خاصرة من رمال- شميسة غربي /سيدي بلعباس/ الجزائر
الضَّجيجُ مُتصاعِد… أطلَّ من الشرفة؛ بعد أن وضع كوب ماء بارد على الطاولة العريضة أمامه. كانت الأصواتُ تتعالى…. نساء، رجال… فوضى عظيمة أرْبكت المارّين، فتوقّفوا عن ُمتابَعَة سَيْرِهِمْ… إمّا للفُرْجة… وإمّا نُشْداناً لِسمَاعِ حِكايَة جديدة من حِكايات شارع الغضب… حِكاية جدِيدَة سيتجاذَبُ أطرَافَها جُلّاسُ المقْهى هذا المساء… قدْ يُحلّلونها.. يؤوّلونها.. قد يصطنعون منها جلسة إشهارية، تصطدم فيها الآراء، وتتعرى من خلالها القناعات… حرب الكلام.. من أجل الكلام… وما أكثر الكلام؛ في انتظار واقعة جديدة؛ ينشغل بها رُوّادُ هذا المقْهَى..!
إمتلأ الشارع، تعالتِ الاحتجاجات… أبْصَرَ أيادٍ تُلوِّحُ في الهواء بملفّات… رأى أرْجُلاً ترفُسُ أكواما من الورق… سقطتْ امرأة، تحَلّقَ حوْلها ثُلّة منَ المارّة، بيْنما تابعَ المُحْتَجّون صُراخَهم وتلْوِيحاتِهم في احْتقانٍ شديد…
الفُضول؛ يُحمّسُ “يوسف” فيُهرْوِل إلى حيْث الحِكاية الدّسِمة….! ينْزِلُ إلى الشارِع مُسْتَطْلِعا….
حِبالُ الوهْم….
شرِكةٌ وَهْميةٌ للبِناء؛ آلتْ على نفْسها إلا أنْ تُبْدِع في اجْترار الوهْم لِسنوات…. صاحبُها نهَبَ ما استطاع… ثمّ اختفى فيِ لمْح البصَر… نهَبَ المال والأعْمار والأحْلام…دقَّ عَظمَ البائس، شرب دم الكادح، استلذّ عرق الأعوام، نثر إبَرَ اليأس في عنق الانتظار…
حرموا أنفسهم من أشياء وأشياء….علّلوا هذا الحرمان بضوء الأمل حين يعزف سمفونية: الغد سيكون أجمل.. سيمتلكون سكنات؛ تعفيهم ضنك الكراء، تمسح هموم البحث عن مأوى بديل حين يضطرّهم المالِك إلى ضرورة الإخلاء بِذرائعَ؛ يكون أولها: المالك يحتاج البيت لتزويج أحد ابنائه… آخرها المالك يطالب برفع التسعيرة… وقد تظهر ذريعة من نوع آخر… ذريعة قانونية حين يعزم الورثة على تصفية الميراث…
هكذا تمضي سنين البُسطاء… قتال من أجل العيش… قتال مع النفس التي لم تعدْ تؤمن بمواعظ الفرَج…! مساحة الصُّدور تضيق… تعالى الصراخ، طوّقت الشرطة المكان، اقترحت على المتظاهرين اللجوء إلى محكمة المدينة…
عاد “يوسف” إلى شقته في العمارة المُطلّة على الشارع الطويل؛ كان يُحدّثُ نفسه: ” ِلمَ لا أدافع عن هؤلاء…؟” حزّ في نفسه أنّهُ مُتوسِّط الخِبْرة… ومع ذلك فكّر في القضية.
وهو يُحضّرُ بِدلته، يطويها بعناية، يضعها داخل جيْبٍ كبير في حقيبته الجلدية ذات اللون البني الغامق؛ بينما في الجيب الآخر؛ تكدّستْ ملفاتٌ ومطوياتٌ ورسائل وقصاصات قديمة؛ كلما عزم على التخلُّص منها؛ انتابهُ ما انْتابَ “المتنبّي” يوم قال:
خُلِقْتُ ألُوفا؛ لو رَجعْتُ إلى الصّبا **** لَفارقْتُ شَيْبي مُوجَعَ القلبِ بَاِكيا!
غافلتْهُ يدهُ؛ فاندسّتْ وسط الفوضى الورقية، وبدون أيِّ انتقاء؛ سحبتْ أصابعُهُ الطويلة ورقة متآكلة، شابها اصفرار القِدَم، ورقة تطرح تفاصيل اللحظة الهاربة من قاموس زمنٍ ولّى….
