حيفا تحتفي بشوقيّة عروق منصور! – آمال عوّاد رضوان
برعاية المجلس الملي الأرثوذكسي الوطني الحيفاوي أقام نادي حيفا الثقافي أمسية احتفائية بالكاتبة شوقية عروق منصور، وذلك بتاريخ 1-12-2016 في قاعة كنيسة القديس يوحنا المعمدان الأرثوذكسية في حيفا، ووسط حضور كبير من أدباء وشعراء وأصدقاء وأقرباء، وقد تولى عرافة الأمسية الإعلامي رشيد خير، بعد أن رحب رئيس ومؤسس نادي حيفا الثقافي المحامي فؤاد نقارة بالجمع، وتحدث في الأمسية كلٌّ من د. محمد هيبي، والشيخ عبدالله نمر بدير المناصر لحرف شوقية المرأة، وفردوس حبيب الله، وفي نهاية اللقاء تمّ تكريم المحتفى بها من قبل النادي والمجلس الملي، والتي بدورها شكرت الحضور والمنظمين والمتحدثين، وتمّ التقاط الصور التذكارية!
مداخلة عريف المسية رشيد خير: أحبّتي الحضور بمسمّياتكم ونشاطاتكم واجهاداتكم، أرجو لكم في هذه الأمسية طيبَ غزارةِ مطرٍ وغزارة دفء مُدثّرَين بالمتعة والإثراء. ورغم ما يقال من تحفظات “أنّ أمّة اقرأْ لا تقرأ” وما يجاورها من أقاويل، إلّا أنّ حركتنا الأدبيّة المَحليّة في الداخل تشهد في هذه المرحلة ازدهارًا وَرُقِيًّا ونضوجًا(، وأستثني طبعًا الدخلاء على الإبداع، ولا أغالي إن قلت: إنّ فضلًا جمًّا وعظيمًا لهذا الازدهار هو تحفيز وتشجيع نادي حيفا الثقافيّ التابع للمجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ الحيفاويّ، فمن على منبرِه هذا يُطلُّ أدباؤُنا على اختلاف نزعاتهم الأدبيّة والسياسيّة وانتماءاتهم المذهبيّة والجغرافيّة، يُثرون بيادرَنا الأدبيّة في جميع فنون الأدب بإحساسٍ وحميميّة، فللمحامي فؤاد نقاره وزوجته سوزي، وللمحامي حسن عبادي وزوجته، ولكلّ مَن يعطي ويتكاتف لدفع هذه المسيرة انحناءةَ إجلالٍ وإكبارٍ على هذا المجهود العطائيّ السخيّ. يقف القيّمون على نادي حيفا الثقافيّ أحيانًا أمامَ إحراجٍ وحيرةٍ في انتقائهم لشخصيّات المنصّة، فهناك من الدخلاء مَن يُحاولون فرض أنفسهم عليها بدونِ جداره تستحق، فتكون النتيجة تدنّي مستوى الإبداع، ونفور الحضور الراقي والجميل، وتحضرني في هذا السياقِ قصيدةٌ بعنوان “مديح الشعر العالي” لشاعرٍ لم يعُدْ أخي، يقول نزيه خير في ديوانه “ثلجٌ على كنعان” الصادر عام (1995):
اللهم اجعلني زنبقةً/ نزعوا عنها كلَّ صفاتِ الزهرْ/ وأشاحَ الرونقُ عنها/ وأشاحَ العِطرْ/ حرَّمتُ على نفسي همَّ العشقِ/ وهمَّ الحرفِ وقولَ الشعر/ وشددتُ رحالي/ تحملني كِنعانُ الحُلوةُ/ من حرِّ الصحراءِ الى عبقِ البحرْ../ أيتها النفسُ الموسومةُ بالحزن انتظري/ أأقولُ انتظري/ وأقولُ الصبر !؟
واسعةٌ جدًّا يا خيمتَنا الفضفاضةِ/ يا خيمتَنا الممتدةِ من ليلِ العباسيين/ الى مطلعِ هذا العصرْ/ يدخُلُك الخِسَّةُ والدجّالونَ/ وأصحابُ اللحنِ/ وأتباعُ العُهرْ../ لم يبقَ لدينا جمهورٌ يهتفُ للشعراءِ/ فأينَ جماهيرُ الشعر؟/ لم يبقَ لدينا دجّالٌ او موتورٌ/ إلّا واغتصبَ الشعر../ لو كسرَ الجرةَ عمدًا/ وسقى الارضَ شرابًا/ لأقمنا فرحًا في عشرِ ليالٍ/ وأعدنا في سِفرِ النابغةِ المولودِ/ على ذكرِ قبائلنا/ أيامَ العربِ العصماء/ جعلنا أيّامًا حُرُمًا للسّلمِ/ وأيّامًا أُخرى للشعر ../ لكنّكَ لا تفتحُ في هذا الزمنِ السيّءِ بابًا/ إلّا وترى متّهمًا بالشعر/ لا يعرفُ كيفَ يكونُ الفعلُ الماضي/ ويكون الأمر../ ويُعلّمُ جيلاً من رُوّاد الامةِ/ كيف يكون الشعر
