حوار مع سيادة (العميد!) – د. أيوب عثمان
حوار مع سيادة (العميد!) – د. أيوب عثمان
غرّد هاتفي الخليوي، معلناً أن هناك من يرغب في الحديث معي. فتحت الخط لأُبلغَ بأن الكتاب الذي كنت قد أرسلته- على نحو رسمي- قبل ساعة أو نحوها، إلى سيادة العميد، عبر رئيس القسم، قد رفض السيد العميد استلامه، على الرغم مما فيه من شأن ينبغي له أن يتابعه وينهض به، انطلاقاً من مسؤوليته وصلاحياته واختصاصه. سألت محدثي عن سبب رفض العميد استلام كتابي، فكان جوابه صدور قرار بفصلي من العمل. شكرت محدثي وودعته لأنصرف إلى الاتصال، فوراً، بسيادة العميد.
قلت: مرحباً، سيادة العميد!
رد بغلظة قائلاً: أهلاً!
قلت: أتمنى أن تكون والأسرة بخير، سيادة العميد!
ردّ وكأنه لم يقرأ الآية الكريمة “وإذا حييتم بتحيّة فحيّوا بأحسن منها أو ردوها”: كويس
قلت: أرسلت لك كتاباً، سيادة العميد، قبل ساعة أو نحوها
قال: صحيح، و….
سألت: صحيح، وماذا؟!
أجاب: صحيح، وصل منك كتاب، ولكن…
سألت مقاطعاً: ولكن ماذا؟
أجاب: وصل منك كتاب، ولكن أنا لم أستلم الكتاب!
سألت مندهشاً: كيف يكون كتابي قد وصل إن لم تكن قد استلمته؟!
أجاب: وصل الكتاب، ولكنني رفضت استلامه.
قلت للتأكّد من جوابه: إذاً، فأنت اطلعت على الكتاب، وقرأته، وعرفت ما فيه، ثم رفضت استلامه
قال: نعم
قلت: ولكن الكتاب الذي رفضت سيادتك استلامه، إنما يخصّ قرار فصلي
قال: ولو!
سألت مستنكراً: كيف ولو!
أجاب: أنا رفضت استلام الكتاب، وأرجو ألا ترسل لي أي شيء يخصك بعد اليوم!
سألت: لماذا؟
أجاب: لأنك أنت الآن مفصول من العمل، ولم تعد لك أي علاقة بي، بصفتي العميد!
قلت: ولكن الأمر لم ينتهِ، سيادة العميد!
رد بغلظة الجاهلين: لا يا سيدي، الأمر انتهى، بل انتهى تماماً
قلت: علم الإدارة، يا سيادة العميد، يقول: إن الأمر لا ينتهي على هذا النحو بشكل عام، فكيف له أن ينتهي إن كان معي أنا بشكل خاص؟!
قال مكابراً: أرجوك يا دكتور، وضعك معنا انتهى وإلى الأبد!
قلت: هناك في علم الإدارة، يا سيادة العميد، شيء اسمه “طي القيد” أو “طي الملف”. أما”طي القيد” أو “طي الملف” فمعناه طي كل شيء كان بين دفتي ملف موظف إما بالاستقالة الطوعية أوالحُكميّة، أو بالموت، أو بالعجز الطبي الحركي أو العقلي، أو بعقوبة السجن على جريمة مخلّة بالشرف أو الأمانة أو الخيانة العظمى… إلخ.
قال بضعف واستكانة: الله يخليك يا دكتور ما تتْعبْني. أنا ما إلي في هذا الكلام وما إلي في القانون والمحاكم وشوف حد غيري الله يرضى عليك.
قلت: ليس لي إلا أنت يا سيادة العميد! أنت الواجهة وأنت البوابة وأنت المرجعية وأنت “الكل في الكل”، وبناءً على ذلك فليس مقبولاً وليس معقولاً أن تقنع نفسك أو غيرك بأنه لا علاقة لك بأمري. أمري عندك يا سيادة العميد وأمري معك، ما دمت عميداً، سواء رغبت أم رفضت، إلا في حالة واحدة لا غيرها ولا سواها.