حين تَقاذَفتْهُ السُّطور…
قرّبَها منْ عيْنيْه، حاول أن يقرأ… تراجع إلى الوراء؛ حيث الكرسي الخشبي العتيق، جلس برفق وكأنّه يخشى على الكرسي ِمنْ أنْ تتخلْخلَ أثرِيتُه…! بين السّطر والسّطر؛ عاش ضجيج المحطات.. هزّهُ مخاض الذاكرة، نسيَ يومه، غاب رَاهِنُه؛ وغاص في مرارة أمْسِه… عوالمُ طفولته؛ تنْبعِث من جديد؛ في لحظة انصياعٍ لمِطرقة الأزْمِنة الحَالِكة… يترك العنان لنفسه؛ فيستيقظ بداخِلِهِ ذلك الطفلُ الضّعِيف؛ حين دفع ثمن يُتْمه وقلة حيلته في بيت زوْجة خاله… ضرْبٌ وتجْويعٌ، وَعِيدٌ وَتعْنِيف، اتِّهامٌ بالتّمرّد على سيِّدة البيْت… ذاك؛ هو مُلخّصُ طفولته. كان الخال كثير الغياب عن الدّار بسبب طبيعة عمله، فهو يشتغل في أحد المناجم البعيدة عن البلدة، نظامها يعتمد المناوبة: ثلاثة أشهر عمل؛ مقابل شهر راحة. الثلاثة أشهر تكفي لِتبَعْثُرِ هذا الكائن الصّغير بين شظايا اللسان السليط والوجه المُكْفَهِر والصّفْعَة الطائشة وهي تسْتقرّ على الخدّ النّدِي بدمْع العيْن المُنْهمِر… بحلول شهْر الرّاحة؛ يُصْبحُ الخال هو الفيْء الذي سيحْمي هذا الصغير منْ سَعيرِ المرْأة الحاقدة… يتعجّبُ الطفل من الطقوس الجديدة… “كُلثوم” تُصبح امرأة أخرى… كلام معسول، حنان كبير، كرمٌ باذخ…! وتمضي السنوات… لا الطفل يحكي للخال، ولا الخال يعلم خساسة الطبع لدى امرأة؛ ائتمَنَها على قطعةٍ مِنْ أخْتِه.
في إحدى فترات غياب الخال “اسماعيل”؛ أصيب الطفل بحُمّى شديدة؛ ناولتْهُ “كُلثوم” الأدوية الموجودة في البيت، ولم تُحمِّلْ نفسَها ضرورة نقله إلى الفحص الطبي أو حتى مجرّد استشارة جارتها الممرّضة في الطابق العُلوِي. ظلّ الطفلُ قرَابة أسْبوع بيْن سِياط الحُمّى وجحيم “كلثوم”؛ يهذي بِاسْمِ خاله؛ إلى أن وقعتْ بالحيّ جريمة؛ سلبتْ حياة فتاة في قضية شرف…. “عمّار” يقتل أخته بعد أنِ اكتشف علاقتها ببائع مخدّرات… لمْ يُصدّق في بداية الأمر ما تناهى إلى سمعه من هنا وهناك… فقررَ مُرَاقبتَها حتّى ضبطها وهي تهمُّ بالدخول إلى وَكْرِ رَفيقها… يتحامل الصغير على نفسه؛ وقد اختلطت الأصوات عليه؛ صفارات الشرطة، عويل وصراخ، يقصد النافذة مُتثاقِلاً، ومن الزجاج يلتقط المشاهد… “عمّار” تحيط به الشرطة بعد أن أخرجتْه من البيت وهو مثل الثور الهائج، يتوعّد مَن كان السبب في ضياع أخته… أمُّهُ تصْرُخ وراءَه، تضْرِب على فخذيْها وتضْرِب على رأسِها في حالة من الهِسْتيريا…. الشرطة تُبْعِدها عنِ الجَاني، نساءُ الحيّ تُحاوِلنَ تهْدِئتَها وإعَادتَها إلى الدّار… تسقط مغشيا عليها، تبتعد سيارات الشرطة، تتحلّق الجموع في شكل دوائر متفاوتة؛ الشيوخُ وغضبُهم على هذا الجيل…. الشبابُ وهُمُومُهمُ… الأطفالُ وغيابُ الاسْتيعابِ لديْهم… الحيُّ غارقٌ في الدهشات…. صمتٌ قصير يعقبه ضجيج جديد…. صوت سيارة الإسعاف يصمُّ الآذان…تُنْقَل الأمّ إلى المستشفى، تُرَافِقُها أخْتُها الساكنة بِالجِوار…
يشهق الصغير وهو يرى “عمّار” صديق خاله؛ يُرْمى به داخل سيارة كبيرة للشرطة… كم كان هذا الرجل يعطف عليه في غياب خاله… كان حين يُصادفه في الحيّ وهو ذاهب إلى المدرسة أو عائد منها؛ يشتري له الحلوى أو فطيرة يلُفُّها بعناية في قطعة من الورق، يتهلّل وجْه الطفل، يأخذها بامْتنان…. قدْ يضعها في محفظته، وقدْ يأكلها وهو يتابع طريقه…
“عمّار” هذا الإنسان الطّيّب؛ المُبْتلى اليوم، كان يعلم قصة الطفل “يوسف”.. وكيف جاء إلى الحياة في ظرفٍ؛ قد يكون أحلكَ وَأشدّ عُسْراً من ظرف اليوْم، ظرف الجريمة…. ففي إحدى الليالي الدامية من سنوات الدم المهراق؛ هجمت جماعة من أشرار التسعينات على أهل البلدة الهادئة؛ قتلتْ، خرّبتْ، نهبتْ قطعان الماشية، ثمّ اختطفتْ أرْبع فتيات؛ كان مِنْ بيْنِهِنّ ابْنة “الحاج عيسى” أكبر مَوّالٍ في البلدة….
