الغرب وثقافته في القرون الوسطى، ويعد هذا الفصل شديد الأهمية، إذ أنه يبين حجم انشغال الأوربيين بهذه الظاهرة التي دبت الرعب في نفوس سياسييهم، وقادتهم العسكريين. وقد استند هاوزينسكي هنا إلى أبحاث مبكرة، أخرجها في كتاب أصدره في سبعينيات القرن المنصرم، تناول فيه ما كتب الأوربيون في العصور الوسطى عن طائفة “الحشاشين”. بيد أنه لا يكتفي بتقديم صورة الحشاشين في تلك الكتابات وحسب، بل أيضا يرسم صورة ملك انكلترا، ريشارد قلب الأسد، والاتهامات التي طالته بأنه معلم الاغتياليين. ويتحدث كذلك متسائلا عما يمكن أن يكون مدرسة للقتلة الخفيين، التي كان وراءها القيصر الألماني فريدريك الثاني. ويفيدنا المؤلف في مباحث هذا الفصل بمعلومات مهمة تكشف حقيقة حلفاء شيخ الجبل من الصليبيين، ومبعوثي “الحشاشين” إلى قصور الحكام الأوروبيين. ويطرح موضوعا شائقا عن حضور مقاتلي الشرق الخفيين في التقاليد الأدبية للغرب القروسطي، وبعد ذلك يختم الفصل الأخير من كتابه بالحديث عن أسطورة “الحشاشين” في العصر الحديث.
ينغي القول أن ما يميز كتاب ييجي هاوزينسكي عن غيره من المؤلفات، التي تناولت طائفة الحشيشية وتاريخها، البحث الحثيث عن الدقة، وتتبع المصادر التي حوت أخبار هذه الفرقة المسلمة، وأحوالها. إن ما ما يدفع الناقد إلى الإشادة بهذا الكتاب، ذلك الثراء الهائل في تنوع مصادره ومراجعه، وحسن استخدام المقتبسات، التي حفل بها المتن، فجاءت مؤكدة لصحة ما يذهب إليه المؤلف من أطاريح واستنتاجات. والجميل أنه لم يكتف بعرض تلك المقبوسات، بل سعى إلى محاكمتها محاكمة تحليلية، مبينا من خلال ذلك صوابها، أو تعارضها مع منطق الأمور بوضعها في مقابلة مباشرة مع ما يتعارض وفحوى سياقاتها. وما يدعو إلى الثناء على جهد المؤلف أنه اعتمد على المدونات العربية، وما أتى به مؤلفوها في حديثهم عن الإسماعيلية النزارية، ومنهم ابن الأثير، والإدريسي، وأسامة بن منقذ، وابن جبير، وابن القلانسي، وابن بطوطة، وابن خلكان، وياقوت الحموي، وكمال الدين، والقزويني، وغيرهم. وما يلفت الانتباه أن هاوزينسكي استخدم كثيرا من المصطلحات العربية، وكان حريصا على تدوين اللفظ العربي للألقاب، والأسماء، والعبارات المفصلية، التي تستوجب النظر إليها من منطلق علم المعاني. وكثير ما أشار إلى أعمال الباحثين الحديثين، الذين عالجوا قضايا الحشيشية، مثل لويس برنارد، وفرهاد دفتري، وبارليت، وروزينثال، وغيرهم، لكنه كان يفضل العودة دائما إلى المصادر القديمة، ليقارن نصوصها، ويستخلص منها استنتاجاته المنطقية. ومن الأمور التي تجدر الإشارة إليها أن هاوزينسكي يفيد مما كُتب عن الحشاشين حتى في الأعمال الأدبية الحديثة، ومن ذلك رواية “سمرقند” لأمين معلوف. أما فيما يخص المؤلفات العربية الحديثة، التي خصصت للإسماعيلية، فكان اطلاع الكاتب عليها محدودا، ولعله اكتفى بمقالات عارف ثامر، وكتابه القيم “تاريخ الإسماعيلية”، وتحديدا الجزء المخصص منه للدولة النزارية.
بعد القراءة المتمهلة لكتاب “الحشاشون – القتلة الأسطوريون في زمن الحملات الصليبية”، يمكن التوكيد وبشدة أن جهد البروفيسور ييجي هاوزينسكي أثمر مؤلفا غزير المعلومات، فيه من الأخبار والأطاريح ما يستوفي تاريخ الإسماعيلية النزارية، وما عاصرها من دول، وفرق، وزعماء، وحكام، وأحداث، وخطوب جليلة، في فترة عصيبة جدا من تاريخ المشرق العربي بالغ التعقيد. إن المنهجية المتبعة في ترتيب الأفكار، وتسلسلها على رباط جامع، قائم على سرد الأحداث، وتدعيمها بمقبوسات تدل على صدقها، أو التشكيك فيها، وإظهار ما يعارضها من نصوص مناقضة، تدحض ما أتت به من أخبار. وفي هذا كله يحضر التمحيص، والتحليل، والتعليل، فنقف على مقاربات مقنعة، لا تتعارض مع المنطلقات المنطقية لدراسة التاريخ. إن ما يشد القارئ إلى محاور الكتاب العديدة، ابتعاد مؤلفه عن السرد التاريخي الجاف، الذي يعتمد تقديم الحقائق، والتعليق على الوقائع، دون إغنائها بنبض من عاشها وروحه. ولا شك أن هاوزينسكي قد أيد نصه بلدن من روح ذلك الزمان البعيد، وأهليه، فجعلهم ينطقون بكلمات من نصوصهم في مقبوسات كتابه. إن هذا الكم الكبير من المقتطفات، المأخوذة من مصادر إسلامية وغربية متنوعة، تعمّد عمل هاوزينسكي بالمصداقية اللازمة، وتمنح القارئ المتعة والفائدة.
هوامش:
عنوان الكتاب: الحشاشون – القتلة الأسطوريون في زمن الحملات الصليبية
المؤلف: ييجي هاوزينسكي
الناشر: الدار البوزنانية، بوزنان – بولندا 2016.
لغة الكتاب: البولندية، عدد الصفحات: 376 صفحة.
*(أديب وأكاديمي فلسطيني يعمل بجامعة كراكوف في بولندا)
المصدر : الحدث