حقوق الملكية الفكرية وطُعوم كورونا- منير شفيق
تنفّس العالم الصعداء عندما أُعلن عن نزول أول طُعمين ضد «كوفيد – 19»، ثمّ تلته طُعوم ثلاثة أو أربعة. هذا يعني أنّ عام 2021 سيكون عام الانتهاء من فيروس «كورونا»، ليس كلياً، ولكن إلى حدّ بعيد. وهذا ولا شك إنجازٌ للصحة العامة، وللحياة، وللاقتصاد، والتعليم، أو قل: للعودة إلى حياة شبه طبيعية على مستوى عالمي، وعلى كلّ بلد، وشعب.
ولكن سرعان ما نشأت مشكلة مُعوّقة، أرجعت تلك الآمال أكثر من خطوة إلى الخلف. وعاد التشاؤم يتحدّث عن أنّ الخلاص النسبي من فيروس «كورونا» سيمتد إلى عام 2022، وربما 2023. ولماذا؟ لأنّ إنتاج الطُعومات وتوزيعها عالمياً، للوصول إلى مستوى تطعيم 80% أو 70% من الناس، مع نهاية عام 2021، ليس ممكناً. فقد بات الوصول إلى تلك النسبة يحتاج إلى سنتين أخريين، أو أكثر. لماذا؟ لأنّ مصانع الأدوية التي تُنتج هذه الطُعومات غير قادرة على تلبية الطلب بتلك النسبة.
هنا ينكشف السبب الجوهري. إنّه المنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية التي أعطت براءة اختراع لكلّ شركة أنتجت طُعماً، من تلك الطُعوم. ومدّة هذه البراءة التي تعني الاحتكار تصل إلى خمسة عشر عاماً. وقد قيل في تأسيس المنظمة العتيدة، إنّها الوسيلة المُثلى للتشجيع على البحث، وصرف الأموال الطائلة عليه، من أجل الاختراع أو «إبداع» الجديد، وذلك في كلّ مجال من مجالات الحياة، وفي مقدّمها، الدواء أو التكنولوجيا الطبية.
وقالوا إنّ من حقّ الشركات الكبرى ومموّليها من الرأسماليين والأثرياء، أن يُجازوا على ما خاطروا به، في الصرف على البحوث التي أدت إلى الاختراع أو “اكتشاف” الجديد، وذلك بإعطائهم براءة حقّ ملكية لهذا الاختراع، بما في ذلك إنتاجه، وتوزيعه، وتحديد أرباحه، لمدى يمتدّ إلى خمسة عشر عاماً في الأقل. ثم بعد ذلك، يمكن “تقليده” وإعادة إنتاجه بحرية، ولكن باسم آخر، من قِبَل أي شركة أخرى، في أي بلد من البلدان.
هنا اصطدمت قوانين حقوق الملكية الفكرية صداماً خطراً مروّعاً ومحرجاً، حين ذهب الأمر إلى مجال الدواء والصحّة العامة، والسلامة العامة. وذلك بالرغم من أضراره في المجالات الأخرى أيضاً، ولا سيما تلك التي تمسّ البلدان النامية والساعية للتطور. طبعاً هنا سيطول الحديث. لذلك، يجب البقاء في مجال الدواء، والذي هو اليوم الأكثر إلحاحاً وأهمية على مستوى العالم.
لم تتوقّف المنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية أمام الكوارث التي سبّبتها براءات الاختراع بالنسبة إلى الشعوب الفقيرة
باختصار: المنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية لم تلحظ، ولم تتوقف أمام الكوارث التي سبّبتها براءات الاختراع بالنسبة إلى الشعوب الفقيرة، في مجال عقاقير، لها علاقة بمرض نقص المناعة («الإيدز» أو «السيدا»)، حيث مُنعت الهند وجنوب أفريقيا، مثلاً، من إنتاج «تقليد»، أو «بديل»، للدواء الذي يمنع المُصابات بالمرض، من نقله إلى أطفالهن، في أثناء الحمل. لأنّ الثمن الذي حدّدته الشركة المعنية صاحبة البراءة يزيد عشرات الأضعاف على ثمن هذا «البديل»، ما أدى إلى أخطار شملت ملايين الأطفال ليولدوا مصابين بـ«الإيدز» في الهند وأفريقيا والبرازيل وبلدان أخرى.