الوليمة….
عاشت “جميلة” كل أنواع الإذلال… استعطفتْ زعيمهمْ….بكتْ…. صرختْ…. ناشدتهم أن يقتلوها لتستريح…. أصابتْها بحّة؛ انتهت بفقدها الصوت لِمُدّةٍ طوِيلة … كانت تتبادل النظرات مع باقي المُختطفات ولسانُ الحال يقول: “إلى متى… إلى متى ؟”
في أحد الأيام صدر الأمر من زعيم الأشرار؛ بضرورة تحضير وليمةٍ مُعْتبرةٍ على شرَف المُنْتمِين الجُدُد. تمَّ إعْلامُ المُخْتطفات بأنّهنّ المسؤولات عن القيام بواجب الضيافة، إعداد الأكل بكميات كبيرة، تجْهيزُ أباريقِ الشّاي، تنْظيفُ أماكن المبيت…. أذْعَنَّ مُجْبَرَات. أتتْ مركبة كبيرة مُحَمّلة بكمياتٍ كبيرة من اللحُوم وشتّى أنْواع الخُضر والفوَاكه والمشروبات وكل لوازم الوليمة… تقدم أحد الرجال المُلثمين وهو يجر الأكياس إلى المطبخ المُفْترَض… صُعِق وهو يرى أمامه “جميلة” بنت “الحاج عيسى” …نظر إليْها ملياً، ألْقَى السّلام؛ اكتفتْ بهزّ رأسها وراحتْ تُنادي الأخْريات للبدْءِ في العمل. غادر المكان وهو يتَعَثّر… تصبّبَ عرقه، أحسّ بدوار، ارْتمى تحْت ظلّ شجرة، يُقاوِم حتّى لا يفْقدَ وَعْيه… نزع اللثام عن وجهه وتنهّد بحرقة لا يعلمها إلا صدره…! كيف وصلتْ “جميلة” إلى هنا…؟ زميلته أيام الدراسة بين يديْ هؤلاء….!؟ يا ألله، يا ألله…. أعاد قطعة القماش السوداء على وجهه وتابع بعيْنيْه طيْفاً بعيداً زارَ مُخيّلته…. كان و”جميلة” هذه؛ من المُتفوِّقين في الدّراسة، عُرف كلاهما بالذاكرة القوية والبديهة الحاضرة…. اختلفت ظروفهما فيما بعد، حيث تابعت الصبية دراستها بينما انقطع هُوَ لأسْبابٍ قاهرة ومع ذلك؛ كثيرا ما كان يتصادفان في الأماكن العامة، يتبادلان التحية، وينصرف كل واحد منهما لشأنه؛ وقد أشرقتْ شمس اللقاء في قلبَيْهما الصغيرين، البريئيْن؛ فتهلّلتِ الملامِح، وَانْتَشَتِ الخطوات وأصْبحَ لِلّحْظة مَعْنى؛ لا يفْهَمُهُ سِواهُما…
ها هو اليوم يُصادفها في مكان غير المكان… لم تتعرّفْ عليْهِ بسبب القناع على وجْهِه، ورُبّما بِسبَبِ يأسِها منْ كُلِّ شيْء…. بدأ يفكر في كيفية التواصل معها، حاول أن يعود إلى حيث وضع لوازم الوليمة؛ غير أن صوْتا خِشناً؛ ناداه، طالباً منه الالتحاق ببقية الرجال للاستماع إلى التعاليم الجديدة…. حَضَرَ معهم بالجسَد فقط، أما الفكر فكان مُشتَّتاً؛ يبحث عن مَرْسى ترسو فيها أحاسيسه… اكتنفتْه حيرة شديدة، تحوّلتْ إلى ألمٍ عميق يشُقُّ الصّدر.. عندما انتهى الاجتماع؛ عاد إلى مكانه تحْتَ الشّجَرَة حيث يمكنه أن يُرَاقب المكان ولو من بعيد. بعد يوميْن يغيب الزعيم في مهمة لا يعلمها سوى مَنْ ذهب معَه… يظلّ “هارون” في المنطقة؛ ومعه بضعة رجال يحرسون المكان والحريم…. تُوَاتيهِ الفُرْصة؛ وهو يحمل دِلاء الماء إلى مكان الطبخ، يراها…. يتشجّع….. يسألها إنْ كنَّ يحْتجْن شيْئاً… تُجِيبُ نفْياً بحركة من يدها. قبل أن تتراجع إلى الوراء؛ إلى حيثُ النّسْوةُ مُنْشِغلات بغسْلِ المَلابِس؛ يفاجئها بالسُّؤال…. ألستِ “جميلة” بنت “الحاج عيسى”..؟! تتسمّرُ في مكانها… تُغاِلبُ نفسها وهي تلتفِتُ نحْوَه…. تنْظرُ إليْه مَلِياً، يسْتغِلُّ “هارون” اللحظة المُناسِبة، ينْزَعُ قِطعَة القُماش عن وَجْهه…. تُحوّلُها الصّدْمة إلى صَنَم….! تتدفّقُ الكلِماتُ مُخْترِقة توَقّفَ الزّمَن حين تتسارع الأقدار في حبكة المجهول…. يعِدُها بِتخْليصِها، يشدُّ على ذراعها بكل قوة وكأنّهُ يقول لها: “ثقي بي….فقط؛ ثقي بي….” شيْئا فشيْئا؛ تعود “جميلة” إلى إحْساسِها بمَنْ حوْلها… تشعر بالضيْق، يسيلُ دمْعُها، تُسارع إلى تجْفيفِ خدِّها بِكُمِّ لباسِهَا…. يتَعَاهَدان….
عندما تكون الخاصرة… هشّة….
في الليلة الموعودة وهما يهربان؛ بعد أن سمع الجميعُ بسفرية الزّعيم المُبَاغِتة؛ فاجأته “جميلة”؛ “لماذا ورّطتَ نفسك مع هؤلاء؟!” وظلتْ تنتظرُ الجواب….يَحْمِلُها صمْتُه على التّوقّف في مُنْتصَف الطريق، تُخيِّرُهُ بيْنَ أن يُعْطيها الجواب، أوْ تعود أدْرَاجها… الطريق طويل، الليل طويل، الحكاية أطول…..
كان زوج أمه يغتصبه كلما سنحت له الفرصة…. يُهدّده بقتل أمّه إن وصل الخبر إليْها…لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بلْ أصبح يُتاجر بالفتى؛ فيأخذه إلى أوْكار الِانْحِراف، يُسَلّمُهُ ويسْتلمُ ما يمْلأ به جُيوبَه…. يوم تزوّجتْ أمه من هذا البائس؛ بعد غرق والد الطفل مع مجموعة من المُغامرين؛ ظنّتْ أنها فعلتْ خيراً….فترْبِيَةُ الولد في نظرها تحتاج إلى رَجُلٍ في البيت؛ اعتقدتْ أنّهُ سيكونُ السّند وَقتَ الحاجة…!
“هارون” يحكي قصته؛ وعيناه تتَّقِدانِ نارًا…. “جميلة” تتألمُ في صمْت، ثمّ لا تلبث أنْ تسأله ثانيةً عن سبب تواجده مع هذه الجماعة، وكأنها لا تقتنع بهذا التبرير….! بِفِكْرٍ شارِد وملامح قاتمة؛ يروي “هارون” خَلاصَهُ الأخير. سنواتُ القذارَة طالتْ… ومَعها كبُرَ الطفلُ وأصبح قادراً على التّصرّف… ذاتَ ليلة؛ بينما كانا عائديْن من وَكْرٍ للرّذيلة؛ تظاهر الفتى بأنّهُ مُصابٌ بصُداعٍ شديد؛ يكادُ يُفجِّر رأسه، توقف عن المَشْي، غير أنّ زوْج أمّه لمْ يأبهْ له، فتابع سيْرهُ دون أن يلتفت؛ آمِراً إياهُ أنْ يُواصل الطريق بدلاً من الشكوى…. الظلامُ دامِس، الأرضُ كلها حُفر وحِجارة، نُباحُ كِلابٍ بَعيدة؛ يخْترقُ الصَّمْت الرّهيب، يتعثّرُ “هارون” في حجر كبير؛ يسقط… وقبل أن يقوم؛ تمتدّ يده إلى ذلك الحجر؛ يتفحّصه، يحمله بين يديْه بمعاناة… يُراقبُ الماشي أمامه: إنه غارِقٌ في مُكالمَة هاتفية… لعلّها مُساوَمَاتُ الرّذيلة….! يرفع الفتى الحجر ويضرب رأس الرّجل… يتهاوى الجسد على الارض… يستغلّ “هارون” الوَضْع؛ ويسارع إلى المزيد من الضربات في هستيريا شديدة، تنْتهِي بِانْزِوَائِهِ في رُكْن والتفرج على منظر الدّم الذي رشّ كلّ ثيابه…
