حين يَصْدُق نتنياهو وهو يكذب!
عبداللطيف مهنا
حتى الصهاينة يكادون أن يجمعوا على أن نتنياهو يكذب كما يتنفَّس، وأنه يواصل الكذب دون أن يرف له جفن أو يفارقه شحوبه. لسنا هنا بصدد الانشغال بتفنيد لا نرى من حاجة اليه لأكاذيبه المرسلة التي لاتنقطع، ومن اواخرها حكاية المفتي والمحرقة، التي جلبت له السخرية وارتدت عليه. لعل الانجرار إلى مثل هذا الآن بالذات ضرب من اضاعة الوقت، واجمالاً، قد يكون، وكما يفعل البعض، انجراراً يريده نتنياهو الى حيث التفاصيل التي قد تحجب الرؤى المهتزة عن اللحظة الفلسطينية الفارقة وتصرفها عن ابجديات الصراع ومسلماته.
ما نريد قوله، هو أن نتنياهو يَصْدُق احياناً وهو يكذب، وربما هو أقل كذباً، أو اكثر صراحةً، من غيره من دهاة الصهاينة وعرَّابيهم الغربيين المنافقين…يَصْدُق عندما يعبِّر بآكاذيبه المفضوحة خير تعبير عن طبيعة الحالة الاستعمارية العدوانية الصهيونية بكامل تجلياتها الاجرامية المرافقة لأمد اغتصابها لفلسطين…ولنأخذ مثلاً، أو اثنين:
صدق وكذب حين هبَّ ليخفف من استشراء جائحة الذعر الذي شاع وضرب اطنابه بين صهاينة الكيان الغاصب إثر اندلاع الغضبة النضالية الفلسطينية الراهنة قائلاً: إننا “سنحيا للأبد بالسيف”…صدق لأنه وصَّف واقع حالة استعمارية استيطانية احلالية غازية جُلبت وفُرضت وقامت واستمرت بالسيف وحده، وبالتالي، وبالضرورة، كان أنها قد ووجهت وتواجه وستواجه بمقاومة وصمود اسطوريين على امتداد وجودها وحتى زوالها، وفقط بما قال نتنياهو أنها ستستمر به، ومن قبل أمة ترفضها ومنطقة تلفظها وشعب مناضل ظل يخط بدمه شعاره الجمعي المعبر عن توقه المعمّد بالتضحيات: فلسطين من نهرها إلى بحرها…وكذب عندما قال باستمرارها إلى الأبد، لأن ابده مخالف لسنن التاريخ وقوانين الجغرافيا وحقائقهما، ويزري به ويشكك فيه، بل ويكذِّبه، هلعهم الهستيري، الذي استدعاه لأن يخف للتخفيف منه بمزيد من انفلات العدوانية الدموية الباطشة، وأن يتحايل لتهدئته بإخبارهم بأنه يجري العمل على تطبيق يتيح للمستعمر منهم استدعاء أمن الاحتلال واستنفاره بكبسة زر على هاتفه الجوَّال…وتصوروا لو تم هذا كم كبسة زر ستنهال على رأس قواه الأمنية في الثانية من جمهور يدب فيه الرعب لدرجة أن يقتل اليهودي يهودياً للاشتباه بأنه عربي، وحيث باتت الأرض الفلسطينية بكاملها بالنسبة لمذعوريه ميادين تحتلها اشباح تحمل سكاكيناً لطعنهم وتقود سيارات تتحفز لدهسهم. بل إن كل الفلسطينيين الآن في نظرهم مشاريع لفدائيي طعن وإن بلا سكاكين وداهسون وإن بلا سيارات، وعليه، هاهم يحوِّلون كل الأرض الفلسطينية السليبة إلى ميادين اعدامات ويتحوَّل جمهورهم بكامله إلى فرق اعدامات.
وصدق وكذب عندما طرح معادلته الرامية إلى ما تدعى ب”التهدئة”، أو هذا المطلب الصهيوني البحت الذي يجهد الأمريكان وامتداداتهم العربية لتسويقه، والهدف منه الالتفاف على الهبَّة النضالية الشعبية الفلسطينية المستمرة والمتصاعدة والحؤول دون تحوُّلها المتسارع إلى الانتفاضة الثورية الشاملة…معادلته القائلة، “الصلاة للمسلمين والزيارة لغيرهم” في المسجد الأقصى، في سياق زعمه القائل بالتزامه المحافظة على الوضع القائم في الحرم القدسي دون تغيير. إنها ذات تلك التي تحوَّلت لاحقاً إلى ما عرفت بمقترحات كيري الخطيرة الرامية الى تثبيت حق غير العرب والمسلمين فيما هو حق العرب والمسلمين وحدهم…أي صدق ومن بعده كيري عندما قالا “بدون تغيير”، وقصدهما التهدئة لكن تحت حراب الاحتلال، وكذبا معاً لأن تثبيت حق الزيارة لغير المسلمين هو في حد ذاته تقسيم للحرم، وممارسة سيادية للاحتلال عليه وشرعنة لها، ناهيك عن سابق تحويل المقدسيين الى”مقيمين” وبقائهم تحت طائلة حرمانهم من هذه الإقامة، أي عرضةً لتشريدهم بالتدريج بشتى الذرائع ومختلف السبل.
لذا، فإن أي موافقة على تهدئة كيري تجري السمسرة لها الآن على قدم وساق هى تنازل مضاف ممن يعترفون اصلاً بالكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وبالتالي لايصعب عليهم الاعتراف بسيادته على الحرم القدسي، لاسيما وأنهم يتجاهلون أن اكناف بيت المقدس ليست بالأقل قدسية منه، وإن المقدسيين يستشهدون من اجل الوطن، بمعنى الأرض والهوية، وليس من اجل نصب كاميرات لمراقبة ركوعهم وسجودهم، أو ما لا هدف له سوى التجسس عليهم لصالح أمن المحتلين، ومنه حماية المقتحمين المنتهكين لحرمة مُقدَّسهم، أي لا ينظرون للموافقة على نصبها إلا كضرب من تعاون أمني مع المحتل، واغفال لكون شرارة الهبَّة المقدسية وإن انطلقت من الأقصى فإن منطلقها الرئيس هو مواجهة الاحتلال.
التغيير في الأوضاع القائمة في الحرم القدسي، الذي يحاول كيري بعد نتنياهو ومعهما بان كي مون خداعنا بزعم التزام المحافظة عليها ومقايضة الهدوء تحت الاحتلال بها، بدأت خطاه الأولى فعلاً باطلاق كيري ومون عليه “جبل الهيكل/ المسجد الأقصى”، وهومستجد اميركي، وتجاوز لقرارات الأمم المتحدة على سؤتها من امينها العام، لصالح حلم تسيبي حوتبولي نائبة وزير خارجية الكيان الصهيوني، حين هتكت ستر التضليل التهدوي لاحقاً بقولها إن “حلمي هو أن أرى علم اسرائيل يرفرف فوق جبل الهيكل”…حلم حوتبولي هذا يفسِّر لنا معادلة نتنياهو التهدوية الزائفة وينسف اخدوعة رعاية التعهدات الأميركية للأكاذيب النتنياهوية…
لايستشهد الفلسطينييون ويصابون ويعتقلون ويحاصرون ويشردون في احتجاجات دوافعها مطلبية، أو ما يتكاتف الآن كل متواطئي العالم لحرف الدم الفلسطيني المقاوم باتجاهه، وإنما لأنهم يعيشون حالة من حراك ثوري دائم هدفه تحرير الأرض وكنس محتلها والعودة اليها.
* حين يَصْدُق نتنياهو وهو يكذب!