أما اليوم فتكرّرت هذه المأساة – الجريمة التي تدخل في الإبادة البشرية، في موضوع يمسّ العالم كلّه، بما فيها الدول الراعية لشركات براءة الطعوم ضد «كورونا». وبناءً عليه، منعت دول العالم، والشركات كافّة، عدا الشركات «صويحبات» براءة الاختراع أو حقّ الملكية الفكرية، من إنتاج بديل – تقليد فعّال، طبعاً، وبالمقدار نفسه، للطعم الأصلي. إنّ الأزمة الراهنة ليست في عدم قدرة الشركات مالكة البراءة على الإنتاج الضخم، بل لأنّ الطلب أصبح يمسّ كلّ البشر، حيث لم يعد بالإمكان تلبية المطلوب، وبالزمن الضروري، ما لم يجمّد تنفيذ حقّ الملكية الفكرية لثلاث سنوات مثلاً. فيسمح بإطلاق العشرات من شركات الدواء التي يمكنها التدخّل لإنتاج البديل، بما يسمح بتلبية الطلب، وعلى نطاق عالمي، فيُصار إلى تجنّب الكارثة.
هنا قد تنطلق صرخة أبطال حقوق الملكية الفكرية بالحجّة الأثيرة، أنّ من حق الشركات التي ضحّت بالجهد والوقت والمال لتصل إلى الطُعم الناجع ضد «كورونا»، أن تحظى بذلك الحق الذي تعطيها إياه المنظمة العالمية لحقوق الملكية الفكرية. وذلك لتعوّض خسائرها وتجني أرباحاً أصبحت من حقّها. ولكن ماذا تقولون عن مئات الآلاف الذين سيموتون والملايين الذين سيصابون بالداء اللعين؟ وماذا تقولون عن الخسائر المادية للشركات الأخرى، بسبب «كورونا»، من مثيلات شركات الدواء المحظوظة الآن في نهب العالم، واستنزافه، بسبب هذا الحق الأخرق للمخترع في العقود الأخيرة من القرن الماضي. وماذا تقولون عن توقف الملايين عن العمل والحصول على قوت يومهم.
أولاً: إنّ حجّتكم الأصلية في مبدأ حقوق الملكية الفكرية أنّها داعية إلى التطوّر والتقدّم، ولكن لا تنسوا أنّ العالم، قبلها، تقدّم أشواطاً هائلة من دون هذه الحقوق، إن لم يكن عدم وجودها من الأسباب المساعدة على ذلك التطوّر.
ثانياً: فيروس «كورونا» فرض على العالم حرباً كونية. ومن ثم فرض حالة طوارئ تفترض تجميد كلّ ما يعترض تلك الحرب، ولا يسهل الفوز فيها. ولهذا يجب أن تسقط براءات الاختراع عن كلّ الشركات التي تمتلك حق إنتاج تلك الطعوم، ليفتح المجال رحباً لكلّ من يستطيع أن يحمل كتفاً في سدّ الحاجة، وكسب الحرب ضد «كورونا».
أما تعويض ما خسرته تلك الشركات حتى وصلت إلى الدواء الناجع، فلا خوف عليها في هذا المجال. ربما خلال الأشهر الماضية عوّضت الكثير وستعوّض أكثر حتى مع إطلاق المنافسة. ولكن أن يكون الربح أقلّ بضعة مليارات، فما هو بظلم ولا خسارة، بل عكسه يصبح جريمة وإبادة بشرية ووقاحة.
* كاتب ومفكّر فلسطيني