يقرر عدم العودة إلى أمّه، يهْرُب إلى حيث تحْتضِنُه ضوَاحِي المَدينة بضْعة أشْهُر…. ومِنَ الضواحي سيلتقِطهُ الزّعيم الذي كان في مهمَّة استكشافية للمنْطقة بُغْية الإغارة…. يعِدُهُ بالحياة الكريمة مُقابل الطاعة. يدخل الفتى عالَما جديداً، لا يفهم شيْئا منه…. يرى التعذيب والتقتيل، يسمع الصراخ والأنين، يرى الذخيرة، يُقلّبُ عيْنيْه في الأجْهزة المُكدّسة…. لا يسأل ولا يهمّهُ الجواَب…المهمّ أنّهُ عثر على المَلاذ… وَيَا لَهُ مِنْ مَلاذ…! بسببِ انْتمَائِه الحديث، ونظراً لِسِنّهِ؛ يُكلَّفُ في البداية بأبْسَطِ الأشْغال… تنْظيف، ترتيب المكان، المساعدة في توزيع الشاي والأكل على الوَافِدين بيْن الفينة والأخرى. مع مرور الزمن؛ واشتداد العُود؛ يُعْهَدُ إليْه بمسؤولية إفْرَاغ عربة التّمْوين بعد أن يأتي بها السّائق إلى حيث يختبئون.
كانت “جميلة” تتأمله بحسرة عميقة وهو يعرض عِلّة تواجُده بيْن هؤلاء…تزفر زفرة حارّة وهي تضع يدها على بطنها البارز قليلا….! ينْتبهُ إلى حركتها، يجْتاحُه غضب الكوْن كلّه… كيف لم ينتبه إلى حال الفتاة منذ البداية…؟ يتحول غضبه إلى كرْبٍ شديد…تُدْرِك ما يجولُ بخاطره، تهمس والألم يفتك بها: “كلُّ اللواتي اُخْتطِفن مثلي؛ يحملن في ُبطونِهنّ خِزْيَ العُمْر…” حينها فقط؛ يُصْبِحُ الصَّمْت أفْصَح الكَلام….!
يواصلان الفرار؛ وعندما يقتربان من مشارف البلدة، تستخرج “جميلة” من جيْب لباسِها نظارات سوداء سميكة؛ كانت قد أخَذتْها من خيْمة الزّعيم؛ عندما خطّطتْ للهرب مع “هارون”… تُقدِّمُها له حتى يُخْفيَ وجهه… يتردّد في البداية، ثمّ يذعنُ أمام إلحاحها عليه. يضعها على عيْنيْه فإذا بها تغطي نصف وجهه. تلفّ خمارها على نصف وجهها ويتابعان الطريق… تخطر له فكرة…. يقترح عليها ألا تذهب إلى بيت والدها، فقد يكون البيت مُراقَباً من خُدّام الزّعيم الغائب…. يسألها عن أقاربها البعيدين عن الناحية، تبتهج للفكرة، تدلّه على بيْت جدّتِها “الحاجّة يمينة” في النَّاحِية الشرْقية.
لِلّـــقـــاءِ عاصفة….
لم يكن من السهل؛ أن تُصدّق الجدة أنّ حفيدتها أمامها؛ وهي التي كادت أن تُشلّ يوم سماعها بالواقعة… فقد دخلتِ المُسْتشفى لأيامٍ عديدة، ومازالتِ الصَّدْمة تنْخرُ قلبها، ولا تملك سوى الدّعاء… بكت “جميلة”… بكت الجدّة….بكى “هارون” … تتصل الجدة بابنها “الحاج عيسى” بواسطة الهاتف، تخبره بأنها مريضة، وبأنها بحاجة إليه…. في أقلّ من ساعة يصل “الحاج عيسى” ومعه ابنه؛ الأخ الأكبر لجميلة. غرابة المفاجآت، قد تُحوِّلُ الدهشة إلى فُقْدانٍ لِلتّوازُن… يسْقط “الحاج عيسى” مَغْشِياً عليْه…. ينْهارُ “إسماعيل” عند قدَمَيْ أخْتِه الشّاحِبة شحوبَ الأمْوات….تطلبُ الجدّةُ مِنْ “هارون” أنْ يأتي بِقارُورَةِ ماءٍ وهي تشيرُ إلى المطبخ، يُهرْوِل، يُناوِلُهَا القارُورَة، تبْدأ بِرَشّ الماءِ على وَجْهَيْ الرّجُليْن… شيئاً فشيئاً؛ يعودان إلى طبيعتهما…. يسأل “إسماعيل” الجدّةَ عن هذا الرّجُل الغرِيب في الدّار، تتدَخّلُ “جميلة”… ترْوي التّفاصِيل….
