حل وحيد للقضية الفلسطينية – منير شفيق
ليس ثمة من قضية تحرّر وطني عرفت مشاريع حلّ مثل القضية الفلسطينية، فما من حلٍّ، حتى لو كان شديد الغبن للفلسطينيين، لقي قبولاً من قِبَل قادة الكيان الصهيوني، أو حاولت أمريكا والغرب الضغط الجدي عليهم لقبوله وتنفيذه.
وتأكدت هذه الحقيقة بعد أن وصلت التنازلات من قِبَل قيادة م. ت. ف أبعد مدى من التفريط في اتفاق أوسلو، ثم في عهد محمود عباس الذي ذهب إلى ما هو أبعد. وطبعاً لم تقصّر بعض الدول العربية، ومبادرة السلام العربية، بالتفريط وتقديم التنازلات.
منذ قرار التقسيم 181 لعام 1947، وقبله، وحتى “صفقة القرن”، قبل قادة الكيان بالبعض وتركوا البعض الآخر للتفاوض (العبثي)، وذلك لأن المشروع الصهيوني المجمع عليه من قياداته يريد كل فلسطين، ويريد اقتلاع كل الفلسطينيين وطردهم منها، والحلول مكانهم بالكامل.
على أن هذا المشروع، وطوال مائة عام من الحروب والاقتلاع والمجازر والجرائم، وعلى الرغم من ميلان ميزان القوى العسكري والسياسي عالمياً وإقليمياً في مصلحته، لم يستطع أن يحقق هدفه الكلي، وبقيت أرض فلسطين على صفيح ساخن. وراحت تعج أكثر فأكثر بمن بقوا عليها (سبعة ملايين حتى اليوم)، حيث جعلوا يتضاعفون كل عشرين عاماً، كما راح الذين هُجّروا بالقوة عام 1948/1949 و1967 يتكاثرون أكثر فأكثر، فيما جعل حنين العودة والتصميم عليها، يتصاعدان (سبعة ملايين أخرى).
أخذت حرب الوجود هذه أقصى مداها، فيما أخذت موازين القوى العالمية والإقليمية وعلى أرض فلسطين تميل الآن، وستميل في المستقبل أكثر في غير مصلحة الكيان الصهيوني، عسكرياً وسياسياً، مع دخول الكيان الصهيوني ذاتياً في مرحلة التراجع والتقهقر، ومعه تراجع وتقهقر الغرب الذي جاء به وحماه وعزّز قواه هو الآخر.
ومن لا يقتنع بهذا التقدير لميزان القوى ليتأمل حال الوضع السكاني البشري (الديموغرافيا) بعد ثلاثين عاماً، حيث سيصبح عدد الفلسطينيين أكثر من ثلاثين مليوناً، والعرب أكثر من 700 مليون، والمسلمين أكثر من مليارين ونصف المليار (حساب الأعداد هنا بالحد الأدنى).
أما الحقيقة الأخرى، فتتمثل بأن العيش في فلسطين منذ 1918 حتى اليوم، أي مع تدفق المستوطنين الذين أصبحوا الكيان الصهيوني، أفراداً وجماعات وجيشاً و”دولة”، اتسّم بوجوده على صفيح ساخن سواء بسواء بين الغزاة المستوطنين والشعب الفلسطيني، ولو كانت “السخونة” أشد على الفلسطينيين، وسوف يسخن هذا الصفيح أكثر فأكثر في قابل الأيام، كما نشهد اليوم، إذ لم يحدث مثله قط.
العقل الصهيوني والمشروع الصهيوني لم يقبلا، ولا يقبلان، ولن يقبلا أبداً، بحلّ الدولتين، لا صلحاً ولا هدنة، ولم يقبلا “حلّ” البقاء ضمن حدود الهدنة 1949، (حدود ما قبل حزيران/ يونيو 1967). هذا ولا يقبلان ولن يقبلا أبداً بحلّ الدولة الواحدة حتى تحت نظام أبارتايد، ناهيك عن دولة مساواة مواطنية؛ لأن المساواة بالنسبة إليهما “أشد مضاضة من وقع الحسام المهند”، وسيفضلان الرحيل من فلسطين، ما لم تكن لهم وحدهم.
ولهذا ليس أمامهم في حرب الوجود التي شنوها، ويشنونها على فلسطين إلاّ الاستمرار بها. فهدف الاقتلاع الكامل والإحلال الكامل هو شرط طبيعتهم، وأيديولوجيتهم، واستراتيجيتهم، ووجودهم. هذا يعني لا حلّ غير العيش على صفيح ساخن، ما داموا حين كانوا في منتهى القوة قد فشلوا في تحقيق هدفهم الكلي، أي في تحقيق ما حققه المستوطنون الأنجلوسكسون في إبادة الهنود الحمر في أمريكا.