واسعةٌ جدًّا يا خيمتنا الفضفاضةِ/ من ليلِ العباسيينَ/ الى آخرِ هذا العصر/ أهلا بعليا بنتِ المهديِّ/ أدّبها الظبيُ/ وعلَّمَها أوزانَ الروحِ .. وأوزانَ الشعر/ تعِبتْ دهرًا/ حتى أعطاها الكَهّانُ كتابَ المنتخباتِ/ أجازوا حُرقَتها في قولِ الشعر/ يا سبحانَ الخلاقِ المُعطي!/ في زمنٍ مزدحمٍ بالشعر/ هل صادفتَ طوابيرَ الحُسنِ/ وطلاتِ الإبداعِ/ وهنَّ يمارسنَ مضاجعةَ الشعر../ أيتها الخنساءُ انتصبي/ كي نبكي، ليسَ على صخرٍ/ بل نبكي زمنَ الشعر
اسم فارسةَ هذا المساء ممهورٌ بتاء المؤنث، وداخلَ هودجٍ مزركش ببريق الحروف وأصالة الجذور، تحرسه رقوة الصدق والشفافيّةِ ورقّةِ المعاني، تجلس قاصّةٌ وشاعرةٌ كاتبةٌ وإعلاميّة، قبل أن تُبصرَ أعيُنها النورَ، نزح أهلُها بعد نكبة عام 1948 من المجيدل إلى الناصرة، لتقاذفها أمواج القدر أو ربّما الهَيام، لاحقا، إلّا حضن الكاتب والمُربّي تميم منصور، ليبنيا عُشّا زوجيّا في مدينة الطيرة، وقد بدأت الكتابةَ منذ صغرها، ونشرت زوايا ثابتة في الصحف والمواقع المحليّة: كزاوية “تقاسيم” في الصنارة، و “نصف القمر” في كلّ العرب، و” قل كلمتك وامشِ” في بانوراما، ولها مقالات أسبوعيّة في صحيفة الاتحاد ومواقع عديدة أخرى. برزت بشكلِ خاصّ في زاويتها “دبابيس” في برنامج فنجان قهوة على أثير صوت إسرائيل مع الإعلاميّة إيمان القاسم سليمان، فضلًا عن نشاطها السياسيّ والاجتماعيّ، فالأديبة شوقيّة عروق منصور تكتب الشعر والقصّة القصيرة والخاطرةَ والمقالة الاجتماعيّة والسياسيّةَ، وقد أصدرت حتى الآن أحد عشر مؤلفاً.
مداخلة د. محمد هيبي بعنوان الكاتبة شوقيّة عروق تستعيد سرير يوسف هيكل: بالطبع، لا أستطيع الحكم على مسيرتها الأدبية، إلّا من خلال مجموعتها الأخيرة، رغم أنّ لها الكثير من الإصدارات في مجال القصة والشعر والمقالة السياسية. إنّ تجربة الكاتبة غنيّة، فاسمها حاضر في المشهد الثقافي والأدبي، بغض النظر عن موقعها الفكري والسياسي. أقول هذا لأنّني أعتقد، أنّ تحوّلا فكريا سياسيا، قد حدث لديها مؤخرا. فقد كانت تنتمي لإطار مختلف، وما كانت لتتركه لولا ذلك التحوّل الفكري والسياسي الذي حدث لديها. وأنا، رغم انتمائي السياسي الواضح والثابت للحزب والجبهة، لم أكن منتميا لأيّ اتحاد أدبي. ما أريد قوله هو أنّنا اليوم، أنا وشوقية عروق، ننتمي إلى اتحاد أدبي ثقافي واحد، هو اتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين. هذا التحوّل الأدبي والتنظيمي لديها، قد سبقه بلا شكّ، تحوّل فكري وسياسي معيّن، قد يكون أثّر على كتاباتها. المجموعة القصصية، “سرير يوسف هيكل” تضمّ ثلاثا وثلاثين قصة، وجدت فيها أنّ الكاتبة قطعت شوطا ملموسا في كتابة القصة القصيرة.
تعكس المجموعة، أنّ الكاتبة أصبح لديها خبرة ليست قليلة في كتابة القصة. فهي تتقن طرق السرد والتعامل مع الضمائر على اختلافها، ولكنّ عملية التنويع والتنقّل بين الأصوات المختلفة، تواجه ضعفا يكاد يكون ملاحظا في معظم قصصها. هذه العملية ليست سهلة، لأنّها لا تتلاءم كثيرا مع القصة القصيرة التي لا تتسع للكثير من الأصوات، وتعتمد غالبا على الصوت الواحد. وهذا الأمر، إلى جانب التنقّل بين الأحداث، يُؤثر على سلامة الحبكة، التي يرى القارئ أنّ الكاتبة تجتهد لتخرجها قوية متماسكة، إلّا أنّها تفلت منها في بعض قصصها فتترهل وتفقد بعضا من تماسكها. ومع ضرورة تفادي هذه العيوب، إلّا أنّنا نجد أنّه حتى كتّاب القصة القصيرة الكبار، يقعون في مثل هذا المطبّ أحيانا.
الأمر ذاته، قد نلاحظه في لغة الكاتبة، لغتها غالبا قوية كثيفة تتنقّل بين مستوياتها المختلفة وتساعدها على انسيابية السرد، بينما نجدها تخونها أحيانا، فتقطع تلك الانسيابية. في لغة الحوار مثلا، تدمج أحيانا بين الفصحى والعامية بدون داعٍ. ويُلاحظ في لغة الكاتبة أنّها مولعة بالوصف، وخاصة في بحثها عن عبارات وأوصاف خارجة عن المألوف، وكثيرا ما تنجح، إلّا أنّها أحيانا ترهق القارئ بعبارات تقطع غرابتها انسيابية القراءة ومتعتها. أضف إلى ذلك بعض الأخطاء اللغوية أو المطبعية التي تشوّش فكر القارئ وتنزعه من اندماجه أو انسجامه مع النص. ولكن، جدير بالذكر أنّ الكاتبة في كثير من نصوصها تعتمد في لغتها على السخرية. والسخرية في الأدب، هي من أقوى التقنيّات، من جهة للتعبير عن ألم الكاتب وألم أبطاله، ومن جهة أخرى للتعرية والفضح. والكاتبة في نصوصها، تحرص على تعرية المجتمع والسلطة السياسية وفضحهما.
في معظم قصصها، رغم أنّها تفسح للحلم حيّزا ملموسا، تعتمد شوقية عروق الاتجاه الواقعيّ، بأبعاده الاجتماعية والسياسية بشكل خاص. وهي تُعطي للمرأة بشكل خاص أيضا، حيّزا ملموسا تحاول فيه أن تنتصر لها، خاصة تلك المرأة التي تعاني الظلم والاغتراب في مجتمعنا، ولكنّها وبشكل لاواعٍ، لا تخفي ظلم المرأة للمرأة أو استغلالها لها، كما يبدو ذلك في قصتي “سوار تحمل حزاما ناسفا” و”سيدات يوم الجمعة” وبشكل خاص (ص172)، في قصة “هزيمة رجل أمام كمّامة الصمت”. في هذه القصة أيضا، يجدر التوقف عند كيفية تعامل المرأة مع الرجل! لا شكّ عندي أنّ مجتمعنا مجتمع ذكوري يقمع المرأة ويُهمّش دورها، وهذا ما أرفضه بالطبع. ولكن أرفض أيضا أن تتوجّه المرأة إلى الحلول الخاطئة. مثل القتل مثلا أو التفكير فيه لحلّ مشاكلها. فما معنى أن تشدّ الزوجة الكمامة على وجه زوجها وتضع السكين جانبا بعد أن شعر بالعجز؟ إذا كانت المرأة لا تستطيع العيش، أو تحقيق ذاتها إلّا مع رجل مهزوم أو عاجز، فذلك يعني أنّها تستحقّ ما يفعله بها. الرجل يجب أن يتعامل مع المرأة كشريك ورفيقة درب، والمرأة كذلك يجب أن تنظر إلى الرجل من المنظور نفسه، لكي يستطيعا معا خلق مجتمع يكون فيه الاحترام متبادلا بين الأنا والآخر عامة. وبين الرجل والمرأة بشكل خاص. ولكن، كل هذا لا يعني أن شوقية عروق تكتب أدبا نِسْويّا، بل أدبًا إنسانيّا يتسع لكل أبناء مجتمعها وشعبها الفلسطينيّ، في الداخل بشكل خاصّ. ولذلك نجدها في فضاءات قصصها تمنح الناصرة حضورًا بارزا، ولكنّها قد تخرج إلى مدن وقرى أخرى في الداخل، ولا تخشى أن تدخل المطار وتل أبيب وحتى “بني براك”. بمعنى أنّها تُدرك في قصصها أنّ هناك الآخر غير العربي، وتُدرك خصوصية العلاقة به سلبا أو أيجابا.
شوقية عروق في قصصها، تعاني من التشظّي النفسي والشعور بالضياع والاغتراب، وهو شعور يُلازم معظم شخصياتها، خاصة النسائية. وهذا يعني أنّ الكاتبة تعيش بصدق، معاناة الإنسان الفلسطيني عامة وفي الداخل بشكل خاصّ. فهو حيثما وجد لا يُفارقه هذا الشعور. وإذا كانت تمنح نهايات قصصها بعض الأمل، فذلك لا يخفي تشاؤمها وشعورها بالإحباط في كثير من قصصها. هذا واضح في قصة “سرير يوسف هيكل” وغيرها، وسأتحدّث بإيجاز حول عتبات النص في المجموعة، وحول نموذجين من قصصها.
عتبات النص، هي كل ما يسبق النص من غلاف، عناوين، إهداءات، فهارس، مقدمات، نصوص ممهّدة وغيرها. هذه العتبات هي مداخل تحمل مفاتيح أساسية لدراسة النص وفهمه ونقده. وقراءة هذه العتبات قراءة سيميائية، تعني أن نتعامل مع هذه العتبات كإشارات أو علامات لها وظائف دلالية هامّة، منها التعيين والإيحاء والإغراء، وكلّها قد تُؤثّر على القارئ، فتشدّه إلى النصّ أو تُنفّره منه.
في المجموعة التي بين أيدينا، لفت نظري بشكل خاص عتبتان للنصّ، عنوان المجموعة، “سرير يوسف هيكل”، وصورة الغلاف التي يتصدّرها السرير وخلفه مبنى أثريّ قديم جار عليه الزمن، بينما يُشكّل البحر خلفية واضحة لهذه المعالم. وبما أنّني لم يسبق لي أن سمعت عن يوسف هيكل وعلاقته بيافا، وبالسرير والمبنى الأثري، رُحت أبحث عن القصة التي تحمل المجموعة عنوانها. معنى ذلك أن الكاتبة كانت موفقة في اختيارها لهذه العتبات، لما فيها من إيحاء وإغراء، يشدّان القارئ إلى ولوج النص. ولذلك بدأت قراءة المجموعة بقصة، “سرير يوسف هيكل” (ص148).
بعد قراءة المجموعة كلها اخترت الحديث عن قصّتين: “أحلام بائع فلافل” و”سرير يوسف هيكل”. هاتان القصتان، تمثل الأولى منهما الاتجاه الاجتماعي وتأثيره على الاتجاه السياسي، بينما الثانية تمثّل الاتجاه السياسي وتأثيره على الاتجاه الاجتماعي. وكلاهما تمثلان واقعا اجتماعيا وسياسيا يعيشه الإنسان الفلسطيني، على المستويين: الفردي والجمعي.
في قصة “أحلام بائع فلافل”، ومن خلال أحلام اليافع، بطل القصة، الذي يحلم بحياة يستمدّها من أفلام رعاة البقر (الكاوبوي)، لما فيها من حركة درامية يرى فيها البطل تحقيقا لذاته وأحلامه، الأب يدوس أحلام ابنه، باعتبارها وهماً يدلّ على فشل الابن. ويتابع الأب دوس أحلام ابنه حتى حين يتّخذ من صور أخيه الذي اختفى، نموذجا يُحتذى، حين علمت العائلة أنّه “التحق بإحدى المنظمات الفلسطينية وأصبح فدائيا، وقد وصلت إليهم صوره مرتديا اللباس العسكري المرقط وفي يده رشاش. وبدأ جسده (أي الأخ) يدخل في حلمه” (ص 12). هذا الحلم أيضا لم يرق للأب بحجّة ما جاء في (ص 13): “الفسّادين بفسدوا علينا يابا، … بخاف يعملوا من الصور قصة طويلة عريضة … خليك في الكاوبوي أحسنلك …”. وبعدما يُوفر الأب لابنه “كشك فلافل” ليعمل فيه، نزولا عند رغبة الأم التي رأت بابنها ولدا ذكيا، أحلامه تُعبّر عن رغبته بالابتعاد عن المدرسة، انتبه هو، أي الابن، أثناء عمله، أن كل شيء يسخر منه وأنّ شيئا ضاع منه، فبدأ يشعر أنّه مجرّد قرص فلافل منتفخ بالعجز والترهّل …!” (ص 14). في هذه القصة نرى كيف أنّ المجتمع الجاهل والعاجز، المتمثّل بالأب والأم، لا يُحسن توجيه أبنائه، يقتل أحلامهم ويصنع منهم نماذج للجهل والعجز. وهذا يمنع تطورّهم الاجتماعي والسياسي كأصحاب قضية يجب أن يُدافعوا عنها.
في القصة، توجد إشارة واضحة إلى التخلّف الاجتماعي المتوارث في المجتمع العربي، وإلى العجز السياسي الناتج عن هذا التخلّف الذي ساعد في ضياع الإنسان وضياع الوطن. وهناك إشارة إلى أنّ التخلّف والعجز، ولّدا الفساد الاجتماعي والخوف منه، متمثّلا بالوشاة، الفسّادين عملاء السلطة، وخوف الأب من شرّهم. وبما أنّه “شرّ أهون من شرّ”، رضخ الأب لحلم ابنه الأول، حياة فتيان الكابوي، التي لا طائل منها. ما يعني ترسيخ الفشل.
أما في قصة “سرير يوسف هيكل”، فقد استطاعت الكاتبة أن تحملني من الميكرو إلى الماكرو، من الصغير إلى الكبير، أو من الخاص إلى العام، أو من الجزء إلى الكل. فلم تعد المأساة مأساة السرير من إهمال وتقطيع ثم اهتمام تجاري، أو ما أسمته الكاتبة، “سوق الأثاث المستعمل المزروع بالدكاكين التي تعرض الأثاث بطريقة الخبث التجاري” (ص 149)، وإنّما صارت مأساة أكبر بكثير، هي مأساة فلسطين التي قُطّعت وبيعت في أسواق الخبث السياسي، وصار سرير يوسف هيكل معادلا موضوعيا لفلسطين ويوسف هيكل صار هو كل فلسطيني له نكبته الخاصة والعامة. ولا أدري إذا كانت الكاتبة، أو منسّق الكتاب، قد انتبها لتثبيت هذه القصة ص148، وسواء كان ذلك عن قصد أو بدون قصد، فإنّ الرقم 48 الماثل هناك، له دلالاته في نفس كل إنسان فلسطيني، ويُؤكّد أنّ المأساة ما زالت حاضرة، كما أن الاقتلاع والنهب والبيع والتقطيع والخراب، كلّها ما زالت ماثلة تنهش في نفس الكاتبة وفي نفوسنا جميعا. وتقطيع السرير وبيعه في سوق البضائع القديمة، لم يعد تقطيعا للحديد، والبيع ليس مجرد حركة تجارية، وإنّما التقطيع هو تقطيع في اللحم الحي، يُعبر عن تشظّي النفس الفلسطينية، والبيع يُعبّر عن منفاها واغترابها.
تقوم القصة على حدث مركزي واحد، هو تقطيع السرير علي يد ابن الرجل الذي اشتراه، وهذا الرجل، ينظر إلى عملية التقطيع، بحزن وحسرة وعجز، والشعور بالعجز، يتمثّل بـ (دفن البارودة وعجز الأب عن منع عملية التقطيع، وبالدموع التي يذرفها وهو يرى ابنه يُمارس عملية التقطيع). ولهذه العملية دلالات كثيرة. فقد تكون بالنسبة للابن، محاولة للتخلص من عبء الماضي، أي النكبة، الذي أرهقه وكشف عجزه السياسي أو الاقتصادي. ولكنّ الدلالة الأهمّ والأكثر حزنا في نظري، هي أنّ عملية التقطيع الجارية في فلسطين حتى اليوم، لا تمارسها عناصر خارجية فقط، وإنّما داخلية أيضا. ومن هذا الحدث، تقطيع السرير، تتداعى الذكريات ويغوص الراوي في الماضي بما يحمله من مأساة السرير التي تسقطها الكاتبة على نكبة فلسطين واستمرارها، حيث نرى التاجر اليهودي يُنكر معرفته بأصل السرير وكونه منهوبا من بيوت المهجّرين من يافا. وإنكار هُوية السرير، هو رمز لمحاولة إخفاء الهُوية الفلسطينية ومحوها. واستعادة السرير تُمثل فرح التمسّك بالهُوية، لأنّ بطل القصة يشتريه ليوم فرحه وزواجه، ولكنّ الاستعادة، تمرّ بعملية بيع وشراء يكتنفها الكثير من الخبث والمساومة السياسية المستمرة حتى يومنا، ما يجعل الخراب والضياع، ماثلين أمام عيني الكاتبة، ويكشف ألمها وقلقها من استمرارهما.
ورغم أنّ لدى الكاتبة، في هذه القصة وغيرها، الكثير من التشاؤم والإحباط، إلّا أنّها لا تفقد بصيصا من الأمل. فإن كان الشاب قد قطّع السرير كبداية للتفريط به، نتيجة للظروف الراهنة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، إلّا أنّه لم يُفرّط بالكرات الذهبية الأربع التي كانت تُزين أطراف السرير. يقول الشاب لأبيه:
طيب يابا، علشان صاحبك “أبو هيكل” راح أخليلك هدول …!!
وناوله أربع كرات ذهبية اللون، حيث ما زال الدهان (الطلاء) الذهبي متوهّجا …!!!
هذه النهاية المتفائلة، لا نجدها في قصة “أحلام بائع فلافل”، ما يعني أنّ النهايات لدى الكاتبة، ليست دائما متفائلة. ما يعني أيضا أنّ خراب الواقع الذي يدفع للكتابة، ما زال مُسيطرا يُفقد الكاتبة قدرتها على التفاؤل.
وقد يُؤكّد ما أدّعيه، لجوء الكاتبة أحيانا إلى السخرية السوداء اللاذعة التي أعتبرها أقوي وأصدق أسلوب للتعبير عن القهر وضرورة فضح أسبابه واستفزاز الذين يُعانون منه. لضيق الوقت، سأكتفي بنموذج واحد.
السخرية كتقنيّة فنيّة، تقوم على 4 تقنيّات أخرى هي: المفارقة والتناقض والمسخ واليوتوبيا، أو المثالية. في قصة “أحلام بائع فلافل” نموذج جيد للسخرية المبنية على المفارقة والتناقض والمثالية، كتعبير عن الألم والقهر والعجز. فالأب الذي نعت ابنه بالفاشل لأحلامه بأبطال الكاوبوي، تراجع عن موقفه وناقض نفسه حين قال لابنه “خليك في الكاوبوي أحسنلك”. وهذا الموقف لم يكن متوقّعا من الأب، لولا أن جاءه اللامتوقّع، حلم ابنه بشخصية أخيه الفدائي، فقهره وأرغمه على التراجع. والعبارة نفسها، “خليك في الكاوبوي أحسنلك”، أصبحت وضعا مثاليا بالنسبة للأب إذا ما قورن بالوضع الآخر المرفوض، أي التشبّه بالأخ الفدائي.
وختاما، شوقية عروق كاتبة مستفَزَّة ومستفِزَّة، في لغتها ومضامينها، استطاعت في معظم قصصها، أن تُذكّرنا وتحذّرنا وتحرّضنا
مداخلة فردوس حبيب الله: أسعد الله مساءكم بلغةٍ تنبض بدفءِ المعاني في حضرة الشعر والأدب والمطر، إنّنا نحتفل اليوم بالكاتبة شوقية عروق منصور وبمنتوجها الأدبي عامة، وكتابها “الخرائب المعلقة” على وجه الخصوص. إن أول ما يسطع في ذاكرتي عند ذكر اسمها جملةُ “نسوانها قلال”. كانت هذه الجملةُ كافيةً لأن أرسم للكاتبة شوقية عروق منصور صورةً بملامح القوة التي تميز المرأة الفلسطينية المثابرة. تكتب شوقيه عروق منصور أنواع أدبية عديدة كالمقال السياسي والقصة القصيرة والشعر والنثر، استطاعت من خلالها مجتمعة أن تكون هي. قرأت لها العديد من النصوص النثرية والقصص والنصوص الشعرية أيضا، وأستطيع أن أبوح بكل صراحة بانحيازي لنصها القصصي الذي حمل مضامين حساسة جدا وهامّة، على أشرعة لغوية في غاية الجمال والروعة، واذا ما أمعنا النظر في المضامين التي تتناولها الكاتبة في نصوصها النثرية والشعرية، نجدها تُعدّد نكباتنا نحن الشعب العربي عامة والشعب الفلسطيني خاصة، فكتبت عن الشوارع العربية التي تنام في العسل، وعن حلاقي الحكام العرب، وما يحدث للفلسطيني من انتهاكات في المطارات العربية، وعن التهمة المطبوعة على جبين الفلسطيني لمجرد كونه فلسطينيا، كما حملت مجموعاتها الشعرية عناوين مشحونة بالذاكرة والحنين والوطن مثل ذاكرة المطر والخرائب المعلقة. من بعض السمات الفنية والموضوعية في شعر شوقيه عروق منصور:
*عنوان “الخرائب المعلقة” يشكل عتبة هامة للولوج الى أعماق الكتاب، وحين نقول الخرائب المعلقة نتذكر الحدائق المعلقة، لكن باستبدال الحديقة بالخربة، وهذا وحده كاف لأن يلقينا مباشرة أمام كاتبة لا تقبل بالمسلمات، فلها رأيها وموقفها ونظرتها للأمور. قد يأخذنا عنوان الكتاب الى الاعتقاد بأن الكاتبة ستحملنا الى اسطورةٍ ما لا يمكن تصديقها، حيث إنّ الحدائق المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع هي العجيبة الوحيدة التي يُظنّ بأنها اسطورة.
*المضامين والأفكار والمقدمات المنطقية التي دفعت الشاعرة الى الكتابة والكلام، هي أفكار تتعلق بالوطن وأخرى بالمجتمع، كالكذب، الظلم، القسوة، القتل، وحتى عمليات التجميل نالت قسطا لا بأس به من الانتقاد. كما جاء في قصيدة عملية تجميل للصبر (ص33): الصبر يدق عيادة الجمال/ لا أحد يريد إجراء عملية شد للصبر لتصغيره/ لقص أطرافه/ لتحسين شكله لأنه سيبقى خبز المظلومين والفقراء والرحمة التي تطوق أمنياتها أمطار الميلاد. الشاعرة شوقيه من النساء اللواتي لا يقبلن بالأشياء القابلة للقسمة، ففي قصيدة أظافر الغيرة (ص69) تقول: انتهز وجودك فارسم حولك دائرة الأنانية/ أنت لي اللعبة الوحيدة التي أتقنها
*لغة النصوص الشعرية في الخرائب المعلقة تتميز بالبساطة والسهولة والسلاسة، فهي لغة قريبة من اللغة المتداولة في الحياة اليومية، وقد قامت الكاتبة بتوظيف كلمات مألوفة جدا في قصائدها، الامر الذي قد يؤخذ عليها. في الجزء الاول من الكتاب نجد الكاتبة تستعمل الأفعال في الماضي والحاضر فقط، وفي المرتين الوحيدتين التي تتكلم فيهما عن المستقبل نجدها تتكلم عن الموت، حيث قالت في قصيدة موت (ص23): الموت لا بد ان يطل لا يتمهل التراب لا يصدق الا باللمس. وفي (ص36) تتساءل: الى متى سيبقى الحاجز في حلقي؟ وأتساءل ألم تعد ترى كاتبتنا في المستقبل غدا مشرقا؟!. ونجدها استعملت ايحاءات صوتية توحي بالحزن والألم كحرف الميم الساكن في قصيدة قاموس الصمت المعتق (ص12).
*للصورة الشعرية في الشعر العربي المعاصر شأن كبير، حيث قال النقاد إنّ الشعر ما هو الا تفكير بالصورة، وهنا أودّ أن أتطرق الى الصورة الشعرية الجزئية التي هي بمثابة ومضات قصيرة أشبه بفلاشات تضيء النصّ وتُجمّله، وأما الصورة الشعرية الكلية فهي تستغرق النصّ الشعريّ من أوله الى آخره، وتدخل فيها الفكرة والعاطفة بناء على عدّة بناءات كالبناء القصصي الدراميّ والبناء الدائريّ. فإذا نظرنا الى الصور الشعرية في قصائد شوقية، فإننا نجدها بغالبيتها العظمى صورًا جزئية وامضة، يلعب فيها التشخيص دورا رئيسا، إلّا أنه في بعض القصائد كانت هناك صورا شعرية كلية مبنية على السرد، أمّا البناء الدرامي فقد انعدم بانعدام الحوار. كانت بعض الصور الشعرية بقوة موج هائج في طقس عاصف، لامست بلغة جميلة وجدان القارئ كقولها في قصيدة وسادة من دم (ص46): في الصرخة الاولى استغاثة/ وفي الصرخة الثانية فريسة عانقت ذئب النهاية/ وفي الصرخة الثالثة وسادة من دم الضحية/ وبياض موت غزته فرق الخيانة/. أما بعض الصور الشعرية فقد ارتسمت بتكلف يثقل على القارئ، كما جاء في قصيدة أم أمام ابنها الشهيد (ص29) كيف استقرت الرصاصات فيه/ كيف استطاعت ان تخترق جدران حبها وسياج رعايتها وجذوع أشجار الزيتون التي طوقت لهاث حرصها؟.
وبما أن المطلق في الأشياء غير موجود، فهنالك ما يؤخذ على الكتاب أيضا، فمثلا تقنية الحذف والاضمار كانت غائبة في بعض النصوص، الأمر الذي قلل من عنصر التشويق لدى القارئ، وأضعف النصّ لغة حرف الكاف الذي كان زائدا في قصيدة عملية تجميل للصبر (ص34): الصبر يمد أضلاعه يتعلق بأسلاك المسافات وسفوح الليالي المملة، يلتف كالحلقة كالكذبة كدائرة نار جهنمية، هذا إضافة الى الاختفاء الشبه كلي للهمزة فوق الألف، كما يشكل أيضا اختفاء التشكيل والحركات في جميع القصائد عبئا على القارئ في تحديد وجهة النص الفكرية، وأيضا في فهم الموسيقى الداخلية فيه.
وكما أسلفت، فهنالك تكلف في صور شعرية عديدة يجعلها أقرب الى نص نثري عاديّ، خاصّة وأنّ غالبية التراكيب اللغوية المستعملة مأخوذة من الحقل السياسي والاجتماعيّ، وبهذا تكون الشاعرة راصدة للواقع أكثر من كونها مصوّرة له. وختاما اسمحوا لي أن أذكركم بانحيازي الى النص القصصي في أدب شوقيه عروق منصور، والذي باعتقادي شكّل لبنة أساسية في فهم الواقع الفلسطيني المؤلم، تعرضه الكاتبة بلغة جميلة تفوق جمال الشعر، فمن لا يعرف وجع الإنسان الفلسطيني، يكفيه أن يقرأ من أدب شوقية عروق منصور ويبكي ..كما حدث معي أنا.
مداخلة شوقية عروق منصور: حين غمستُ أصابعي بحبر الكتابة، شعرتُ أنّ حياتي قد كُرّستْ لفكّ شيفرة الكلمات، والجلوس على حافة الدهشة، أتمرّغ فوق رمل المجهول، أنتظر فراشات الخواطر، وأعانقُ نبض الشعر العابر، وأتسلّل إلى قصر القصّة القصيرة، أفتح خزائنَ الحروف، وأصنعُ من الوجوه المشنوقة على توهّج الأحداث قلائدَا تُعلق على سنواتي. وأنظر إلى الخلف إلى البدايات، لن أتحوّلَ إلى عامودٍ من الملحِ وأذوبُ خجلًا، لكن أنظر إلى الوراءِ، لأجدَ كلماتي تهرولُ نحو الصفحاتِ التي قضيتُ العمرَ وأنا أكتبُ وأفتشُ وأبحثُ وأشطبُ وأمزّقُ الورق، وكلّما مزّقتُ ورقةً تناسلتْ أمامي عشراتُ الأوراق، حتّى شعرتُ أنّ قَدري قد رَهنَ عُمري في رهانِ الكتابةِ، ولا أستطيع أن أردَّ قدَري. أنا أقفُ الآن في حضرةِ الكلمةِ، في البدءِ كانت الكلمة، وستبقى هي البدايةُ حتى النهاية، المجدُ لها، لأنّها الآن في هذهِ الساعاتِ أعطتني الأجنحةَ للطيرانِ، أنا الآن بفضل التقدير، بفضل الحضورِ البهيّ وبفضل التكريم، أشعرُ أنّ الأرصفةَ التي جلستُ عليها أنتظر الفكرة وخيال القصّة، وأحيانًا أفتعلُ السباق مع القصيدة، لم تعُدْ تسخرُ مني، بل الآن تمسحُ دموعَ الفرح. شكرًا لكم ولنادي حيفا الثقافيّ الذي أصبح رافعة للأدب والأدباء في ظلّ غياب الدعم والمؤسّسات الثقافيّة، والذي يقومُ بعمل جمعيّاتٍ ونوادٍ لها العناوين البرّاقة لكن دون فعل، يُشعل مواقد الأدب ويُحرّكُ البحيراتِ الراكدةَ، يُكرّمُ الأدباءَ ويهتم بإنتاج الشعراء والكُتّاب. شكرًا للمحامي حسن عبادي الذي لاحقَ واتّصل عدّة مرّات، هو النموذج للإنسان المسؤول الحريص على النجاح. شكرًا للأستاذ فؤاد نقارة كابتن قلب الدفاع عن الأدب، وشكرًا للكاتب والباحث محمد هيبي على كلماته الرائعة، وشكرًا للشاعرة الصديقة فردوس حبيب الله على كلماتها المفعمة بالرقة، وشكرًا للصديق الكاتب الباحث الشيخ عبد الله بدير على كلماته التي تفيض أملًا وتفاؤلًا، وشكراً للصديق الشاعر والباحث عبد الرحيم الشيخ يوسف الذي يعمل كمهندس حفر عن آبار المواهب الأدبيّة في المثلث، وشكرًا لرئيس اتحاد الكتاب الأديب فتحي فوراني، لأنّ هذا الاتّحاد عامود الخيمة التي تحمي وتُظلّلُ الأدباءَ في دروب الإبداع، وشكرًا للأستاذ الإعلاميّ الكاتب رشيد خيرعلى الحوار الشيّق والتقديم المميّز. وأخيرًا شكر خاصّ حميم الى القلب تميم، لأنّ تميم بصراحة ضحيّتي، فكلّ قصّة ومقال وقصيدة وخاطرة عليه أن يتحمّل همسي وجنوني وغضبي واحتراقي ومخاض ولادتي، الجميل أنه يعرف ويعلم معنى الكتابة والآم ولادة إبداع، لذلك من نعم الله أن يكون للأديبة زوجًا متفهّمًا. شكرًا لجميع الحضور فردًا فردًا، لقد منحتم الطقس العاصف دفءَ وحرارة الوجود، ودائمًا نلتقي لرفع راية الكلمة.