تطولُ الجَلسَة، تسيلُ الدُّموع، تخْتنِقُ الصّدور، ومع تفْويضِ الأمْرِ إلى الله؛ يتفقون على أن تظلّ “جميلة” في بيْت جدّتها حتى تضع حملها. يستأذن “هارون” أصحاب البيْت للمُغادَرَة… يوقفه “الحاج عيسى”، يطلب منه البقاء ولو إلى حين… يشكره “إسماعيل” على هذا المعروف، ويعِدُهُ بأنْ يجِدَ له حلّا…. بكلامِ الوَاثقِ منْ نفْسِه، وبِتَصْميمِ القلب المكسور؛ يُفاجِئهم بأنّه سَيُسلّمُ نفْسَهُ للعَدالة… تشهق “جميلة”، ترتعد فرائصها، تحاولُ أنْ تمْنعَه، يُذكّرُها بأنه لنْ ينجوَ من ملاحقة الزعيم وأتباعه…. يطلب من “الحاج عيسى” وابنه “إسماعيل”؛ مرافقته إلى حيْث يجب أن يكون…. تُهوّنُ الجدّة على الحفيدة: لا تخافي، سيجد من يُدافع عنه… قتْلُهُ لِزوْجِ أمّه؛ كان بسبب قذارَة هذا الزّوْج ووحْشِيته… هرُوبُه إلى القتلة والعيْش في كنفهمْ؛ كان بسبب خوْفه منَ المُلاحَقة القانونية وبسبب خوْفه على مشاعر أمّه؛ حين تصْدمُه بالسُّؤال: “لماذا قتلْته… لماذا قتلْته….؟! “
يُغادِر، وعيْناهُ لا تُغادِرَان “جميلة”… تتبعُهُ حتّى الباب، تطلب منه استعمال النظارات الكبيرة ريثما يصل إلى مركز الشرطة، وتُسلّمه قبّعة تقليدية رجالية ملفوفة بشرائط من الدّوم، ثمّ تهْمِس: “سأنْتظرُك….” ينْصحُها والدها بمُلازَمَة جدّتها وبعَدَم فتْحِ الباب لِأيٍّ كان؛ حتى يعود و”إسماعيل” من قسْم الشرطة.
تنْقضِي شهور الحمْل، يبْدأ المخاض، تتعسّرُ الوِلادة… بعد مُعاناةٍ شديدة؛ تضعُ “جميلة” مولودَها في بيْت جدّتها على يد إحْدى القابلات، تسمع صراخه وهو يسْتنشقُ نسائم الحياة، بينما هي تستقبل نسائم الرحيل…. تموت “جميلة” ويعيش “يوسف”… محامي اليوم؛ الذي ربّاهُ خالهُ “إسماعيل” وقهَرتْهُ زوْجة الخال؛ ولم تهدأ حتى سلّمتْه لأسرةٍ؛ ترغب في تبنّي صبِي أو صبِية… حدث ذلك؛ بعد تعرّض الخال لحادثٍ في المنْجم، أصابَهُ بشللٍ نِصْفي… غادر الطفلُ البيْت وهو يجْهَش بالبُكاء… لا “الحاج عيسى” ولا “يمينة”؛ جدّة “جميلة” باقيانِ على قيْد الحيَاة… أمُّ الرّاحلة “جميلة” كانت قد فقدتْ عقلها يوْم أخذوا ابْنتها، وهي تقضي بقية عمرِها في مصحّة عقلية…
عاش “يوسف” بين أحْضان أسْرَة مثالية…. منَحَتْه الحُبّ في أجْملِ صُورِه… سهروا عند مرضه، تألموا وهو يهذي بِاسْم خاله، ألحقوه بالمدارس الخاصّة، دعّموهُ بمُدرِّسين في البيْت، احتفلوا بأعياد ميلاده، عوَّضُوا كلّ الذي ضاعَ منْه…. كانت سعادته تكْتمِل عنْدما يأخذونه لرؤية “إسماعيل”…. يُعانق خاله بحرارة، تسيل دموع كليْهما، يهمس في أذنه: “سأعود… لنْ أنقطِعَ عنْ زيارتك…”
يدْخلُ الجَامعَة… يختار شعبة الحقوق، يتفوّق على زُمَلائه، فنَتائِجُهُ طيلة سنواتِ الدِّرَاسة؛ كانت مُمْتازة؛ أسْعَدَتْ العائلة التي تبنّتْه، وأسْعدتْ أساتِذته؛ حتى أنّهُمْ حينَ تخرُّجِه؛ أقاموا له حفلاً بهيجاً في نَادِي الكلية… بينما كانتْ هدية الأسرة؛ عبارة عن محل من المحلات المُغْلقة التي تمتلكها هذه العائلة الكريمة، يستعمله مكتباً للعمل…
تتقدّمُ الأيام… تتلاحق الشهور… يخوضُ “يوسف” غِمارَ المحاكِم، يعمل ليل نهار، يربح قضايا ويخسر أخرى… يموت خاله “إسماعيل”…. يشعر بفراغ كبير؛ يعْقبُهُ حُزْن طويل وهو الذي كان يأمل في أن يعْرِف نسبه يوماً…؟ فوَثائِقُ ميلاده؛ تُبيّنُ أنّهُ مَجْهول النَّسب؛ ولكنه يَخْجَل من مُفاتَحَةِ خاله في هذا الأمر، ويَكتفى بالتمنّي علّهُ يتوصّل يوما إلى معلومة تعفيه حرج السؤال…
يبْحث عنْ “عمّار” صديق خاله في سجلات المحْكمة؛ لَعَلّهُ يرَاه، لعلهُ يستطيعُ الدِّفاع عنْه، يعْلم أنَّه توُفِي في السِّجْن بعد تعرُّضِه لجَلطة دِمَاغية. مات “عمّار” قبل انتهاء فترَة حبْسه، وماتَ سرُّ “يوسف” مَعَه….
أعَادَ القُصاصة داخِلَ المِحفظة الجلدية وهو يُحدِّث نفْسَه: “آه… تأخرْتُ عن اللحاق بالمحكمة…” يُهرول؛ وكله تصميم على الدفاع عن أولئك المُحْتجّين، يقوم بالإجراءات المطلوبة ثم يبدأ بالمرافعات…. سنوات وهو يحلم بأن يربح القضية… إلى أن كان يوم….
ذهب في الصباح الباكر إلى المحكمة على أساس المرافعة الأخيرة؛ غير أنه أُخْبِرَ بتأجيل المُرَافعة إلى الغد… شعُر بِالاسْتياء، قصد المصْلحة المُكلّفة بتحْدِيدِ الموَاعيد، سأل…. وكان الجواب: “هناك قضية أخطر؛ استوْجَبتْ هذا التغيير… سيصْدر الحُكمُ في شأنِها اليْوم…”
لِلْعَدالــــــة وَقتــها… كما لِلْـــقَدَر أُحْجِـــيـته…
سِنٌّ تُقارِبُ الكُهولة، رأسٌ غزاهُ الشيب، ملامح تسيحُ تحْتها دِماءُ الأبْرياء، خطواتٌ بطيئة تجرُّ آثام الأعوام السّوْداء.. يتقدَّمُ المُتّهَم إلى المِنصّة… يسْردُ القاضي مُتعلقاتِ القضِية؛ يُعَدّدُ جرائِمَ المُتّهَمِ منذ سنوات؛ ومَا أكثرَها! يُصْعَق “يوسف” وهو يسْمعُ إحْداها! لا يُصَدِّق…! فقد كان من بين الجرائم القديمة لهذا المُتّهَم؛ قصة اختطاف الفتاة “جميلة”…! يُصرّح القاضي بِاسْمِ المرْحُومة ولقبِها، إنّها ابْنة المرْحوم “الحاج عيسى” الذي كان قدْ قدّم بلاغاً يوم عوْدتها مع “هارون”؛ حين سلّم هذا الأخيرُ نفسَه… وكان شاهدا أساسِياً في القضية، أفادَ وَقْتَها الأمْنَ والمحْكمَةَ بشهاداتٍ؛ ستَشْفعُ له بتقْليصِ مُدّة السِّجن؛ مع مُرَاعاةِ ما تعرّض لهُ منَ الأذى بسَببِ زوْج أمِّه المَأفون.
درويش الزاوية…. يا حيّ !
يستعيد “يوسف” صرخات زوْجة خاله؛ وعيناها تقدحانِ شرراً… ” لنْ نربيَ ابْنَ مُجرِم في بيْتنا…!” نطقتْها مرّة واحدة، فهدّدَهَا الخالُ بالطلاق إنْ هيَ كرّرتْها مرّةً أخْرى… وألقى في روعها أن الدور قد يأتي عليْها هي الأخرى؛ إنْ لمْ تحفظْ لِسانَها..! فهؤلاء منتشرون انتشار الجراد…
تمنّى لو أنه لم يُطاوِعْ زميلهُ؛ حين اقتَرَحَ عليْه البقاء في المحْكمة هذا الصّباح… تمنى لو أنّ الأرْض ابْتلعتْه… تمنى لو اختطفه الموت في هذه اللحظة الفارقة…. كان سابحا في عالمٍ آخر؛ حين هزّه زميله من ذراعه وهو يُردّد: “أخيراً، أخيراً، تحْيا العدالة….!” وَقَفَ الجميع إلا هو… انْحنَى زَمِيلهُ يُمازحه: “هيّا، هيّا… ألنْ تدْعُوَني إلى الغذاء معَك؟ “
كانتْ جنازتُه رَهِيبة، شارَكَ فيها كلُّ مَنْ كانَ يُدافِعُ عنْهُم…. شارَك فيهَا كلُّ جُلاّسِ المقْهى في الشارع الطويل…. وعندما عادوا إلى مقاعد المقهى؛ بدأتِ الافتراضات، وكثُرتِ التكهّنات…. “سكتة قلبية…. موت الفجأة…. ارتفاع الضغط… ربّما سمّمَتْه عصابة ذلك المقاول الهارب….” تخمينات لا ترسو على ميناء.
