حين تساوي العدالة الدولية بين الضحية وجلاَّدها!
عبداللطيف مهنا
منذ أن شكَّل المجلس العالمي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لجنته لتقصِّي الحقائق حول جرائم الحرب، التي ارتكبها الجيش الصهيوني إبان حربه العدوانية الأخيرة على قطاع غزة المحاصر، والتي مرعليها الآن قرابة العام، بادر الصهاينة الى شن حربهم الضروس على هذه اللجنة، ولاحقوا رئيسها الأول الكندي ريتشارد شافاس، بحيث لم يجد له بداً من الاستقالة، لتخلفه القاضية الأميركية ميري ماكيفين ديفيس، المعروفة بتعاطفها معهم. لكنما لا استقالة شافاس ولا حلول ديفس محله بدَّل من موقفهم من اللجنة، والقائم اصلاً على مبدأ، ليس فقط رفض مجرَّد تخيِّل إدانة جرائمهم، أو المس بعصمتهم ، من قبلها، وإنما فكرة تشكيلها برمته، ثم لإدراكهم سلفاً أن أية لجنة تحقيق دولية، حتى ولو انحازت لهم، فليس من السهل عليها تجاهل كل هذا الحجم الهائل من الخراب والدمار وسفك الدماء، الذي الحقوه عامدين بالإنسان والبنى الغزيِّة خلال تلكم الواحد والخمسين يوماً من حربهم الإبادية، التي طالت جهنهمها المدنيين أولاً، اطفالاً ونساءً وشيوخاً، قبل سواهم، بل وكادت أن تقتصر عليهم.
لقد رفض الصهاينة منذ أن كانت هذه اللجنة التعاون معها، أو تزويدها بالمعلومات التي تتطلبها مهمتها منهم، أو السماح لها بالقدوم الى كيانهم، أو الوصول إلى القطاع المحاصر، لجمع الشهادات المطلوبة لإنجاز تحقيقها المزمع، بعكس ما فعلته المقاومة الفلسطينية، التي ابدت كل المطلوب منها من تعاون أو تسهيل تستطيعه لإنجاز مهمة اللجنة، فكان أن استعاضت عن ما تم الحؤول بينها وبينه، باللجوء الى اجراء مقابلاتها هاتفياً، أو عبر “السكايب”، أو بعض ما تيسر لها منها في كل من عمان وجينيف.
والآن، ومع اقتراب مرور عام على هذه المحرقة الوحشية التي اقترفها الصهاينة في قطاع غزة، أنهت اللجنة تحقيقاتها لتقدم من ثم تقريرها، والذي لم يك بوسعه ولا بمستطاعه التملُّص من وجوب اتهام الصهاينة صراحةً بارتكاب جرائم الحرب خلالها، اضافةً إلى خرقهم لكافة القوانين والأعراف الدولية المتعلقة، أو كل ما سبق وأن كانت شاشات التلفزة الكونية قد وثَّقته لحظةً بلحظة خلال أيامها الدموية ويشهد عليه ليس ضحاياها وحدهم، وإنما العالم بأسره…وإذ أن مجرَّد الإقدام على مثل هذا الاتهام الصريح سوف يعد حادثةً غير مسبوقة من قبل هيئة دولية في عالم يضع الصهاينة ما فوق المسائلة وفي منزلة من عصمة لاتطولها القوانين والأعراف الدولية، وديدنه أن تستَّر على مر عقود من الصراع العربي الصهيوني على جرائمهم وغطَّاها، فعلت اللجنة أيضاً ذات ما درجت عليه هكذا لجان لهكذا أمم فساوت، وكما المتوقَّع منها، بين الضحية وجلاَّدها حين ادانت الصهاينة والفلسطينيين معاً…ومثلاً:
اختصرت عدد الشهداء الفلسطينيين من الفين وثلاثماية الى الف واربعماية واثنين وستين، واعترفت بأن ثلثهم اطفالاً، لكنها وضعتهم في مقابل سته لا أكثر من المستعمرين الصهاينة الذين اعتبرتهم مدنيين، ووضعت أكثر من ثمانية عشر الف منزل فلسطيني دُمِّر خلال الحرب مقابل إصابة صواريخ المقاومة البدائية لبعض لايذكر من بنى المستعمرات، أو الثكنات التهويدية المحيطة بقطاع غزة. وتمادت في تدليع الصهاينة، بل تبرير افعالهم، من مثل حديث التقرير عن ما سببه الفلسطينيون من “خوف مستمر في المستوطنات في (اسرائيل) التي تعيش في خطر دائم”، والإشارة الى أن صواريخ المدافعين عن غزة…غزة التي تعرَّضت في تلك الحرب الى ستة آلاف غارة جوية تدميرية فقط… قد “كسرت”، ويا لأسف هذه اللجنة، “روتين الحياة” في تلك المستعمرات، كما لم تنسَ أن تسجِّل في تقريرها أن “مجرَّد وجود الأنفاق خلق صدمة لدى (الإسرائيليين)، الذين خافوا من التعرُّض لهجمات في كل لحظة على مستوطناتهم”!!!
وحيث لم يك بوسع هذه اللجنة عدم الإشارة، ولو تساؤلاً، الى أن ارتكاب الصهاينة لجرائم الحرب كان ممنهجاً، أو”يتعلَّق بسياسة أوسع تمت المصادقة عليها في أعلى مستويات الحكومة” الصهيونية، كان لابد لها من اتهام الفلسطينيين بالمقابل، فلم تجد سوى اعتبار اعدام العملاء ابان الحرب جريمة حرب، متجاوزةً في ذلك القوانين الوطنية، وغاضةً الطرف عن فداحة ما تلحقه عمالتهم بالغزيين من أذى لاسيما في ظروف الحرب الدموية التي تشن عليهم…ومع هذا، اعتبر نتنياهو أن مسألة اللجنة وتقريرها برمتيهما هما “مضيعة للوقت”، ويأتيان من قبل “جبهة معادية وغير موضوعية تجاه (اسرائيل)”، أما بالنسبة لوزيره الفاشي نفتالي بينيت، فتقرير اللجنة “تقطر من يده الدماء لأنه يجيز قتل اليهود”!!!
…فوق ادانة الضحية، خلا تقرير ديفس من التوصيات القانونية، بمعنى أنه حتى “تقرير غولدستون” الذي عفى عليه الزمن كان أفضل منه، لكنما هناك من الفلسطينيين من اعتبره على عواره، ربما لأنه تجرأ فاتهم الصهاينة صراحةً بارتكاب جرائم حرب، نصر من الله وفتح قريب، بانياً على رماله قصوراً يتخيلها في رحاب عدالة محكمة الجنايات الدولية، هذه التي امتنعت عن ملاحقة الصهاينة بشان دموية هجومهم على اسطول الحرية بدعوى أن تداعياته لم تك “خطرة بما يكفي”، ناهيك عن أن حامي حمى الصهاينة الأميركي هو لعدالتها بالمرصاد…أما سلطة “أوسلوستان”، التي ما انفكَّـت تعيش اجواء أوهام وساطة فابيوس الاستدراجية التصفوية والفاشلة، فلا زالت منكبَّةً “تراجعه”…ونرجِّح أنها، إن حدث وفرغت من مراجعته، فلسوف تجد فيه فحسب ما يعزز أوهامها التسووية المزمنة، التي تأخذها باتجاه متاهة تغريبتها المفضَّلة “استراتيجية التدويل”باحثةً عن فقيدها المنقرض “حل الدولتين”!!!