حينما يصبح “الابعاد” مطلباً و”الهجرة” أمنية -عبد الناصر عوني فروانة
يبدو انهم.. حفظوا القرآن الكريم ودرسوا احاديث الرسول صل الله عليه وسلم وطبقوا تعاليم الاسلام في التسامح والعدالة، وفي الضمان الاجتماعي واحترام الانسان وحقوقه وقيمته الإنسانية، وكذلك في النظام والنظافة وقواعد التعامل الاجتماعي، وعملوا بوصية الشهيد الأديب “غسان كنفاني” فزرعوا جنتهم في الارض. لكنهم ليسوا بمسلمين. عن بلاد الغرب أتحدث.
وكلما زرت دولة أوروبية و تعرفت أكثر على مجتمعها، ازددت احتراماً وتقديراً لهم، وحزنت على واقعنا العربي والإسلامي، وتألمت أكثر لما نمر به ونعيشه كمجتمعات عربية بشكل عام ومجتمع فلسطيني ولاسيما في غزة بشكل خاص. أولئك الذين زرعوا جنتهم فوق الأرض، فيما نحن أبقيناها في عنان السماء. في وقت لا تعارض في الدين الإسلامي بالجمع ما بين السعي لزرع جنة فوق الأرض والتمتع بها، والعمل لضمان مكانة في جنة السماء. ولما لا نتمتع بكلتا الجنتين؟ .
عرفتهم أصدقاء مقيمين في أوروبا. والتقيتهم منتظرين رضا الجهات الرسمية. ورأيتهم متجولين في شوارعها. هؤلاء الذين تركوا غزة وهجروا الوطن بحثاً عن الجنة في الأرض، تلمست لديهم الحنين للعودة الى غزة وأهلها والاستمتاع بجوها وبحرها الجميل، والمشي في شوارعها وبين أزقتها الضيقة واستعادة ذكرياتهم. هؤلاء عبرّوا لي عن اشتياقهم الحار للقاء الأهل والأحبة والأصدقاء في غزة. لكن جميعهم –انتبهوا- أبدوا رغبتهم في زيارة غزة وليس الإقامة الدائمة فيها. وهناك فرق، ما بين الزيارة والإقامة.
هؤلاء، الرجال والنساء والأطفال والكفاءات، هاجروها هرباً من بؤس الحياة ومعاناتها، ومأساة الظروف المعيشية وقسوتها، وطلبوا اللجوء في دول أوروبا بحثاً عن حياة افضل لهم ولأبنائهم، واكثر أمنا واستقرارا. فيما لم يتخلوا عن وطنيتهم الفلسطينية وحبهم للوطن. فالوطن ما يزال يسكن بداخلهم، ويعيشون على أمل ان يتحرر وسيتحرر يوما من الاحتلال والظلم والقهر.
وما بين جمال الشجر والحجر والبشر في أوروبا ومتعة الحياة فيها واحترام الإنسان وتوفير احتياجاته الأساسية هناك، وواقع غزة المرير وبؤس أهلها الشديد. مسافات طويلة وطويلة جداً. وما بين قسوة الغربة والحنين الى الوطن. ألم عميق. يزداد هذا الألم عمقا مع مرور السنين.
ومن خلال من التقيتهم فلقد تلمست أيضا: أن من هجر الوطن أو فكر بان يهجر غزة ويقيم في اوروبا، فهو لم يفعل ذلك ولم يلجأ الى هذا الخيار خيانة للوطن أو كرهاً في غزة وأهلها. وانما اضطر لفعل ذلك هرباً من قهر الحياة في غزة وبؤس الظروف فيها، وبما يكفل له حياة أحست ويضمن لأطفاله مستقبل أفضل. هذا ما يرددونه على مسامعنا.
وبالرغم من سوء الأوضاع في غزة، ومشروعية التفكير بالهجرة في ظل المعطيات القائمة في غزة، فان الطريق الى اوروبا ليست بالسهلة، فهي معبدة بالصعاب والاشواك وبحور الموت ومحفوفة بالمخاطر، وبعض قصص المهاجرين وحكاياتهم تصلح لأن تكون سيناريوهات لأفلام الهوليود، وأن الحياة في أوروبا ليست وردية كما يتخيلها البعض، فيما ليس كل من وصل الى هناك حصل على “اقامة” وأن “الاقامة الدائمة” هناك لها استحقاقات كثيرة وبعضها مريرة، لا يدركها سوى من عاش ويعيش هناك.
هذا لا يعني انني اؤيد الهجرة من غزة. او ان كل من هاجر لديه ما يقنعني بدوافع وأسباب هجرته. او انني راض على حياة وأسلوب بعضهم في اوروبا. ولكني اشعر بالمرارة وانا اقف امام رجل او شاب يرغب في الهجرة، واعجز عن اقناعه في البقاء في غزة كجزء من ارض الوطن…!
في سنوات ماضية. كانت الهجرة او حتى القبول بالإبعاد المؤقت “خيانة”، وهناك من فضّل السجن في سجون الاحتلال لسنوات على ألا يبعد او يهاجر. فيما اليوم اصبح الإبعاد مطلباً والهجرة أمنية والإقامة الدائمة في أوروبا غدت حلم كل شاب فلسطيني يقطن غزة. والأسباب ذاتية وموضوعية يعرفها ويدركها الجميع.
أيها القادة الفلسطينيون: لا تلوموا من ترك الوطن وهاجر، ولا تشككوا في وطنية من غادر غزة ولم يَعدْ. فمنهم من ناضل وضحى، أو جُرح واعتقل في سجون الاحتلال، ومنهم عُذب وعانى من ذوي القربى. وانما فكروا وتحركوا واعملوا على تغيير الظروف في غزة وتحسين شروط الحياة فيها، ومساعدة أهلنا على مواجهة التحديات وتجاوز الصعاب وصناعة مستقبل أفضل لشبابنا واسقاط “صفقة القرن”. هذا ان اردتم لهم الصمود والبقاء في غزة ونزع فكرة الهجرة من أذهانهم. وما دون ذلك فأفواج وأفواج أخرى في طريقها للهجرة حتى وان كان ذلك عن طريق بجر الموت.!
كان الله في عون شعبنا وأبنائه في فلسطين. كان الله في عون أهلنا وأبنائنا في غزة. كان الله في عوننا جميعا
—
عبد الناصر عوني فروانة
أسير محرر، و مختص في شؤون الأسرى والمحررين