سأل محاولاً لملمة نفسه: ما هي هذه الحالة الواحدة؟!
أجبت: أن تعترف أنك لست إلا “ساعي بريد”! لا… لا… عفواً، بل أن تعترف أنك لست إلا “بوسطجي”!
قال متكدراً وراجياً: يا دكتور ما في داعي لهذا الكلام… مرة “بوسطجي” ومرة “ساعي بريد”! عيب يا دكتور!
قلت حازماً: اسمع يا سيادة العميد… إن كنت على قدر اسمك وصفتك وموقعك، فإن عليك:
أولاً: أن تفهم كيف تقرأ!
ثانياً: أن تتعلم كيف تجيد قراءة ما تقرأ!
ثالثاً: أن تفهم معنى المسؤولية والاختصاص والصلاحية!
رابعاً: أن تلتحق بمستوى الألف باء في علم الإدارة كي تفهم أن قرار الفصل الصادر ضدي لا ينهي حربي ضد الفساد الذي كشفته وأقمت الحجة عليه، كما لا ينهي علاقتي مع جهة عملي لان قيدي أو ملفي الوظيفي لم يُطوَ بعد
قاطعني وهو يحاول استرداد ذاته، قائلاً: اسمع يا دكتور ملفك طوي وشبع (طَوي!)
سألته مشفقاً عليه: كيف يكون قيدي أو ملفي قد طوي أو شبع طياً؟ وكيف ترفض استلام كتاب مني متذرعاً بقرار فصلي في وقت كنت قد تسلمت فيه قرار فصلي عن طريقك وعن طريق عمادتك يا سيادة العميد؟!
قال والقلق يكبّله: بس يا دكتور لو سمحت…
قاطعته قائلاً: ما تْبِسْبِسْ واسمعني للآخر. لقد تحدثت كثيراً، والآن عليك أن تسمع فقط: لقد تسلمت عن طريقك قرار فصلي، ولما اعترضت عن طريقك على قرار فصلي لم تقوَ على استلام كتاب اعتراضي لإحالته للجهة المسؤولة، ثم تسلمت عن طريق عمادتك كتاب الخصومات المالية التعسفية ضدي، ولما اعترضت على تلك الخصومات عن طريقك أيضاً، تملكك الضعف ولم تقوَ حتى على استلام اعتراضي على تلك الخصومات. واليوم، وبعد أن بِتَّ محصناً بقرار محكمة العدل العليا الذي كان ينبغي لك قبل اليوم أن تفهم أنه لا يرد ولا يطعن فيه ولا يستأنف عليه، آمراُ “بوقف تنفيذ قرار فصلي وتمكيني من عملي ومحاضراتي لحين البت النهائي في الطلب، فقد أرسلت لك قبل نحو ساعة كتاباً أرفقت فيه قرار المحكمة، مطالباً بتنفيذه، لكنك رفضت استلامه أيضاً، الأمر الذي يعني أنك لست أي شيء على الإطلاق، حتى صفة “البوسطجي” لم تعد أنت الآن على قدرها، ما جعلك ترفض استلام كتابي المشفوع والمؤيَّد بقرار المحكمة… لقد رفضت مجرد الاستلام لأنك لا تملك حتى ولو شجاعة ضئيلة تمكنك من الاستلام ثم التسليم إلى من هم فوقك. الآن الآن فقط أعترف أنني بدأت أفهم ما يؤهل الضعفاء والجبناء والفاسدين والمنافقين والطبطبائيين إلى كراسي الاعتلاء والمنتفخين المتورمين والمنتفعين.
أما آخر الكلام، فليهنأ كل بلقبه، رئيساً كان أو جنرالاً أو عميداً أو “بوسطجياً” أو خادماً أو مرافقاً أو حداداً، ولكن ليس أقل من أن يفهم كل صاحب لقب لوازم لقبه واستحقاقاته، وهو ما قاله الشاعر في الألقاب وقيمتها وعلاقتها مع حامليها:
وليس يزدان بالألقاب حاملها بل يزدان باسم الحامل اللقب
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة