حيفا تحتفي بنبضات ضمير عدلة شداد! – آمال عواد رضوان
نادي حيفا الثقافيّ والمجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا أقامَ أمسيةً أدبيّةً، احتفاءً بالكاتبةِ عدلة شدّاد خشيبون، وتوقيع إصدارِها الأوّل (نبضات ضمير)، وذلك بتاريخ 22-5-2015، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة شارع في حيفا، وسط حضورٍ واسع مِن أدباء وشعراء وأصدقاء، وقد رحب بالحضور المحامي فؤاد نقارة رئيس نادي حيفا الثقافي، وتحدّث حولَ الكتاب كلٌّ من: د. راوية بربارة، والأديب فتحي فوراني، ود. حسام مصالحة، والكاتبة حسام مصالحة، وقراءاتٌ أخرى لمداخلاتٍ كل من: أمين خيرالدين، وللكاتب زياد جيّوسي من الأردنّ، وللكاتبة إيمان ونوس من سوريا، والكاتب فارس حبيب من سيدني، وماري دانيال حتر من شيكاغو، وقد تولّى عرافة الندوة الأديبة سعاد قرمان، وتخلّلت المداخلات فقرات موسيقية للفنان بشارة ديب، وقصيدة يوسف عبدو خال الكاتبة عدلة، وأخيرًا، الكاتبة عدلة شدّاد خشيبون شكرت الحضورَ والمتحدّثينَ والمُنظمين لهذا الاحتفاء، ثمّ تمّ التقاط الصّور التذكاريّة أثناء توقيع الكتاب!
**جاء في مداخلة د. راوية بربارة:
أن ينبضَ القلبُ فهذا عزاؤه ليُحيي الجسَدَ رهينةَ أيّامِهِ، وأنْ ينبضَ الفكرُ فهذا مرادُهُ ليُحيي العقولَ رهينةَ استنارته وإنارته، أمّا أنْ ينبضَ الضميرُ فهذا شقاؤهُ ليُحيي الأنا رهينةَ العقلِ والجسدِ، وقد اختارت عدلة أن تنسجَ نبضاتِها بأصابِعِها، وأن تحوكَ سَجّادةَ نصِّها على مِنوالِ نبضاتِ الضميرِ الحيّ، الذي لا يرتاحُ إلّا إذا وجدَ متنفّسَهُ، والمرأةُ حينَ تتكلّمُ، لا تنتظرُ إجابتكَ ولا تفاعلَكَ قدرَ ما ترتاحُ منفّسَةً عمّا يربضُ في ذاتها، فالكتابةُ رئةٌ ثالثةٌ تكونُ المَفرَّ حينَ نختنقُ بغصّةٍ، وحينَ تُزاحِمُنا الدنيا على فرَحِنا، وحين يكون الصمتُ موجعًا حدَّ الانفجارِ.
الكتابةُ حالةُ تعويضٍ عن فقْدٍ، إنّها حلُمُ اليقظةِ الذي يُراودنا عن صحوٍ ونسيّرُهُ على هوانا، وحالات الفقْدِ التي عانتها عدلة، كان لا بدَّ أن تنبضَها كلامًا أو حبرًا، بدأَتْهُ مِن زمنِ الفقْدِ لتداوي جُرحَها بالحبرِ، فحينَ فقدَتْ أختَها ذاتَ كانونٍ لجأتْ إلى الكتابة متنفّسًا: “اليومَ أرى القلم يكتبني بكلام رثاء، وكلامي عنك دومًا يصاحبه البكاء، فصرتُ بعد موتك أختًا للخنساء، فصخر الذي رثته الخنساء، ليس أعظم شأنًا منك أختاه”.
ونراها تتّكئ على التناصّ مساعدًا، فكما عدّدتِ الخنساءُ مَناقبَ صخر: وإنّ صخرًا لوالينا وسيّدنا/ وإنّ صخرًا إذا نشتو لنحّارُ/ وإنَّ صخرًا لتأتمُّ الهداةُ به/ كأنّه علَمٌ في رأسِهِ نارُ
وها هي عدلة تعدّدُ مناقبَ أختِها: “كنتِ للألم قائدة، للمشورة رائدة، للصّداقة صادقة، ودومًا لراية الإيمان رافعة، رغم حملك لأقسى داء، ورغم معاناتك مع كبار الأطبّاء”.
الكتابة انطلاقٌ وانعتاقٌ، وثورةٌ صامتةٌ تؤذيكَ ضجَّتُها وتحثُّكَ على النّهوضِ، لذا عندما يَعتملُ الحنينُ في القلب، وتتهاوى الذكرى على نبضِ الواقع، كما حدثَ مع عدلة حين أسَرَها الحنينُ للمجهولِ الذي خبّأَتْهُ خلفَ النبضِ، حرّرت هذا الحنينَ بالقلمِ والبوحِ: “وتبقى كلماتي الّتي تاهت في حروف أبجديّتي، تحلّق في فضاء الرّوح، تناجيك أيّها الغائب الحاضر رغم الوجود، وللذّكرى حنين، والحنين حزين حزين”.
وتتحوّلُ كلماتُ عدلة صمتًا أمامَ شهر آذار، فتستأذن أبا تمامٍ في صدقِ سيفه: السيف أصدقُ إنباءً من الكتب/ في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب. لتقولَ لآذار كيف جمعت بين المرأة في ثامنك والأمّ مع بداية ربيعك، وأبيتَ الانصراف دون آخرِكَ الذي عبَقَ بدماء يوم الأرض: “الكلام من غير كلام أصدقُ إنباءً من البوح الصّادق أحيانا، وبك يا آذار تتجلّى الأحيانُ. لك يا آذار أصوات ثلاثيّة الأبعاد تصرخ، تهمس وتثور بوثيقة عطاء”.
فالمرأة التي تصرخ في الثامن من آذار لتعبّر عن حقِّها وشرعيّتها، تظهر على طَوال نبضات الضمير بأسماءَ مستعارة عديدة، كلّها أسماءُ نساءٍ تجمّعنَ في عدلة، وخرجتْ كلّ واحدةٍ من الشفّاف الأبيض لتكشفَ قصّتها، سلمى وميس ونيلم، هزار، نورس وسعاد.
وللزّمنِ اعتباراتٌ غيرُ زمنيّةٍ رغمَ أنّها تشكرُ الساعةَ، لأنّها الليلةَ ستُرجِعُ عقاربَها ساعةً، وهكذا تفوز الأنا الباحثة عن صديق،ٍ بساعةٍ إضافيّةٍ لتفكّرَ في صديقِها وتحلم فيه، إلّا أنّها تعود بحنينها إلى أشياءَ حياتيّة عاديّة، وإلى زمنٍ جميلٍ عاشت فيه مع أمِّها في كلماتٍ تتخفّى فيها عن حلمِها، وتضحكُ على ساعتِها الإضافيّة، ليتوهَ القارئُ بين الجرأةِ في البوحِ، والتنفيس المكبوتِ بسوطِ المجتمعِ الناقدِ اللاهث وراءَ حروفِنا، وكأنّها جنايات ومعصيات وخطيئة مميتة!
صديقي.. لا تُرجع ساعة قلبك. دعها تنبض وبالسّرعة الّتي تلزمها، فساعتنا بحاجة لنبض قويّ، عقاربها تلسعُنا، وثوانيها تخدعنا، سأكذب على ساعتي اليوم، وسألعب بها كيفما شاؤوا، لتضليل لا لتأكيد أو تأخير أو تأجيل، وسيبقى اللّقاء يتأرجح بين موعد قديم وآخر جديد، لكن شروق الشّمس سيخالف عقارب ساعتهم، فدع شمسي تشرق بذات عقارب ساعة شروقك.
وللزمنِ اعتباراتُ حاضرِهِ، لكنّها اعتبارات تشرينيّة تحمل الحفيفَ والحنينَ والخريفَ، تحملُ الجمالَ واللامتوقَّعَ، ففي انتظار خريفِ الصديقِ تصبح ساعات الترقّب جميلة، ويصبح تساقط الأوراق كتساقط الساعاتِ تشتهي اللقاءَ، يُصبح اقترابُ الخريفِ ربيعًا مبشّرًا بالتفاؤل فيا له من خريفٍ تهاجر عصافيرُهُ ولها عودة، ولها وطن، ولها مهجر، دونَ جوازِ سفرٍ!
وما بين النوستالجيا والحلم، تفضّل الأنا البائحةُ حلمَ اليقظةِ تسيّرُها على هواها، ليكونَ جميلًا فرِحًا، لا كالذكرى التي شبّهتْها بالأفعى التي خرجت في يوم قائظٍ لتلدغَنا بتفاصيلِها وتتركَ سمَّها في أجسادِنا: لا تعوموا في بحر الذّكريات، فأمواج بحرها قويّة وخطيرة، اِبقوا على شاطئ الأمان، تحت مظلة الأحلام ستعوم بكم بلا موج ولا حوّامات.
هي الكتابةُ الذات الباحثةُ عن ضالَّتِها، عن يقينِها في زمن اللا معروف والمشكوكِ واللايقينِ، هي الكتابةُ بوحُ القلبِ وبوحُ الفكرِ، وارتعاشٌ مستمرٌ بينهما يشدُّ طرفَهُ مجتمَعٌ لا يعي أنَّ المكبوتَ بوحُهُ انتصارٌ، وأنَّ الكتابةَ جرأةٌ نجترحُها لنتخطّى أنفسَنا أوّلًا، ولنتخطّى حواجزَ الواقعِ الشوكيّة الشائكة، ولنفجّرَ علاماتِ استفهامنا نقاطَ حذفٍ ثلاثيّةً، يتابعُ كلٌّ منّا النسجَ الذي يرتئيهِ ليرسمَ رئةً ثالثةً يعبّئها بأوكسجين الحبرِ لتتنفّسَ الأوراقُ البيضُ من تنهّداتٍ كاتمةٍ للصوتِ.
أجدتِ عدلة بخواطرِكِ التي جمعتِها في نبضاتِ ضميرٍ، والتي جمعَتْنا اليومَ لنحتفي بصدقِكِ ورقيّكِ وإبداعِكِ وبوحِكِ، ونحو مزيدٍ من عطاءٍ تتنازلين فيه عن الخاطرةِ لتنسجي رؤًى مغايرةً.
**جاء في مداخلة فتحي فوراني:
قبل خمس سنوات تقريبًا شدَدْتُ الرّحالَ إلى قانا الجليل. وصلتُ إلى “كنيسة العرس”، وشربتُ مِن مَنهلِها كأسًا من الماءِ الزّلال فدارتْ بيَ الأرضُ، ولا أدري لماذا، وتذكّرتُ رسولَ المَحبّةِ وثنائيّةَ الماءِ والخمرةِ فعرفتُ السّرّ. ثمّ واصلتُ المَسير وانتهى بي إلى بيتِ الأختِ العزيزة عدلة. في جوٍّ حميميٍّ كانَ لنا لقاءٌ، وكانَ ثالثُنا الصّديقُ سعد خشيبون الّذي تعرّفتُ إليهِ أثناءَ دراستي الجامعيّة في زهرة المدائن، فبَعدَ التّأهيلِ والتّسهيلِ والمائة مرحبا، بدأ الحديثُ عن آخِرِ نصٍّ شِعريٍّ كتبَتْهُ عدلة، وسرعان ما تطوّرَ الحديثُ ليُصبحَ عُرسًا ثقافيًّا بامتياز واستعراضًا للمشهد الأدبيٍّ والثقافيِّ في هذا الوطن. كنّا ثلاثة، أمّا رابعُنا فكانَ الحديثُ عن الإبداع الأدبيِّ الخارج مِن ورشةِ الأبجديّةِ الّتي تُديرُها مُعلّمة اللّغةِ العربيّةِ عدلة. كانَ الحديثُ ذا شجونٍ، ثمّ أخذَ مَنحًى مُستقِلًّا تبلوَرَ وتبأّرَ حولَ رغبةِ الكاتبةِ في جمْعِ شمْلِ النّصوصِ الأدبيّةِ وعوْدتِها مِن شتاتِها ومَنافيها في المَنابر، ثمّ إخراجها في عملٍ أدبيٍّ على شكلِ كتابٍ يَطمحُ لأن يحتلَّ مَوقعًا يَليقُ بهِ، إلى جانبِ خير جليس في الزمان وإخوتِهِ الكِرام في “ديوان العرب”.
وبعدَ عمليّةٍ طويلةٍ مِنَ المَخاضِ الإبداعيِّ الّذي استمرَّ سنواتٍ، أطلَّ علينا المولودُ البكرُ حامِلًا رايةً أدبيّةً تُزيّنُها عبارة “نبضاتُ قلب”. ولم تشأ هذهِ النّبضاتُ إلّا أنْ يَحتضنَها تطريزٌ على شكلِ قلبٍ كبيرٍ يَحتلُّ فضاؤُهُ ثمانيةَ قلوبٍ صغيرةٍ تُزيّنُ بوّابةَ الكتاب، هذهِ اللّوحةُ الإبداعيّةُ طرّزتْها وهندسَتْها ريشةُ عاشقةِ اللّغةِ العربيّة، فقد نضت عدلة عن ساعدَيْها وامتشقَتْ أناملَها، فأمسكَتْ بإبرتِها الفنّيّةِ وراحت هذه الإبرةُ تسوقُ خيولَ الخيطانِ الخضراءِ والحمراءِ والسوداءِ والبيضاءِ، لتصنعَ القلوبَ الدّافئةَ والمُنمنماتِ الرّاقصةَ، حتّى تمثّلتْ أمامَنا لوحةً إبداعيّةً جميلة، فعلى المَدخلِ يَستوقفُنا الإبداعُ ليَقولَ لنا من البداية: قِفْ.. أنتَ أمامَ فنّانةٍ تشكيليّة.
العنوانُ ودلالاتُهُ والإيحاءاتُ الّتي يُشِعُّها كما أراها: فكلمةُ “النّبض” توحي بالحيويّةِ والانطلاقِ في البحارِ الهائجة، والثورةِ على الجُمود ضدّ الموت. إنّها صرخةٌ تُطلقُها الكاتبة: “أريدُ أن أكونَ. يحقُّ لي أن أكون”. وأمّا “الضّميرُ “فهو القيمةُ العليا في هذا العنوان والمعيارُ الثّقيلُ، والحكمُ الرّئيسيُّ الّذي يُوجّهُ السّلوكَ الإنسانيَّ نحوَ الكمالِ الّذي يَطمحُ إليهِ الإنسان.
ففي هذه الأيّامِ يَمُرُّ الضّميرُ في مأزقٍ إنسانيٍّ خطيرٍ عربيًّا وعالميًّا، إنّهُ يَعيشُ في غربةٍ قاتلةٍ كالأيتامِ على مَآدِبِ اللّئام. نحنُ لا نُحِبُّ التّشاؤمَ، غيرَ أنّ حالةَ الضّميرِ في اللّحظةِ المُعاصِرةِ تقودُ إلى هذا التّفكيرِ السَّوْداويِّ الّذي نرجو أنْ يَكونَ عابرًا، وأن يَكونَ غمامةَ صيفٍ ستنقشعُ، وتُطِلَّ شمسُ الشّعوبِ الّتي تَصبو إلى حياةٍ مُشتهاةٍ. وما دامَ الشّيءُ بالشّيءِ يُذكرُ، فلا يَسعُني في هذا السّياقِ إلّا أنْ أستحضِرَ ما قالَهُ الشّاعرُ (عبد المهدي بن راضي بن الحسين الذي ينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب- 1322-1358) قبل قرون سبعة، في تصويرِهِ للغربةِ الّتي تعيشُها المُروءة: مررتُ على المروءةِ وهي تبكي/ فقلتُ: علامَ تنتحبُ الفتاةُ؟/ فقالتْ: كيفَ لا أبكي وقوْمي/ جميعًا دونَ خلقِ اللهِ ماتوا
المروءةُ أختُ الضّميرِ مِن أُمِّها وأبيها، ويَنتمي جميعُهم إلى عائلةٍ شريفةِ النّسَب، غيرَ أنّ الكاتبةَ لا تَنثني أمامَ هذا الشاعر، وتُصِرُّ على التّمترُسِ في قلعةِ الضّميرِ الحَيِّ الذي لا يَعرفُ المُهادنة، والّذي سيَظلُّ نابضًا مَرفوعَ الرّأسِ إلى ما شاءَ الله. لا أريدُ أن أتوغّلَ في الشّعابِ الصّغيرةِ والزّوايا والمُنحنياتِ الكثيرةِ الّتي تَحفلُ بها “نبضاتُ ضمير”، إنّما سأتوقّفُ عندَ بعض المَلامح الرّئيسيّةِ، مُركّزًا على القِيم الّتي خلصتُ إليها وشدّتْني وفرضَتْ نفسَها عليّ.
*الصدق: قيمةٌ عليا في هذا الكتاب، نستشِفُّها على امتدادِ النّصوصِ مِن بدئِها حتّى مُنتهاها، فالنّصوصُ تَطفحُ بالمشاعرِ الحميميّةِ الصّادقةِ المُعبِّرةِ عمّا يَجيشُ في صدرِ المُبدعةِ من المشاعرِ الإنسانيّةِ المُتضاربة، فالكلمةُ مَسحوبةٌ مِن الواقع السّاخن، تَخرجُ مِن القلبِ وتقفُ أمامَنا عاريةً كما خلقَها ربُّها، بعيدًا عن التّكلُّفِ والصّناعةِ اللّفظيّة، وعن التّمثيلِ والدّجَلِ اللّفظيّ، وقد نجحَتِ الكاتبةُ في استدراجنا وشدِّنا للدّخولِ إلى أعماقِ مَشاعرِها، في حُزنِها وفرحِها، في مَدِّها وجَزْرِها، وفي النهاية الانصهار في دمِها الجاري في عروقِها والتّماهي معها.
التفاؤل: التفاؤلُ قيمةٌ تُسيطرُ على غالبيّةِ المَحطّاتِ في هذا العملِ الأدبيّ، فتسيرُ الكاتبةُ في دربِ الآلام، فتسقطُ ثمّ تنهضُ، وتُواصِلُ المَسيرةَ وُصولًا إلى جلجلة الأبجديّة، فالمعاناةُ توأمُها، وهي لا تتردّدُ في الكشفِ عنها، وإماطةِ اللّثامِ عن لحظاتِ الضّعفِ في النفس الإنسانيّة، ورغمَ الانكساراتِ، فإنّ هذا لا يُثبّطُ مِن عزيمتِها، ورغمَ السّوداويّةِ الّتي تُسيطرُ على هذه الخواطرِ فهي مُتفائلة، تَمشي وتمشي وتمشي على جِراحِها، وتكتسحُ الضّبابَ الّذي يَحتلُّ المَشهدَ، لتُعانقَ شمسَ الحرّيّةِ الخضراء. إنّها إرادةُ التّغييرِ والإيمانِ العَميقِ بأنّ المُستقبلَ لا بدَّ أن يكونَ أفضل. تقولُ الكاتبة: “كلُّ عامٍ ومَسيرتُنا للنّفوسِ أحلى. كلُّ عام ومَسيرتُنا بطبولِ المَحبّةِ أرقى. كلُّ عامٍ ومَسيرتُنا في العطاءِ أكثرَ سخاء، وفي السّخاءِ نُباري الرّيحَ ونُسابقُ الغيوم”. (ص45)
الإصرارُ والتّحدّي في رحلتِها المليئةِ بالأشواكِ والصّخورِ والتّحدّياتِ السّيزيفيّة: تقفُ الكاتبةُ سدًّا منيعًا أمامَ تسونامي أحداثِ الدّهرِ الّتي تَقسو عليها، وتسعى لقمعِها وقهْرِها. قد يَضعفُ الإنسانُ في لحظةٍ ما وقد يَنهزمُ، غيرَ أنّهُ لا يَستسلمُ ولا يَرفعُ الرّايةَ البيضاءَ، فيتسلّحُ بإرادةٍ فولاذيّةٍ وتصميمٍ على عدمِ الاستسلام، ومُواصلةِ المُواجهةِ بعزمٍ وعنادٍ في وجهِ التّحدّياتِ. هذه هي عدلة تتحدّى نوائبَ الدّهرِ، وتخرجُ مِن ساحةِ الوَغى رافعةً لواءَ الإصرارِ والتّحدّي.
الانحيازُ الإيجابيُّ إلى الخير: الكاتبةُ صاحبةُ رسالةٍ ليستْ حياديّةً، وليست مُتفرّجةً إزاءَ المَشهدِ الّذي يَحتدمُ فيهِ الصّراعُ بينَ الأضدادِ في المجتمعِ الإنسانيّ. إنّها مُنحازةٌ إلى الخيرِ في صِراعِهِ معَ الشّرّ، وهو موقفٌ إنسانيٌّ ذو مَرتبةٍ عاليةٍ. فالكاتبة. إنّها تَدعو إلى الخير والمَحبّةِ والعدل، وتقفُ معَ المَظلومين في صِراعِهم مع قوى الشّرّ الّتي تعيثُ فسادًا في الأرض، وتُلوّثُ البيئةَ الأخلاقيّةَ في المجتمع الإنسانيّ.
حديثٌ في اللّغةِ والأسلوب: الكتابُ يَحفلُ بالكثيرِ مِن النّصوصِ الإبداعيّةِ المُمتعةِ لغةً وأسلوبًا، فلا نُريدُ أن نزُجَّ بهذهِ النّصوصِ في خانةِ الشّعرِ بتعريفاتِهِ ومَفاهيمِهِ المُتعدّدة، فتعريفُ الشّعرِ واسعُ الذّمّة، وهو بحرٌ مُتعدّدُ الشّواطئ وأكادُ أقولُ: لا شواطئَ له وليس هنالكَ تعريفٌ واحدٌ أحدٌ ومُحدّدٌ للشّعرِ، منذ الخليل بن أحمد وصَحبِهِ مِن الأقدمين، وحتّى أيّامِنا الّتي تَحفلُ بما هبَّ ودبَّ مِن التّقليعاتِ الأدبيّة كالحداثة، وما بعدَ الحداثةِ وما بعدَ بعدَ الحداثة.
في “نبضات قلب” نحنُ أمامَ لوحاتٍ نثريّةٍ تُعانقُ الشّعر، أو هي نثرٌ إبداعيٌّ جميلٌ يُشبهُ الشّعر، حافلٌ بالتّشابيهِ والاستعاراتِ والكناياتِ والسّجعِ والموسيقى اللّفظيّةِ وغيرِها مِن المُحسّناتِ البَلاغيّة، باستثناءِ النّصوصِ السّتةِ الّتي تَختتمُ الكتابَ، وهي لوحاتٌ وجدانيّةٌ تنتمي إلى ما اصطُلِحَ على تسميتِهِ بالقصيدةِ النثريّةِ، أو الشعرِ المَنثورِ الّذي يُسيطرُ على المَشهدِ الأدبيِّ في هذه الأيّام، فنستمتعُ بقراءةِ نثرٍ مُموسَقٍ جميلٍ ذي عبقٍ شِعريٍّ ممتِعٍ، لاشتمالِهِ على الكثيرِ مِن خصالِ الشّعرِ بالمفهومِ العامّ والواسعِ للشّعر.
يخاطبُ د. بطرس دلّة عدلة، أن تَخرجَ مِن عباءةِ النّهجِ الرّومانسيِّ الّتي يَرتديها جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة، ويُخاطبُها قائلًا: اُنفضي عنك غبارَ الماضي والبَسي الزّيَّ الجديدَ، زيَّ الحداثةِ وحتّى ما بعدَ الحداثة. فأقولُ: أخي أبا حسام، لا أريدُ لعدلة أن تقطعَ علاقتَها بجبران وباقي أفرادِ العائلةِ الرّومانسيّةِ الكريمة، ستظلُّ النّفسُ الإنسانيّةُ والرّئةُ الشّاعريّةُ بحاجةٍ إلى أوكسجين الرّومانسيّةِ شئنا أم أبينا. هل يُمكنُ أن نتصوّرَ شاعرًا بلا رومانسيّة؟
نحنُ معَ الحداثةِ وضدّ الإبهامِ المُطلَق، معَ الحداثةِ والتّجديدِ ضِدّ الرّكودِ والجُمودِ والتّكلُّسِ الأدبيّ، فقد غادرَ الشّعراءُ مِن مُتردِّمٍ، ونزَعوا عن أجسادِهِم ثيابَ التوهُّمِ، وعرفوا الدّارَ وزواياها وخباياها وأسرارَه وكلَّ نقطةٍ فيها، وحدائقَها وألوانَ أزهارِها وعرائشَ أعنابِها وشذا ورودِها الجوريّة. لقد جدّدوا وانطلقوا واجترحوا دُنى وعوالمَ جديدة وفقًا لمَعاييرِ عصْرِهم، فكلُّ عصرٍ لهُ حداثتُهُ ومُجَدِّدوهُ، ومَن نعتبرُهُم قدامى وتقليديّينَ وكلاسيكيّينَ كانوا في عصرِهم مُجدِّدينَ ومُحدِثين. وأضربُ أبا نواس مثالا، فنحن معَ الحداثةِ، ونضُمُّ صوتَنا إلى صوتِكِ في استحداثِ الجديدِ، والإبحارِ في بحارٍ لم نُبحرْ إليها بعد. أمّا ما بعدَ الحداثة وما بعدَ بعدَ الحداثةِ فلنا معها مشكلة.
لقد انطلقتِ الحداثةُ وحلّقتْ وخلبتْ ألبابَ الأدباءِ والشعراء، وكانَ لها في البدايةِ وهَجُها ورهجَتُها وجاذبيّتُها الإبداعيّة، غيرَ أنّها فقدَت الكوابحَ وانفلتت، وأدّتْ إلى زعزعةِ مَركبةِ الشّعرِ وتدهوُرِها، فقد قامتْ بعمليّةِ اجتياحٍ وتدميرِ قصورِ الخليلِ بن أحمد الفراهيدي، ثمّ قامتْ بعمليّةِ تطهيرٍ عِرقيٍّ، وأجهزَتْ على نازك الملائكة وبدر شاكر السّيّاب، وصولًا إلى مدرسةِ مجلّة “شعر”. لقد انفلتتِ المَركبةُ فجُنَّ جُنونُها، وعاثتْ فسادًا ودمارًا باسمِ الحداثةِ وما بعد الحداثةِ وما بعدَ بعد الحداثة، وأحرقتْ جميعَ الجسورِ بينَها وبينَ القارئ!
نحنُ محسوبونَ على البُسطاءِ مِنَ القرّاء، ونعترفُ أنّنا عاجزونَ أمامَ العبقريّاتِ “الشّعريّة” الكامنةِ وراءَ معجزاتِ الحداثةِ، الّتي نعجزُ عن التّفاهُم معها وبناءِ جسرٍ للوصولِ إليها، وإيجادِ لغةٍ مُشتركةٍ بيننا وبينها، فقصائدُ ما بعدَ الحداثةِ مُلثّمةٌ مُدجّجةٌ بالغموضِ التّعجيزيِّ، يُحيطُها جدارٌ حديديٌّ لا قلبَ له، يَقفُ على بوّابتِها حُرّاسٌ دواعش، ويَستعصي اقتحامُها حتّى على القارئ المثقّف! لقد ضاعتِ المَفاتيحُ وتحطّمتْ على أعتابِ الدّخانِ الكثيفِ الخانق، الّذي يُسيطرُ على قطاعاتٍ واسعةٍ مِن المَشهدِ الأدبيِّ شِعرًا ونثرًا! نحنُ مِن أنصارِ الحداثةِ وفتحِ الشّرفاتِ على التّجديدِ والانطلاقِ بها نحوَ الأجملِ والأفضل. أمّا ما بعدَ بعد الحداثةِ فكفانا اللهُ شَرَّها وشَرَّ حداثتِها الّتي أحرقت الزّرعَ والضّرعَ، فضاعتِ الطّاسةُ ونشأ مَشهدٌ شِعريٌّ عبثيٌّ، تُهيمِنُ عليهِ المُشاغباتُ الشّعريّةُ والانفلاتُ والتّسيُّبُ الأبجديّ، وكلُّ هذا باسم الحداثةِ والتّجديدِ والعصرنة، وإزاء هذا المَشهد نقفُ عاجزينَ، فقدِ اكتشفنا كم نحنُ أغبياءُ يَستعصي على عقولِنا فهْمُ المَقروءِ، وإدراك ما وراء وراء المَقروء وتخمين المَعاني الدّفينةِ عميقًا عميقا في قلب الشاعر!
أيّتها العزيزة عدلة، نحن ندعوكِ إلى الحداثة، فشرفاتُ التّجديدِ مُشرّعةٌ أمامَكِ، وبحارُ التّجديدِ حافلةٌ بالدّرِّ والمرجان، تدعوكِ لخوضِ غِمارِها واستخلاصِ الدّرّ الكامنِ في أحشائِها. عليكِ بالحداثةِ، فضُمّيها إليكِ وعانقيها وأشبعيها ضمًّا وتقبيلا، وحذارِ يا عزيزتي عدلة حذار مِن اللّعب بالنار، واقتحامِ المَيادين الّتي تَحفلُ بالمُهرّجين والراقصين على الإيقاعاتِ المُشاغبة، والّذينَ تحفلُ ورشاتُهم بالأحاجي المُغلقة إغلاقًا مُحكَمًا، وتَضعُ على بوّابتِها لافتةً كُتبَ عليها “الدّخولُ ممنوعٌ”! ولا تسمحُ للقارئ المثقف بالدخول إليها أبدًا.
**جاءَ في مُداخلةِ الكاتبة هديّة علي:
ضميرُها النّابضُ بالعواطفِ الجيّاشةِ والقِيَمِ الإنسانيّةِ والمُثُلِ العُليا، عبَقَ شذاهُ مِن نُصوصٍ مُتنوّعةٍ، وما المُحبّرُ بين طيّاتِ كِتابِها إلّا زهراتٍ فوّاحةً تناجَتْ وأحاسيسَ القارئِ، لِيتماهى بها معَ صحوةِ ضميرِهِ بعُمقِ كلماتِها، أولَيسَ العنوانُ “نبضاتُ ضمير” دالٌّ يَشي بيقظةِ الضّميرِ المُتألّمِ لمُجتمعٍ يتأوّهُ مِن العاهاتِ الاجتماعيّةِ الإنسانيّةِ والسّياسيّة؟
لقد استمتعتُ بمعظمِ النّصوص، وسأخصّصُ الجزءَ الأكبرَ مِن مُداخلتي لأكثرِها تأثيرًا بي شخصيًّا، والّتي مجّدت الكاتبة المرحومةَ أمَّها، ومازالَ وجدانُها وكيانُها يَنبضانِ بالحنين رغمَ بُعدِ الزّمنِ وطولِ البُعاد، فذِكرى أُمِّها تَحضُرُها بكلِّ مناسبةٍ عامّةٍ، “وسيبقى نداؤُكِ أجملَ نداءٍ” ص41، وهي تحتاجُ لضمّتِها وقُبلتِها، وتحِنُّ لخبزِها وقهوتِها تمامًا كالدّرويش. ونَراها تُعبِّرُ عن مَدى حُزنِها لهذا الفقدانِ الغاشمِ الآليم ص61 “في كعكة الميلاد”، حين يَحضُرُها بيتُ شِعرِ الخنساءِ في رثاءِ أخيها صخر وأكمل البيت: وما عَجُولٌ على بَوٍّ تَطيفُ بهِ/ لهُ حَنينانِ: إعلانٌ وأسرارُ/ يومًا بأوْجَدَ منها يوْمَ فارَقتْها أُمُّها(فارَقَني صخرٌ)/ وللدّهرِ إحلاءٌ وإمرارُ
وص14 “في عيدٍ وذكريات” نستشِفُّ مِن النّداء التّقارُبَ الحِسِّيَّ الوجدانيّ، رغمَ الاغترابِ الجسديِّ بين الكاتبةِ وأُمِّها، هذا النّداء الذي يُعظّم فاجعةَ الفَقد، وتعودُ لتُكرّرَ النّداءَ، وما هذا التّكرارُ إلّا للتّأكيدِ على مدى الحُبِّ والولاء، وهذا وحدَهُ مِن أعلى القِيمِ وأسمى العواطفِ الإنسانيّة فتقول: أُمّاه.. أصرخُ وصرختي صامتةٌ.. أبكي ودموعي خرساءَ عاتبة..
وأمّا في نصّها ص65 “إليك في يومك”، نجدُها تُطعِّمُ النّداءَ والشّوقَ بالسّؤالِ الإنكاريِّ الّذي يُؤكّدُ على قهرها، حين تتذكّرُها بنوّارِ اللّوز، (هل لكِ أمّاهُ نوّرَ اللّوزُ)؟
وص75 “ببطاقة وفاء لأمّي”: “رغم التّصريح والاعتراف أنّ أمّها هناك في السّماء مع الخالدين، لكنّها ما زالتْ تشتاق “هي بطاقةُ وفاءٍ لأمّي هناكَ في السّماء، أمّاهُ يا مصدرَ الحُبِّ والوفاءِ، يا أريجًا فاحَ في بيداءِ الحياة، يا طعمًا حلوًا يا أعذب هواء، كم أحنُّ لضمّتِكِ، كم أتوقُ لعناقِكِ!” وما هذهِ الكمّ الاستفهاميّةُ الخبريّةُ إلّا للتعبيرِ عن كثرةِ الحُبِّ والشّوقِ، والتّقارُبِ الحِسِّيِّ كما يَفعلُ النّداءُ تمامًا، ناهيكم عن ذِكرِها بالإهداء: “إليكِ أمّاهُ في سماءِ هذه الرّوح، كحمامةٍ تُرفرفينَ فخرًا، ودمعي تُكفكفينَ ليُبلسِمَ وجعَ الكلامِ والحنين”.
كلُّ مَن فقدَ أُمَّهُ لا بدَّ وأن تستوقفَهُ النّصوصُ الصّادقةُ المُفعمةُ بالأحاسيسِ، وللتّعبيرِ عن مدى الحبّ للأمّهات تحضرُني قصيدة: اِسألي دمي/ وسعادتي وهمي/ اسألي التوفيق/ والقدر والضيق/ اسألي الدعاء الذي في صلاتي/ والدموع التي في سجودي/ اسألي دمي عن حبك يا أمّي
الحزنُ يُكلّلُ صديقتي، والشّوقُ للرّاحلةِ يَصرعُها، ولكن رغمَ اتّسامِ مُعظمِ نُصوصِها بالحزن، نجدُ بريقًا مِن الأملِ فتستمرُّ الحياة، ولغرابةِ الصُّدَفِ أنّ عيدَ ميلادِ ولدَيْها الغالييْن بشير وإميل في شهر أيّار، وهذا ما نراهُ في نصِّها “أيّار ورائحة الجلنار” ص113 حين تقول: وانتصفَ أيّارُ ليكونَ ذكرى نكبةٍ ما زالَ وجعُها يُؤلمُنا، وانطفأت شمعةٌ وأشعلْنا أخرى، ليَبقى الأملُ يُنيرُ لنا دروبَ الآلام، لتُوصلَنا لراحةٍ موعودةٍ وفرحةٍ مُنتظَرة، وبالتأكيد كلمات أبي القاسم الشّابي من قصيدة إرادة الحياة تغمرُ صديقتي تفاؤلًا وتبعثُ فيها الأمل: وتبقى البذور التي حُمّلت/ ذخيرة عمر جميل غبر/معانقة وهي تحت الضّباب/ وتحت الثّلوج وتحت المدر/ لطيف الحياة الذي لا يملّ/ وقلب الرّبيع الشّذي الخضر
هناكَ زهرةٌ أخرى استوقفتْني، وأعرفُ كم عدلة فعّالةٌ وتهتمُّ لمعظمِ شؤونِ وقضايا المجتمع، وهي “آذارُ وثيقةُ عطاءٍ” ص13: لكَ يا آذارُ أصواتٌ ثلاثيّةُ الأبعاد، تصرخ تهمس وتثور بوثيقة عطاء، وهنا نرى اهتمامَها لهذا الشّهر المميّز: ففيه يومُ المرأة العالميّ، وعيد الأمّ، ويوم الأرض، ولولا الأمّ والأرض ما كان الوجود ولا الحبُّ والعطاء، وهي بتعابيرها الرّائعة أتحفتْنا بعُمقِ إحساسٍ يُمجّدُ مِن خلالِهِ المرأةَ والأُمَّ والأرض، ويُعبِّرُ عمّا يَجيشُ في نفسِها مِن قلقٍ وتحقيقِ حُلمٍ، ومُساندة للثورة للوصول دومًا إلى الأفضل والأحسن.
**جاء في مداخلة د. حسام مصالحة:
عرفتُ الكاتبة عدلة أيّامَ دراستِنا في جامعةِ بئرِ السّبع، وربطتْ بينَنا أواصرُ صداقةٍ وقربٍ فكريٍّ في كثيرٍ مِنَ المَواضيع والمَواقف، وهي الأمُّ والزّوجةُ والمُربّية، وهاهي اليومَ تُطِلُّ مِن جديدٍ بكتابها الأوّل “نبضاتُ ضمير”، فأحيّيها على عطائِها وأخذِها الوقت لتبوحَ بمشاعرِها وأفكارِها كتابةً، وعلى شجاعتِها في نشرِها ضمنَ كتابٍ، يَقعُ في 120 صفحة متوسّط الحجم، يضمُّ 73 مقطوعة نثريّة، وصدَرَ عن دار الوسط اليوم للإعلام والنشر- رام الله، وقدّمَ لهُ الأستاذ يوسف ناصر، وعلّقتْ عليهِ السّيدة دينا سليم حنحن– أستراليا.
لغةُ الكتابِ عاليةٌ جدًّا، وقد أكثرتْ فيهِ الكاتبةُ مِنَ الوصفِ الجميل، فهُنا وريقاتٌ صفراءُ تُعاندُ أغصانًا تودُّ أن تتعرّى، وهناكَ نجدُها تلتحفُ موجَ البحرِ، تتسربلُ همساتِ النّورس، وتفيدُنا بأنّ ليسَ للحُلمِ أذرُعٍ، لكنّهُ يَعرفُ أصولَ العِناق، وللسّجعِ وللمُحسّناتِ اللّفظيّةِ مكانٌ في النّصّ، فأحزانُها وألحانُها تربطُ ما بينَ الجنينِ والحنين، وما بينَ القلق والأرق، وبين الأشواق والأشواك. وفي مواقفَ إبداعيّةٍ تُقرّرُ مُكابرةً، أنّ بكاءَها ليسَ سوى تَجَمُّلٍ، “فبعضُ العيونِ في البكاءِ أجملُ، وترسمُ صورةً ديناميكيّةً للأنا المُتغيّرِ دوْمًا “أنا لستُ أنا كلّ يوم”.
وهيَ أيضًا تستثمرُ مَخزونَها المَعلوماتيَّ العلميَّ والدّينيَّ والتّراثيَّ، لتُضفيَ على النّصّ نكهةً تربويّة، فالمأساةُ هي “أكسجين أوراقِنا الدّامعة”، وللتّراب والهواءِ صفاتٌ رائعة، فهذا يَتداخلُ بذاكَ، يتلوّثُ الواحدُ والآخرُ يتجدّدُ، ولعلّ أجملَها التّشبيهُ: “لواقعنا واقعٌ آخرُ في الأحلامِ، لكلِّ محطّةٍ هناكَ مَحطّةٌ أخرى تُقابلُها في المساحةِ، تُعاكسُها في الانتظارِ وهدفُهُ، والّتي تُناظرُ قانونَ نيوتن الثاني: لكلِّ فِعلٍ رَدُّ فِعلٍ، مُساوٍ لهُ بالمقدارِ ومُعاكسِ بالاتّجاه”.
والدّينُ الّذي تُوظّفُهُ عدلة ليسَ مِن المَذهبِ المسيحيّ الّذي تتبعُهُ لوحدِهِ، فهي بينَ الحينِ والآخرِ تُصلّي “أبانا” وغيرها مِنَ الصّلواتِ الإنجيليّة، وتعودُ لتقرأ المَزاميرَ التوراتيّة، وتستقي أيضًا مِن الدّيانةِ الإسلاميّةِ: “فالظُّلمُ مَرتعُهُ وَخيمٌ”، و”لكم ساعتُكُم ولي ساعتي”، و”إنّهُ مِنَ المُخجِلِ أن أتعثّرَ بالحجرِ نفسِهِ مرّتيْن”، و”ألَمْ يقُل اللهُ في كتابهِ العزيز: “اِصبروا فإنّ اللهَ معَ الصّابرين”؟
كذلك هي تفعلُ معَ التّراثِ: “هذا البُغضُ مِن ذاكَ الأسى”، والّتي تأتي مشابهةً للمَثلِ: هذا الشّبلُ مِن ذاكَ الأسد، وتستعملُ الرّمزيّةَ في بعضِ المَواضع، فتُكثِرُ مِن الطّبيعةِ بفصولِها ومعالمِها، خاصّةً فصْلَي الخريف والرّبيع، وتُوظّفُها في بعضِ الصّورِ الفِكريّةِ الّتي تتأرجحُ ما بينَ التّشاؤُمِ والتّفاؤُلِ، وتستعملُ قليلًا مِن السّخريةِ بأسلوبٍ تهكُّميٍّ، “ديموقراطيّةٌ بنكهةِ كرباجٍ مُعلّقٍ على مشجبٍ هوائيٍّ يَلفُّ أعناقَنا فإمّا أن.. وإلّا”. و”هنيئًا لمَن فازَ بخسارةٍ، ولمَن خسِرَ بفوزٍ ساحقٍ”.
أمّا مِن ناحيةِ المَضمونِ، فمواضيعُ الكتاب تتمركزُ حولَ علاقاتِ عدلة الإنسانيّةِ كامرأة وأختٍ، كابنةٍ وأُمٍّ، وتُعبّرُ بأسلوبٍ إبداعيٍّ متنوّعٍ جميلٍ يَنمُّ عن صدقٍ عاطفيٍّ نادرٍ، فبخصوصِ المرأة الواعيةِ الّتي تُمثّلُها عدلة، فالمرأةُ كالورد ولا حاجةَ لأنْ تُوزّعَ عليها الورودِ، “فهي المرأةُ “التي لديها ما تقولُ ولا تَنحني، بل تنحني لها كلُّ البطاقات”، وأقواها وأكثرُها وضوحًا حين ترفضُ سيادةَ الرّجُلِ إذ تقول: “فلا أنتَ سيّدي ولا أنا أمَتُكَ”، ودعْوَتُها للأخرياتِ إلى رفضِ الواقعِ المَفروضِ على جمهورِ النّساءِ بندائِها: لنكُنْ كما نريدُ أنْ نكون.
أما نظرتُها للواقعِ الخاصِّ والعامّ فجُلُّها التّشاؤمُ والألم، وهي تُعبّرُ عنهما بتنوّعٍ في النّصِّ والأسلوب، فالشّوكُ يُدمي يديْها، “فباتَ الجوريُّ أحمرَ وحقلُ الذّكريات يَبكي”. ولا تخلو بعضُ المَقاطعِ مِن ذِكرِ الأفاعي والعقارب، “أفاعٍ.. صخرة صمّاء.. بقلب ذئبٍ وكبد حرّى.. أفعى كبيرة”، وجيوشُ اليأسِ تُحاصِرُها، وفتاةُ الطّهارةِ تُنْدَبُ، ولخوفِها لسانٌ يُحذّرُ بقدومِ أعاصيرَ.. والحكاية جافّةٌ رائحتُها حزينةٌ، تُصيبُها بزُكامٍ شديد.
بالإضافةِ لذلك، هي تُصرّحُ أنّها في ضائقةٍ نفسيّةٍ، “نفسي الضّالةُ في أزقّةِ الزّمكان”، تقومُ بوصْفِها مِن خلالِ نُصوصٍ مُتعدّدةٍ، فتتطرّقُ لخوفٍ وعدمِ أمانٍ يُسيطرانِ عليها: “أخافُ على طائرتي مِن تحليقٍ بلا هبوطٍ”، “أبحثُ عن زاويةٍ آمنةٍ في عالمٍ تكثرُ فيهِ الأفاعي، وتُبرعمُ أغصان الحقد”. فهي إذًا تخافُ الموتَ والاختناقَ وبردَ الغربةِ والكآبة، وهذا ما يَطردُ النّومَ عن عينيْها ويُطيلُ ليلَها، “يهربُ النّومُ مِنَ الخائفينَ، يَطولُ ليلُ العاجزين”. إلّا أنّ أسوأ شعورٍ لديها هو الوحدة، فهيَ وحيدةٌ حتى حينَ تكونُ مُحاطةً بأقربائِها وأصدقائِها، “فأنا معكم ولستُ بينكم”، والّذي أجدُ بهِ تعبيرًا عن شعورِ الاغترابِ المَعنويِّ، وربّما قصدَتْ: فأنا بينكم ولستُ معكم؟” وهي توضحُ أنّ هذا أقسى شعورٍ تُعاني منهُ: “أكثرُ قسوةٍ تلكَ اللّحظاتِ الّتي يكونُ حولَك آلافُ البَشر، ورغمَ ذلك، قاسيةٌ وموحِشةٌ وحدتُك”. وتتفاقمُ الأزماتُ النفسيّةُ والمَخاوفُ لتبدو “واضحة في كسر قلمي الرّصاصِ مِن شدّةِ الألم”، وإلى ما يُشبهُ الوحدةَ الكلّيّةَ المُطلَقة، “فلَم أرَ غيرَ ذاتي في المِرآة، ولا يَظهرُ وزنُ غيري على ميزاني”. لو توقفَتِ الأمورُ عندَ هذا الوصفِ وهذهِ الأفكار، لظننّا أنّنا أمامَ حالةٍ ميؤوسٍ منها، لكن عندها ما كانتِ الكاتبة ستكونُ عدلة، فهي رغمَ كلّ هذهِ الحالاتِ الّتي تصف بها شخصيّاتِ كتابِها لم تستسلمْ، “أنا لم أرفعْ شِعارَ الاستسلامِ بعد، لأنّ النّجمَ في داخلي ما زالَ يُنيرُ هذه البؤراتِ المُظلِمة”، وهي تَحتاطُ للأمرِ فتلبسُ قبّعةً “تقي هذا الرأس مِن عقاربِ الأفكار السّامّةِ وأفاعي النوايا السّيّئة”.
نحنُ أمامَ انتقالٍ مِن وَضْعٍ ضيّقٍ قاتمٍ أسوَدَ وسيّءٍ إلى أقصى حدودِ السّوءِ، ومعَ ذلك، فالأملُ لا يُفارقُ أديبتنا. فهاهي تُنادي: “أيّها الأملُ الغافي على كتفِ حُرّيّةِ الضّمير، حانَ وقتُكَ لتنهَضَ”! وتتساءلُ “أوَليْست الشّمسُ تُعطي دفْئَها رغمَ احتجابِها خلفَ الغيوم؟” ولأنّ “وراءَ كلّ خريف ربيعٌ يبتسمُ”، نجدُها تستعدُّ للمُقاومة، “انتعلتْ جرأةَ الجنديِّ بثقةِ أرزِ لبنان”، وتكرزُ للثّورة: “تمرّدي يا عواصفُ”، وليبدأ “تمَرُّدُ الذات وإعلانُ العصيان”، عندها “انتفضتْ سمكةٌ مِن قاع البحر”، وأخذت تحلمُ بعالمٍ بلا حدودٍ، لها فيهِ حرّيّةُ الطيورِ المُهاجرة، دونَما حاجةٍ لجوازِ سفرٍ أو نقاطِ تفتيش. وهي كامرأةٍ ترفضُ نظرةَ المجتمع إليها، “لا تتفاوَضوا عليّ بمَزادٍ علنيٍّ وتدَّعونَ الوطنيّة، فلي عيونٌ تَراكُم”، رفضُها واعٍ وتحثُّ أخواتِها النّساءَ على التمسُّكِ بأحلامِهنّ: “لا تُؤجّلي حُلمَكِ، فالأحلامُ المُؤجّلةُ بالمِرصاد، يقفُ لها واقعٌ أليم”. وتحثُّهُنَّ أيضًا على عدم الخوفِ: “انتزعي عنك كلَّ خوفٍ”. ويَنقطعُ عنها الشعورُ بالوحدة، “لستُ وحدي، بهذا تعزيتي ولهذا ثورتي”، وها هي تنطلقُ “مِن كلِّ أحزاني سأُكلّلُ نفسي بالثقة، وأتبرّجُ بتاجِ الحرّيّة، مِقودي سيكون التفاؤلُ، سأجوب العالمَ بفِكري الحُرّ”.
ولكن، ليتمّ لها ذلك لا بدّ مِن الانسلاخِ عن الماضي والتّحرُّرِ مِن قبضتِهِ، وهو ما تُتِمُّهُ حين توجّبَ “حرق الذّكريات”، وتُمنّي نفسَها بـ “التّجددِ معَ قدوم الربيع”. الآنَ أصبحنا أمامَ عدلة أخرى مُتحفّزةً، تشتاقُ لغربةٍ مأهولةٍ بسكّانٍ لا يفهمونَ إلّا البسمة، تضيءُ شمعاتٍ عديدةَ، “ثمّ أشعلتُ شمعةَ حبٍّ، لكلِّ قريب وبعيدٍ جعلتُ قلبي يتوهّجُ مَحبّة”، وهذه الثورة هي صرخةٌ مِن نوعٍ جديد ليستْ ككلِّ الثورات، “كان دويٌّ آخرُ، دويُّ أنثى مُتمسّكةٍ بأنوثتها”، أنثى نادمةٌ على مواقفِها السابقة مِن قبولِها لسيادةِ الرّجُلِ وتقييداتِ المجتمع، “ولستُ نادمة إلّا على يومِ صَمْتٍ أبله”. هذه النقلة بالوعي تغيّرُ نظرتَها إلى الأمور، وفجأةً تستقيمُ انعطافاتُ الطريق، وشروقُ الشّمس لن يأتي بحسب برامجِ المجتمع الزمنيّة، “سيُخالف عقاربَ ساعاتِهم”، وهي تُنبّهُ الجميعَ أنّه حتّى الرّماد لايزالُ يَحتفظ بالذّكريات، “كيفَ سيَعرفونَ أنّ في الرّمادِ ما زالتْ جمرةٌ مُلتهبةٌ، إن لم يَكشفوا مِن فوقِها الرّماد؟” كيفَ سيَعرفونَ “أنّ في التراب بذرةٌ حيّة؟” تحثُّ المجتمعَ على التّعمُّقِ في البحثِ وإزالةِ العوائقِ مِن أمامِ المرأة، تلكَ الّتي تحُدُّ مِن طموحاتِها وتطوُّرِها، فاللؤلؤ لا يوجد أبدًا على سطح الماءِ، والعسلُ الشّافي لا يأتي إلّا مِن الشّمع الأسوَد.
تصِفُ لنا إنسانةً جديدةً صامدةً ومُناضلةً، ترفعُ رايةَ النّصرِ أبدًا وتُصرّحُ مُؤكّدةً: “سنعودُ قريبًا، أجل سنعودُ وبأيدينا سعفُ النّخيلِ وأغصانِ الزيتون، سنُزيّنُها لأطفالِنا، وسيَطوفونَ شوارعَ المدينةِ مُهلّلينَ”. مع هذه الثورةِ وكنتيجةٍ حتميّةٍ تُصرّحُ الكاتبة بأنّها ستُحقّقُ هدفَها: “سألقاه، سألقاه”.
وممّا يُلفتُ النظرَ أيضًا لدى أديبتِنا هو إنسانيّتُها الّتي تُعبّرُ عنها في عدّةِ مواضِع، فهي تسعى لحرّيّةِ الذّاتِ وصفاءِ الضّميرِ، وتضامُنِها معَ الفقراءِ والكادحين، “حيثُ عزفَ الفقيرُ مَعزوفةَ الشّوقِ لحُلمِ رغيفٍ بزيتٍ وزعتر”، وهي تَصِلُ لبيتِ أرملةٍ تصُبُّ الزّيتَ في القِدْرِ وتدّعي خفوتَ النّار، علَّ أطفالَها يَنامونَ وأمَلَهُم في القِدْرِ الكبيرِ”. عدا ذلك تستلهمُ الكاتبةُ مِن شخصيّةِ السّيّدِ المسيح أسلوبَهُ المُسالمَ، فهو لمْ يَأتِ كفارسٍ مُحاربٍ يَسفُكُ الدّماءَ، كما يَنفطِرُ قلبُها لأخبارِ موتِ الآخرين، خاصّة الشّهداء، “لولا قلب ذاك الرّجل الّذي قطعَ قلبي، بعدَ أن فقدَ عائلتَهُ بكاملِها”، وهي تدعو أمَّ الشهيد أن تتبنّى سائرَ الشّباب، “لأنّكِ أمٌّ وقلبَ أمٍّ تَملكين”. وتتمنّى للبشرِ أن يتغيّروا “علّهُم يَصومونَ عن سفْكِ الدّماءِ ويُعلنونَ حربًا على الحربِ، يَتقاسمونَ اللّقمةَ معَ الفقيرِ المُحتاج، ويُفرّحونَ قلوبَ الصّغار”. ممّا لا شكَّ فيهِ، أنّنا بهذهِ القراءةِ لم نستوْفِ الكتابَ حقَّهُ تمامًا، فهناكَ مواضيعَ تركناها للقرّاءِ الأعزاءِ، ليستمتعوا باكتشافِها بأنفسِهم عندَ قراءتِهم للكتاب!
**جاءَ في مداخلةِ الكاتبة السّوريّة إيمان ونّوس:
حينَ تلجُ عالمَ عدلة الشّعريِّ والقصصيّ، ترتحلُ بكَ آهاتُ روحِها النّابضةُ أبدًا بنقاءٍ لم تُلامِسْهُ بعْدُ أناملُ الحياةِ بشغبِها وشَجنِها وشِجارِها. هي ذي عدلة النّقيّة توأمُ الرّوح الّتي لمستُ منذُ قراءاتي الأولى لها، مَدى نقائِها ورِقّتِها وحنانِها، قد أطلقَتْ لِيَراعِها العنانَ لأجلِ الحياة، لأجلِ روحِها ولأجلِنا، ولأجل أمَلٍ نرنو إليهِ أبدًا، لأنّنا مَحكومونَ بهِ على المدى.
“أراها قد أبَتْ أشلاءُ حروفي أنْ تُحاصِرَ يَراعي، وآثرَتْ أنْ تبقى طليقةً حُرّةً في فضاءٍ نظيفٍ، إلّا مِن غبارِ الحقدِ والأنانيّة ومسح الجوخ، بُغيةَ ترصيعِ الضّميرِ بحفناتٍ لامعةٍ وأكياسٍ جامعة”.
همْسُها المُعرِّشُ منذ الحروفِ الأولى لإهداءٍ كانَ بحَدِّ ذاتِهِ تراتيلَ روحٍ توّاقةً أبدًا للحُرّيّةِ والانعتاقِ مِن ضجيجِ الأفكارِ المُتعانقةِ دومًا، علّها تُنثر في فضاءاتِ الحياةِ والأدبِ حُروفًا وشعرًا لا يليقُ سوى بيَراعِ عدلة، إهداءٌ فاقَ في رِقّتِهِ ونقاوتِهِ كلَّ ما وهبَتْنا إيّاهُ عبْرَ نصوصِ مَجموعتِها، إهداءٌ يَعبقُ بالحنينِ والوفاءِ لِمَن شاركوها نبضَ الحياةِ والضّميرِ معًا، وأجملُ ما لامَسَتْهُ روحي في ذاك الإهداءِ همْسُها: “إليك أيّها البحرُ السّاكنُ في أعماقي، نبضاتُ ضميرٍ، علّها تُخفّفُ مِن حدّةِ الموْجِ والأنين”، حيثُ لها معَ البحرِ وشائجُ مُتشبّثةٌ بجذورِ وُجودِها، علّهُ الصّديق المتفرّدُ أبدًا بارتشافِ أنينِ الرّوح. وقولُها: “إلى الـ أنتَ الّتي تسكنُني منذ مَطلعِ الفجرِ، وهروبِ الأنا مِن عاصفةِ جليدِ الغربةِ والصّقيع”، بوحٌ فيهِ هسيسُ وجعٍ يَقضُّ مَضجعَ روحٍ مُضمّخةٍ بصقيعِ غربتِها في لجّةِ صخبِ الحياة.
وفي مُناجاتِها لآذارَ تعبيرٌ واضحٌ عن ارتباطِها فكريًّا وروحيًّا بقضايا المرأةِ والأرض. آذار الحافل بأنبلِ المُناسباتِ مِن عيدِ المرأةِ إلى عيد الأمّ والأرض، وما بَينهُم مِن ارتباطٍ وثيقِ العُرى. أليست الأُمُّ أرضًا بعُمقِ ارتباطِنا بها، مَهْما غزا الشّيْبُ هاماتِنا؟ أرضًا تَهَبُنا الخيرَ والعطاءَ ومَواسمَ الأمانِ والفَرح؟ أليسَتِ المرأةُ الأُمُّ بخصوبتِها بيولوجيًّا وروحيًّا وفِكريًّا، تُضاهي الأرضَ بعطائِها، وتمنَحُ الحياةَ حياةً مُشبَعةً بالأثرةِ والوفاء؟ هذا ما باحتْ بهِ حينَ همَستْ: “لا تُوزِّعوا عليْها الوردَ، فالوردُ لا يُريدُ نفسَهُ، بل اعتنوا بثرى أرضِها، بسِياجِ بُستانِها، وانتزِعوا الأعشابَ الضّارّةَ مِن أفكارِكُم، لتكونَ زهرةً شذيّةً مِعطاء .لا تُصادِروا اليَراعَ مِن بينِ أنامِلِها، فعندَها ما تقولُ، الأصَمُّ يَفهمُها، والحبرُ الأسوَدُ يصدقُها في التّعبير. كونوا معها لتبقى معَكم، بيمينِها الّتي لا تَراها يَسارَها أوقاتَ الكرَمِ والجودِ والسّخاء”. “في يومِ الأرضِ سأحرُثُ معكم كُتبَ التّاريخ، علّ عنوانًا آخرَ يَلمَعُ أمامَ ناظِرَيَّ”.
لقد تناولتْ عدلة جُلَّ قضايا المُجتمعِ والحياةِ بأسلوبٍ شاعريٍّ ساحِرٍ، يَتناسبُ ورِقّةَ مَشاعرِها وصفاءِ سريرتِها ونقاءِ روحِها، فهي تُلامِسُ عُمقَ وَجعِ مُجتمعٍ يَعُجُّ بالفقراءِ والمُستضعَفينَ، مثلما يَعُجُّ بالمُرائينَ والمُنافِقينَ مِنَ السّاسةِ والقادةِ والحُكّام الّذينَ استطابوا عرَقَ الكادحينَ والفقراءِ، فنَهبوا ما نهبوا، حتّى انهزمَ ميزانُ العدالةِ الاجتماعيّةِ والإنسانيّة. هي ذي تَبوحُ بوجعِ أولئِكَ الجائعينَ التّائهينَ قائلةً: “ربّاهُ.. أينَ ثوبي الّذي رتّقتُهُ بدماثةِ الأخلاق؟ أينَ حذائي الّذي اهترأَ مِنَ الغوْصِ في وحلِ الظّلمِ والاغتياب؟ في السّوق العتيق حيثُ عزَفَ الفقيرُ مَعزوفةَ الشّوق، لحُلمِ رغيفٍ بزيتِ وزعترٍ، وكوبٍ مِن الشّاي تنبعثُ منهُ رائحةُ نعناعٍ بنكهةِ بستانِ جدّي، ويَنابيعَ جَرَتْ مِن جبهاتِ الكدِّ والعمل”؟!
غاصتْ عميقًا في معنى الصّداقةِ الحقيقيّةِ الّتي نلوذُ بها لحظاتِ الضّيقِ والأسى، ونشدو معها لحظاتِ الفرحِ والأمل، فلولا الصّداقة لما كان للحياةِ مِن معنى، لأنّها مَحض اختيارِنا وإرادتِنا ولهفةِ فِكرِنا وروحِنا. فهاهي تُناجي صديقَها بأجملِ ما نثرَتْ: “كنْ بخيرٍ صديقي، فالحياةُ بلا همْسِكَ لا تُبشِّرُ بالحياة. في الصّباحِ سأُشعلُ لكَ شمعةً صديقي. ما أنتَ إلّا صِدقًا صارخًا في كذبةٍ اسمُها أنا”. ورغمَ أنّ للصّداقةِ في عالمِها مَكانةً راقيةً، إلّا أنّها تنوءُ بثِقلِ الغربةِ والبحثِ عن الذّاتِ والآخرِ الصّادق، فتشعرُ مِن حروفِها أنّها تعيشُ خُواءً ووحدةً مريرةً، في عالمٍ مليءٍ بالنّفاقِ والحقدِ، لذا تراها أبدًا تَنشدُ الحُبَّ والحُرّيّةَ والأمانَ وتهمسُ قائلةً: “أبحثُ في ليلةِ الميلادِ واقترابِ رأسِ السّنةِ عن نبعِ ماءٍ صافٍ، لا يَشربُ منهُ إلّا مَن عَطِشَ للحُرّيّة وتَلمَّسَ الرّجاءَ. أبحثُ عن زاويةٍ آمِنةٍ في عالمٍ تَكثُرُ فيهِ الأفاعي، وتُبرعمُ أغصانَ الحقدِ وتتجذّرُ أشجارُ البُغض”.
تسترسلُ عدلة في الغوصِ عميقًا، لِتضَعَ إصبعها على مَكامنِ وجعِ الحياةِ وآلامِ المُجتمعِ وأمراضِهِ المُستعصيةِ، في واقعٍ مُتشبّثٍ بقِيمٍ تَشُدُّهُ للوراءِ مَلايينَ السّنين، واقعٍ مُتعفّنٍ تنخرُهُ سياسةٌ قائمةٌ على المَصالحِ والأهواءِ والزّعاماتِ، سياسةٌ ترفضُ الآخَرَ، لا بل تُقيِّدُهُ في معتقلاتِ الرّأيِ والحُرّيّةِ، كي تترعرعَ إمبراطوريّاتُ ديكتاتوريّةٍ تَعملُ على بناءِ مُجتمعٍ يَنبضُ بالقوّةِ العضليّةِ، بدلَ قوّةِ العقلِ والعِلم، مُجتمعٍ غُيّبَ عنهُ الضّميرُ لأجلِ التّستُّرِ على عيوبِ وفسادِ الحاكِمينَ، فهي تَختزلُ هذا الواقعَ بالقول: “في حياتِنا الاجتماعيّةِ تُقيّدُنا السّياسة، وفي سياستِنا الاجتماعيّةِ يُقيِّدُنا ضميرُنا، وبينَ هذا وذاكَ نغوص ونغرقُ في يَمٍّ لا نُتقِنُ فنَّ العوْمِ فيه. سُهادُ الفِكرِ احتلالٌ للحرّيّة. بيعُ الضّميرِ ثروةُ العنتريّة، وبين هذا وذاك تنمو الدّكتاتوريّةَ في أرضٍ خصبة”.
وتظلُّ عدلة على مدى صفحاتِ ضميرِها أمينةً لأحلامِها ومبادئِها، ولآمالِها الّتي عرّشتْ في فضاءاتِ ذائقتِنا، فوهبَتْنا سُلافَ روحِها وفِكرِها، لاسيّما حينَ همَسَت: “أيّها الأملُ الغافي على كتفِ حُرّيّةِ الضّمير. حانَ وقتُكَ لتنهضَ. أنا هنا أُلمْلِمُ حبّاتِ ضميرٍ، وأنثرُها في بيداءَ قاحلةٍ. اُرقُدي أيّتها الرّوح، فرائحةُ التّرابِ نقيّةٌ ومَطرُ سحابِكَ وسْمِيّ، وسَلامُ عرْشِكَ تتبادَلُهُ حمائمُ الدّوحِ وأسرابِ الحنين”. هنيئًا لنا بكِ أديبةً عربيّةً، وامرأةً تعرفُ قدْرَ الحُرّيّةِ والحياةِ، وإنسانةً تنبضُ بعبقِ ضميرٍ لم تُلوّثْهُ مَعاييرُ زمنِ حضارةٍ لا تُؤمِنُ بالإنسان، حضارةٍ أقصَتِ الضّميرَ وباعتِ الوجدان.
**وجاء في كلمة زياد جيوسي:
ليستِ المرّة الأولى الّتي أجولُ بها في كتاباتِ ونصوصِ الكاتبة عدلة خشيبون، فقد تابعتُ كتاباتِها ونزفَ روحِها منذُ البداياتِ، وأذكُرُ أنّي كتبتُ مقالًا عن نصِّها “سعاد”، نشرتُهُ في الصّحافةِ وضمّنتُهُ في كتابي “فضاءاتِ قزح”، الصّادر عن دار فضاءات للنشر/ عمّان، وبدعمٍ مِن وزارةِ الثقافةِ الأردنيّةِ في مُنتصفِ عام 2009. في كلّ ما تابعتُ وقرأتُ لها كنتُ أجدُ أنّها تلجأ إلى الرّمزيّةِ الجميلةِ الّتي يُمكنُ أنْ يَنطبقَ عليها وصفُ السّهلِ المُمتنعِ، مِن أجلِ إيصالِ الفِكرةِ ببناءٍ قصصيٍّ جميلٍ وسهلٍ، لكنّهُ يُخفي وراءَ رموزِهِ الهدَفَ المَنشود، وإنْ أعطى المُؤشّراتِ للقارئِ حتّى لا يَتوهَ في البحث، فابتعدَتْ عن الرّمزيّةِ المُغرقةِ بالتّخفّي حتّى لا يَضيعَ القارئُ عن الهدف، أو أنْ يَمَلَّ القراءةَ، فيَرمي النّصّ جانبًا.
الضّميرُ والحِسُّ الإنسانيُّ والحُبُّ والوطنُ صفةٌ مُشتركةٌ في مُعظمِ النّصوصِ الّتي بلغتْ 75 نصًّا، والنّصوصُ تراوحَتْ بينَ القصّةِ القصيرةِ وبين الوجدانيّاتِ، وعدّةُ نصوصٍ يُمكنُ أنْ تُصنَّفَ ضمنَ النّصِّ الشّعريِّ النّثريّ، كانتْ عبارةً عن نزفٍ إنسانيٍّ للرّوحِ الحافلةِ بالمَحبّةِ والإنسانيّةِ، في بوْحٍ وجدانيٍّ عصيٍّ على التجنيس، فهي لا تمَلُّ منَ البحثِ عن الضّميرِ الإنسانيّ، لاقتناعِها أنّ الضّمير لا يَكفُّ عن طرْقِ القلوبِ، لعلَّ الغمامةَ تزولُ ويَعودُ البَشرُ إلى ضمائِرِهم، فالضّميرُ لديها هو بدايةُ الوعيِ وبداياتُ الطّريقِ إلى الحُرّيّة، وهو الوطنُ الّذي تَصبو إليهِ كلُّ نفسٍ، وهو الفِكرةُ والحُرّيّةُ، والضّميرُ الحقيقيُّ لا يَخشى قسوةَ البَشرِ، “أيُّها الأملُ الغافي على كتفِ حُرّيّةِ الضّمير، حانَ وقتُكَ لتَنهضَ”، فهوَ المُوَجِّهُ والقويُّ ولا يَخشى إلّا خالقَ الكون.
الإنسانيّةُ هي هدفٌ مَنشودٌ لا يُمكنُ أن تموتَ مَهما قسَتْ قلوبُ البَشرِ، والضّميرُ مَهما عانى مِنَ الموْتِ أو ابتعدَ، سيبقى يَتوقُ للإنسانيّةِ حيثُ تَنبضُ الضّمائرُ وتَسودُ المَحبّةُ في عالمِ البَشرِ، ومِن هنا نجدُ الكاتبةَ أسْمَتْ كتابَها “نبضاتُ ضمير”، مُشبِّهةً الضّمائرَ بالقلوبِ الّتي تنبضُ، فالنّبضاتُ تبدأُ مِن لوحةِ الغِلافِ الّتي أتتْ على شكلِ قلبٍ كبيرٍ يَحملُ العنوانَ، والنّقاطُ فيهِ قلوبٌ صغيرةٌ ضِمنَ إطارٍ مِنَ القلوب، على شكلِ لوحةٍ مُطرّزةٍ مِنَ التّطريزِ الفلسطينيّ، طرّزتْها يدُ الكاتبةِ على قاعدةٍ سوداءَ، فكانتْ رمزيّةً واضحةً لارتباطِ الضّمير بالقلوبِ والوطن، رغمَ الظّلامِ الّذي يُحيطُ بالوطنِ الفلسطينيِّ، والعتمةِ الّتي تنتشرُ في أرجائِهِ، فهو وطنٌ مُحتلٌّ مِن بَشرٍ لا يَعرفونَ الإنسانيَّةَ أبدًا، ولكنّ “الأرض َتتكلّمُ بكلّ اللّغاتِ، تصرخُ بالأخضرِ صرخةَ الزّيتونِ، وبالأحمرِ شقائقَ النّعمان، وزهرَ اللّوزِ نقاء العذراء، وبالأسودِ تصرُخُ بصوتِ التّراب”، وهي وكما تسميها: “أمنا الأرض”، “الأرضُ أمينةٌ للخيرِ، الأرضُ لا تكذبُ، الأرضُ لا تُمنِّنُ، الأرضُ لا تُنكِرُ المَعروفَ، اِزرعوا أمنياتِكُم فيها، لا تُحلّلوا مَفاهيمَها، لا ولا عناصرَها، هي تُعطى وكلُّنا نُحِبُّ العطاءَ.. تُعطي وسعيدةٌ بعطائِها”.
مازجتْ عدلة في نصوصِها ما بينَ العناوينِ ودلالاتِها، وما بينَ البوحِ الوجدانيِّ مِن ناحيةٍ، وبينَ الأسلوبِ القصصيِّ مِن ناحيةٍ أخرى، لكن كانَ واضحًا في كلِّ نصٍّ أنّ هناكَ رسالةً تُرسلُها، فما بينَ الألمِ على فاتنة في “فاتنة.. حبيبتي الصغيرة” الّتي تستهلُ بها الكتاب، مُرورًا بـ”آذار.. وثيقة عطاء”، حيث تُمازجُ بينَ يومِ المرأةِ وعيدِ الأُمّ ويومِ الأرض، مُرورًا بكلِّ نصٍّ مِن نصوصِها، حيثُ تتحدّثُ عن الصّيامِ وذكرى الأُمّ، مُرورًا بكافّةِ النّصوصِ الّتي حفِلتْ بكَمٍّ كبيرٍ مِن مشاعرِ الإنسانيّةِ والمَحبّةِ والضّميرِ، مُمازِجةً في كافّةِ النّصوصِ تقريبًا، بينَ الطبيعةِ في عصْفِها مِن ناحيةٍ وبينَ جَمالِها مِن ناحيةٍ أخرى، وبينَ الرّوحِ الإنسانيّةِ بتقلّباتِها مِن ناحيةٍ أخرى، فهي تهمسُ: “صادقة هي عاصفة الطبيعة”، ولكنّها تهمسُ مِن ناحيةٍ أخرى: “كلُّ أعاصيرِ الكونِ تهدأُ بكلمةِ مَحبّةٍ وحفنةِ حنان”.
الوطنُ هو الهاجسُ الأكبرُ في نصوصِ عدلة، فتُوجّهُ سهامَ نقدِها بقوّةٍ لمَظاهرَ سلبيّةٍ للمجتمعِ الّذي تعيشُ فيهِ، وخصوصًا ما باتَ يُعرَفُ بلعبةِ الانتخاباتِ في نصِّها: “مُنافِقونَ حتّى النّصر”، والطّبقاتُ المَسحوقةُ لها مَكانتُها في نصوصِها، ففي نصِّها: “صمتٌ وحفيفٌ” تقولُ: “أينَ حذائي الّذي اهترأَ مِنَ الغوصِ في وحلِ الظُّلمِ والاغتياب؟ في السّوق العتيقِ حيثُ عزَفَ الفقيرُ معزوفةَ الشّوقِ لحُلمِ رغيفٍ بزيتٍ وزعترٍ وكوبٍ مِن الشّاي، تنبعثُ منهُ رائحةُ نعناعٍ بنكهةِ بستانِ جدّي، ويَنابيعَ جرَتْ مِن جَبهاتِ الكدِّ والعَمل”. وهيَ تصِفُ دومًا الفقراءَ بالخُلُقِ ودماثةِ الأخلاقِ رغمَ فقرِهِم، وتَرفضُ العبوديّةَ فتقولُ: “أريدُ أنْ أصرخَ لا في وجهِكَ، بل في وجهِ العبوديّةِ الآسرة”.
الأُمُّ العاطفةُ والحنانُ والذِّكرى والتّأثيرُ التربويُّ لها مساحةٌ كبيرةٌ في وجدانيّاتِ عدلة، وبالكاد يَخلو نصٌّ مِنَ الإشارةِ إلى الأُمِّ مُباشرةً أو عبْرَ الرّمزِ، ففي نصٍّ “في يومِكِ أُمّاه”: “ما زالتْ تُسكِرُني رائحةُ الهَيْلِ مِن قهوةٍ كنتِ فنَّها تُتقِنينَ، ورائحةُ خبزِ الصّاجِ تفوحُ، أمّا أقراصُ الزّعترِ السّابحةُ في الزّيت، فطعمُها لن يَطغى عليهِ أيُّ طعمٍ أّمّاه.” بينما الفلسفةُ والحكمةُ كانت تختصرُ النّصوصَ عامّةً بعبارةٍ في أواخرِ النّصّ، ومِن هذهِ الحِكَمِ على سبيلِ المِثال: “لا تَرموا حجارةً في بئرِ الذّكرياتِ، فقد تشربونَ منها ذاتَ يومِ”. “البحرُ يَعطشُ كما الصّحراء، الصّحراءُ تتنفّسُ ماءَ البحرِ المالح، ويبقى كلاهُما يَبحثانِ عن الماءِ للارتواء”. “بحرُ الأحلامِ بلا مُنقِذٍ، والعومُ في الأعماقِ على مسؤوليّةِ العائم”. “تمتّعْ بالحُلمِ ما دمتَ في غفلةٍ مِن اليَقظةِ”. “اِجعلي لكِ مِن حامضِ الذّكريات عصيرًا حلوَ المَذاق”. “لا أُحِبُّ القلائدَ الضّيّقةَ، تَخنقُني وتبرقُ في وجوهِ الآخرين”.
هكذا وفي جولةٍ سريعةٍ في نبضاتِ ضمير، نَمُرُّ في جولةٍ مِن جَمالٍ مِنَ البدايةِ حتّى النّهاية، وإنْ كانَ يَستحيلُ أنْ يَكونَ هناكَ عملٌ مُتكامِلٌ بدونِ بعضِ الهنّاتِ ونقاطِ الضّعفِ العابرة، فالنّصوصُ ليستْ كتابًا مقدّسًا، فالقارئُ سيَلمسُ بعضَ التّكرارِ في النّصوصِ، وإنْ كنتُ أعذُرُ عدلة مِن زاوية أنّ هذهِ النّصوصِ كُتبَتْ ونُشرَتْ عبْرَ سنواتٍ طويلةٍ، ولم يَتمَّ إعادةُ تحريرِها حينَ نشْرِها في كتابٍ يَضمُّها بينَ جنَباتِهِ، إضافةً إلى أنَّ استخدامَ النّقطتيْنِ المُتتاليتيْن (..) يَتكرّرُ دومًا بينَ العباراتِ، وكان الأجدرُ استخدامَ إشاراتِ التّرقيمِ الأخرى، كما أنّ العديدَ مِنَ النّصوصِ أخذَ طابعَ السّردِ أكثرَ مِنَ اللّازم، وكانَ يَحتاجُ إلى تَكثيفِ اللّغةِ أكثر.
وهناكَ ملاحظةٌ فنّيّةٌ حولَ طباعةِ الكتابِ وتنسيقِهِ، فالكتابُ الأوّلُ هو كأساسِ البنايةِ في مَسيرةِ الكاتب، ويكونَ أجملَ لو كانَ مِن القطْعِ المُتوسّطِ وليسَ القطع الكبير، ولو جَرى الانتباهُ لنوعيّةِ ولون الورق، فالورقُ أبيضُ مُتعِبٌ للعينيْن، والإهداءُ طويلٌ وكأنّهُ نصٌّ، كانَ يُمكنُ تكثيفُهُ واختصارُهُ، إضافةً إلى أنّ كلمةَ الشُّكرِ والتّقديرِ بصفحةٍ كاملةٍ، كانَ أفضل أنْ تكونَ أقلَّ مساحةً بذِكرِ الأسماءِ وكلِّ مَن شجّعَها في مَسيرتِها الأدبيّةِ، وهذا كانَ يُمكنُ اختصارُهُ بعباراتٍ مُكثّفةٍ عامّةٍ مُعبّرةٍ، إضافةً إلى وجودِ تقديمٍ للكتاب في بدايتِهِ، وهذا لا اعتراضَ عليهِ، لكن لم تَجْرِ العادةُ أنْ يكونَ هناكَ تقديمٌ آخَرُ في نهايةِ الكتابِ أيضًا. ومع هذا فالجَماليّاتُ والبوْحُ الوجدانيُّ في الكتاب يُشارُ إليها بكلِّ احترامٍ، ولعلَّ الكاتبةَ معَ موْلودِها القادمِ تتمكّنُ مِن تجاوُزِ هذهِ الهنّاتِ، حتّى يُحلّقَ القارئُ بفضاءاتٍ نقيّةٍ مِنَ الجَمالِ، وبدونِ اعتراضٍ مِن سحاباتٍ عابرة.
**ومِن الكاتب حبيب فارس جاءَ:
أخواتي وأخوتي الأعزّاء، أيُّها الحفلُ الكريم، تحيّاتي الطيّبة مِن مدينةِ سيدني عبْرَ بلدةِ عيترون، على أجنحةِ حنينٍ أبديٍّ تُوقِّدُهُ الأسلاكُ الشّائكةُ وتقدّسُهُ سياطُ الطّغاة. أدركُ أنّ المَجالَ لا يَتّسعُ لإيفاءِ الصّديقةِ العزيزة الأديبة عدلة شدّاد خشيبون ومولودِها الجديد “نبضاتُ ضَميرٍ” حقّهُما. تعرّفتُ على العدّولة، كما يَطيبُ لي تسميتُها، وعلى أدبِها منذ بضعةِ سنواتٍ، فشكرًا للشّبكةِ العنكبوتيّة. بدأتْ رحلةُ التّعارفِ والتّواصُلِ عبْرَ هديّةٍ افتراضيّةٍ أرسَلَتْها لي أديبتُنا الرّاقيةُ عبْرَ الأثير، هي كنايةً عن سلّةٍ مِن تينِ وزيتونِ وصبّارِ بلدةِ صفّوريّة المَظلومة، إثْرَ نشري نصًّا مُرتبطًا ببلادِ الصّبر، ولم تنتهِ بنِصفِ دزّينةٍ مِن طيباتِ نبيذِ قانا الجليل. الأديبة خشيبون ونبضاتُ ضميرِها كائنٌ واحدٌ، نبَتَ في أرضٍ مُقدّسةٍ بينَ الدّوالي وأشجارِ الزّيتونِ والتّينِ والصّبّارِ، وتعاقَدَ معَ أزهارِ الدّحنون والزكوكع والخزامى وشقائق النعمان، وزنابق الزّعتر والعِلت والعكّوب على حمايةِ هُويّة الأرض ولغتِها وتاريخِها، وديمومةِ عطائِها للإنسانِ الإنسان. في نبضاتِ ضمير تتقمّصُ عدّولة بصِدقٍ خالصٍ وعفويّةٍ مُطلقةٍ، شخصيّةَ راهبةٍ أصيلةٍ طاهرةٍ مُتجذّرةٍ في ذاكرةِ أصحابِ الأرضِ وحُماةِ الدّيارِ، جيلًا بعدَ جيل، وترفعُ أدبَ المُناجاةِ إلى مَرتبةِ جَمَعيّةٍ نبيلةٍ بلسانِ المُناجي الشّخصِ الفرد. الإلهَ الّذي تُناجيهُ راهبتُنا القانْجَليليّة، هو عصارةُ جميعِ آلهةِ النّاسِ على مَرِّ العصور. إنّهُ الإلهُ المُتحسِّسُ لمَشاعرِ آلامِ وآمالِ الإنسان المُتعاطِفِ معَ حقوقِهِ وأحلامِهِ، القاطفِ صفاتَهُ مِن شذى الأرضِ، الأُمّ، الأب، الابن، الأخ، الأخت، الحبيب وآهات المعذّبين. عندما تقرأ نصوصَ “نبضات ضمير” إنّما تقرأ نبضاتِ ضميرِكَ، وتُدركُ أنّهُ لا فرقَ بينَ الإلهِ الّذي تُناجيهِ أديبتُنا، وبينَ الضّميرِ الإنسانيِّ الحيِّ الوهّاج. ما قرأتُ نصًّا للعدّولة إلّا وارتسمَتْ في مخيلتي صورةُ عروسِ قانا الجليل، بفستانِها وطرحتِها الأبيضيْن، بينما يسوعُ يُباركُ نبيذَ الجُرن.
أجزمُ أنّ جَماليّاتِ نصوص “نبضات ضمير” مُتنوّعةٌ مُتدفّقة، وهي مرآةُ روحِ أديبتِنا المُبدعة. تهانيَّ الحارّة راهبتُنا القانْجليليّة الطاهرة الصّافية، وإلى الأمام أمّ البشير.
**من ماري دانيال حتر جاء:
أرسلُ أجملَ باقاتِ التهنئةِ المُعطّرةِ بالمَحبّة من شيكاغو إلى قانا الجليل. تعرّفتُ على الأديبة عدلة منذ عدّةِ سنوات، وكانت بداية لصداقةٍ جمعَتنا بالرّغم مِن بُعد المسافة. وكم سررتُ بقراءةِ باكورةِ إبداعِها (نبضات ضمير)، فعنوانُ الكتاب عميقٌ وهو نصٌّ بحدِّ ذاتِهِ مُكثّفٌ وبليغٌ، يَشدُّ القارئَ للغوصِ واستكشافِ اللآلئ في صفحاتِ الكتاب. كنتُ أتابعُ كتاباتِ الغالية عدلة مِن خلال الإعلام الإلكترونيّ، وكقارئةٍ أثّرتْ بي إنسانيّتُها وصدقُ أحاسيسِها وكلماتُها المُؤثّرة. كتاباتُها هي أفكارٌ وأمنياتٌ، أحلامٌ وحكاياتٌ، حنينٌ وألمٌ، حزنٌ وفرحٌ، معاناةٌ وحبٌّ وكبرياءٌ، وأكثرُ مِن ذلك الأمومة بأسمى مَعانيها ومشاعرِها الإنسانيّةِ الرّاقية، والّتي غلّفتْها أديبتُنا بإحساسِها المُرهَفِ وضميرِها الحيِّ وقلبِها النقيّ، وبكلماتٍ بليغةٍ ولغةٍ تمسِكُ بها بكلِّ اقتدارٍ وقوّة. مِن كتاباتِها يفوحُ جمالُ عطرِ التراب والأرضِ وأشجارِ الزيتون، وتتجلّى الإنسانيّةُ بكلِّ مَعانيها السّامية. ألف مبارك باكورة كتاباتِك الإبداعيّة، وهنيئًا وفخرًا لنا بقلمِكِ الرائع، وإلى مَزيدٍ من الإبداعِ والتألّق.
**ومن أمين خير الدّين جاءَ:
كلماتُ عدلة شدّاد حلوة كحبّاتِ رمّانِ بساتين البقيعة، كيفَ لا وقد نبتتْ كوردةٍ في البقيعة، وارتوتْ مِن ماءِ العينِ الصّافي، لكنّها أذابتْ في هذهِ المياهِ الّتي شربَتْها مِن عينِ البقيعة حلاوةَ رمّان قانا السيّد المسيح. إنّها تكتبُ بقلمٍ ارتوى مِن حنان الأُمّ الّتي تُصلّي مِن أجلِ سلامةِ أبنائِها، وكأنَّ البَشرَ كلّهُم أبناؤُها، فهي تريدُ السّلامَ والحُبَّ النّقيَّ النّظيفَ لكلِّ البَشر، فهي أُمٌّ وأختٌ ورفيقةُ دربٍ لكلِّ الّذينَ يُشاركونَها مَشاعرَها الإنسانيّةَ والوطنيّةَ، ولا يُمكنُ للإنسانِ الإنسان إلّا أن يكونَ وطنيًّا، لأنّ مَن يُحِبُّ شعبَهُ ووطنَهُ، لا يمكنُ إلّا أن يُحبَّ شعوبَ الأرضِ، وهنا يَتفاعلُ حُبُّ الوطنِ بحُبِّ الإنسان. فتحيّاتي للأخت عدلة شدّاد خشيبون.
كلمة الكاتبة عدلة خشيبون:
في بستانِ مَحبّتِكم زرعتُ أفكاري، فارتوَتْ مِن دِفْءِ كلامِكم، ومِن خلالِكم كانَ نبضُ الضّميرِ قويًّا، وكانَ المولودُ ضميرًا يَنبضُ بأملٍ مُتَوارٍ خلفَ حكاياتِ لبنى وسعاد، وآهاتِ بثينة وسلمى، ودمعاتِ خولة واستغاثاتِ نورس وهزار. كانَ الضّميرُ ربيعًا في الخريفِ وصيفًا في الشّتاء، فكتبَني بمَدادِ آذار المرأة والعطاء، وأيّار شهر الدّمعة والابتسامة.
مولودةُ شتاءٍ أنا، وغيماتي ماطرةٌ صادقةٌ ليستْ خُلَّبًا، وصِدقُها في رعدِ كانون وسيْلِهِ، وحين قرّرتُ أنْ أجمَعَ نُصوصي في كتاب، أتى العنوان وحدهُ لا مُنافِسَ لهُ، فأسرعتُ لعلبةِ خيطاني الّتي ورثتها مِن أمّي الغالية وطرّزتُ الغلافَ، ففي كلّ غرزةٍ نبضةُ ضميرٍ ودقّةُ قلبٍ، وشُكرٍ وعرفانٍ لهذهِ العظيمة، فلها نبضُ روحٍ لا يَنضُبُ ولا يَموتُ، وإن كنتُ قدِ اخترتُ قماشَ الكتابِ أسودَ اللّون، فقد اخترتُ ألوان الأمل لتُزيّنَهُ. القارئُ سيبحثُ ويرى الأملَ في كلِّ نصٍّ.
عميقُ شكري لكلِّ مَن غيّبَتْهُ الظّروفُ ومنعتْهُ مِن مُشاركتي، وباقةُ شُكرٍ لوالدي الّذي حالَ وضعُهُ الصّحّيُّ مِنَ الحضورِ جسديًّا، وللشّاعرة المُخضرمةِ الجميلة بكلّ المعاني سُعاد قرمان، الّتي لم تتردّدْ في إدارةِ الأمسية، فشكرًا سعاد أولى أبطال نبضاتي في قصّة سعاد، وأردّدُ لكِ خاتمة القصّة (أُحبُّكِ يا سعاد.. أُحبُّكِ يا أصيلة).
أشكرُ المجلسَ الملّيِّ الأرثوذكسيَّ في حيفا، ومِن خِلالِهِ المُحامي فؤاد نقّارة الذي لا يَتركُ المَظلومَ وحيدًا، يُدافعُ عنه بقانون الإنسانيّة، نراهُ وقد تعاهدَ على نشرِ الكلمةِ الطّيبةِ مِن خلالِ نَدواتٍ ثقافيّةٍ أدبيّةٍ يقومُ على ترتيبِها، فلهُ باقةُ شُكرٍ لا تذبلُ، وأقدّمُ لهُ لوحةً طرّزتُها بإبرتي في كلّ غرزةِ شُكرٍ وعرفانٍ، ليُباركَ الرّبُّ هذا المكان.
أشكرُ اتّحادَ الكرمل للأدباء الفلسطينيّينَ ورئيسَهُ الأستاذ المربّي فتحي فوراني، صديق العائلة. شكرًا يا أبا نزار لهذا الحضور وغيرتِكِ على اللّغة. أدامَكَ الله بكلِّ هذا العطاء. مرّت ثلاثون مِن السّنين ولم نرَكَ فيها، وحين التقينا مِن خلال الموقع الاجتماعيّ أرسلتُ لكَ كتابي، وتفاجأتُ بمَقالٍ أثرى الكتابَ توضيحًا. شكرًا د. حسام والزّوجة الجميلة مها لهذا الحضور السّخي منكم.
أمّا أنتِ أيّتها الرّاوية لنا أجملَ الرّواياتِ كالنّحلة أراك هنا وهناك، وإذا سألوني من المقصود بملأى السنابل التي تنحي بتواضع، لا أتردّدُ في الإشارةِ إلى اسمِكِ، شكرًا من أعماق الرّوح. وشكر كبير للصّديقة الكاتبة هدية علي التي تُعتّقُ الآمالَ مِن خلال رواياتِها الجميلة، لتفتح لنا آفاقَ المعرفةِ مِن هذه النّافذة، وشُكر للشّاعرة آمال عوّاد رضوان على تشجيعها الدّائم، وإصرارها على إخراج هذه النّصوص على شكلِ نبضات. وباقة لخالي السّيد يوسف عبدو على كلماته ا لرّائعة، وشكر للأصدقاء الذين أرسلوا مداخلاتٍ: الأديبة إيمان ونوس، الشاعر حبيب فارس- لبنان أستراليا، الأديب الفلسطيني زياد جيوسي، الصّديقة ماري دانيال حتّر- الولايات المتحدّة شيكاغو، الأديب أمين خير الدّين- حرفيش، والشّكر الأكبر لكلّ مَن خطّطَ وذلّلَ صِعابَ الوصول ليكونَ معي، وحين فكّرت بالشّكر لم أتردّدْ ثانية بتطريز النّبضاتِ كهديّةٍ رمزيّةٍ لكلّ واحدٍ منكم، وكأنّي بها أقول ضعها في النّبضات وستسمعك النّبضات. بارك اللهُ فيكم وألف شكر لحضوركم من كلّ حدب وصوب، وليبقَ الضّميرُ نابضًا لنا أجملَ النّبضات، والوقتُ ضاقَ بالسّاعةِ والمكان.