العيش على صفيح ساخن، جيلاً بعد جيل وإلى “ما شاء الله”، سوف يصبح غير ممكن مع ميلان ميزان القوى في غير مصلحة الكيان الصهيوني، ومع المد الديموغرافي القادم فلسطينياً وعربياً وإسلامياً. أو بعبارة أخرى سوف يصبح وضعاً لا يُحتمل، وغير مقبول بالنسبة إليهم، لا سيما كلما زادت سخونته لتقرب إلى بعض ما تحمّله الفلسطينيون.
الحلّ الوحيد الذي لم يُطرَح، ولم يُجرَب، والذي سيكون الحلّ الذي لا حلّ غيره، “رضي من رضي وكره من كره”، هو رحيل المستوطنين العنصريين الاقتلاعيين الإحلاليين. أي كل المستوطنين الذين جاؤوا غزاة معتدين، وذلك بدلاً من العيش على صفيح ساخن، حيث يصبح الرحيل أفضل منه.
هذا الحل سيكون الحل العادل للجميع، وسيكون الحل الأفضل للذين سينتقلون من العيش فوق صفيح ساخن، إلى العيش في أرقى عواصم العالم في الغرب، في لندن وباريس وبرلين ونيويورك وروما. وهي مفتوحة لهم، وليس بهم حاجة إلى تأشيرات، أو أذونات إقامة وعمل، فالجنسية بانتظارهم، إن لم يكن الكثير منهم منذ الآن قد حصلوا عليها.
حقاً سيكونون محظوظين لهذا الخيار مقابل خيار العيش على صفيح ساخن، وفي حالة حرب دائمة. بل إن حكومات الغرب تحبهم وتدللهم وتمنحهم امتيازات حتى على مواطنيها، وهم أيضاً يحبونها، بل أكثرية اليهود أخذت بهذا الخيار، ولم تربط مصيرها بفلسطين من أمس ومن الآن.
وحتى وسائط النقل جواً وبحراً ستكون مريحة، إذ يمكن أن يوفر لهم أصدقاؤهم من بعض العرب تذاكر بدرجة رجال الأعمال (البيزنس) أو الدرجة الأولى، وبهذا لا يمكن أن يُتهم هذا الحل بالعداء للسامية. بل شتان بين هذا الرحيل، وما فعلوه بالفلسطينيين يوم اقتلعوهم وحلوا مكانهم، حيث كانت المجازر والخيام بالانتظار، وحيث أحضر “الصليب الأحمر الدولي” الرز والبرغل و”المرجرين” وسمك “البقلاه” لمن أصبحوا في الخيام، ودعك مما يرتكبونه الآن.
وبعد، فيجب أن يُلاحَظ أن القراءة المستقبلية في هذه المقالة اقتصرت على افتراض التطور ضمن الإطار العام من الصراع حتى الآن. ولم تتناول الإطار الذي قد تذهب إليه قيادات الكيان، ومن يشد أزرها في أمريكا والغرب إلى خوض الحروب للحسم في الميدان. وقد أخذت تتغير موازين القوى العسكرية، منذ الآن، إلى احتمال نتائج قد تفرض رحيلاً مهرولاً.
هذا موضوع يتطلب تفصيلاً موسعاً يناسبه، وكان في السابق، وما زال، لدى الكثيرين يفرض تغليب توقعه، ولا توقع غيره، وهو ما كانت تتضمنه استراتيجية التحرير فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، رداً عليه. إنها حروب العدوان وحروب التحرير.
على أن مرور السنوات الأخيرة، حيث وُضع قرار الحرب على الطاولة من قِبَل أمريكا والكيان الصهيوني لتصفية الصواريخ الموجهة من قطاع غزة ولبنان وإيران، من دون أن ينفذ، سمح بجعل الإطار الذي ركز عليه أن يكون قابلاً للتفكير. فالأصل أن يُحسَم الصراع بالحروب الحاسمة، كما بدأ، وكما استمر، وكما هو القانون الحاكم في الاستراتيجية الاستعمارية الإمبريالية الغربية، والقانون الحاكم في استراتيجية الكيان الصهيوني. ولكن عندما تصبح الحرب في هذه الاستراتيجية غير مضمونة النصر، أو قد تصل إلى الدمار الشامل، أو تتعرض لخسائر لا تُحتمل، تتحول إلى حرب باردة طويلة الأمد، أو إلى حرب عيشٍ فوق صفيحٍ ساخن، هي حرب أدنى من حرب حاسمة أو شاملة، مع بقاء حرب الحسم على الأجندة.
احتمالان أو إطاران للصراع سينتهيان برحيل من احتلوا فلسطين ظلماً وعدواناً.