في الزّاوِية المُقابلة للمقهى؛ حيث يتكئ الدّرويش “الجديد” على عصاه؛ وهو يُردّد بصوتٍ شجيّ “إنّه الأجل، ولا شيء غير الأجل… يا حيّ… يا حيّ..!” يُغادِرُ “هارون” المكان مُسْتعيناَ بعصاهُ مُيمِّما شطر المقبرة…هناك سيجْلسُ ساعاتٍ طِوال، سيُحدِّثُ “جميلة” عن عدالة السماء…
خاصرة من رمال…
شميسة غربي /سيدي بلعباس/ الجزائر
الضَّجيجُ مُتصاعِد… أطلَّ من الشرفة؛ بعد أن وضع كوب ماء بارد على الطاولة العريضة أمامه. كانت الأصواتُ تتعالى…. نساء، رجال… فوضى عظيمة أرْبكت المارّين، فتوقّفوا عن ُمتابَعَة سَيْرِهِمْ… إمّا للفُرْجة… وإمّا نُشْداناً لِسمَاعِ حِكايَة جديدة من حِكايات شارع الغضب… حِكاية جدِيدَة سيتجاذَبُ أطرَافَها جُلّاسُ المقْهى هذا المساء… قدْ يُحلّلونها.. يؤوّلونها.. قد يصطنعون منها جلسة إشهارية، تصطدم فيها الآراء، وتتعرى من خلالها القناعات… حرب الكلام.. من أجل الكلام… وما أكثر الكلام؛ في انتظار واقعة جديدة؛ ينشغل بها رُوّادُ هذا المقْهَى..!
إمتلأ الشارع، تعالتِ الاحتجاجات… أبْصَرَ أيادٍ تُلوِّحُ في الهواء بملفّات… رأى أرْجُلاً ترفُسُ أكواما من الورق… سقطتْ امرأة، تحَلّقَ حوْلها ثُلّة منَ المارّة، بيْنما تابعَ المُحْتَجّون صُراخَهم وتلْوِيحاتِهم في احْتقانٍ شديد…
الفُضول؛ يُحمّسُ “يوسف” فيُهرْوِل إلى حيْث الحِكاية الدّسِمة….! ينْزِلُ إلى الشارِع مُسْتَطْلِعا….
حِبالُ الوهْم….
شرِكةٌ وَهْميةٌ للبِناء؛ آلتْ على نفْسها إلا أنْ تُبْدِع في اجْترار الوهْم لِسنوات…. صاحبُها نهَبَ ما استطاع… ثمّ اختفى فيِ لمْح البصَر… نهَبَ المال والأعْمار والأحْلام…دقَّ عَظمَ البائس، شرب دم الكادح، استلذّ عرق الأعوام، نثر إبَرَ اليأس في عنق الانتظار…
حرموا أنفسهم من أشياء وأشياء….علّلوا هذا الحرمان بضوء الأمل حين يعزف سمفونية: الغد سيكون أجمل.. سيمتلكون سكنات؛ تعفيهم ضنك الكراء، تمسح هموم البحث عن مأوى بديل حين يضطرّهم المالِك إلى ضرورة الإخلاء بِذرائعَ؛ يكون أولها: المالك يحتاج البيت لتزويج أحد ابنائه… آخرها المالك يطالب برفع التسعيرة… وقد تظهر ذريعة من نوع آخر… ذريعة قانونية حين يعزم الورثة على تصفية الميراث…
هكذا تمضي سنين البُسطاء… قتال من أجل العيش… قتال مع النفس التي لم تعدْ تؤمن بمواعظ الفرَج…! مساحة الصُّدور تضيق… تعالى الصراخ، طوّقت الشرطة المكان، اقترحت على المتظاهرين اللجوء إلى محكمة المدينة…
عاد “يوسف” إلى شقته في العمارة المُطلّة على الشارع الطويل؛ كان يُحدّثُ نفسه: ” ِلمَ لا أدافع عن هؤلاء…؟” حزّ في نفسه أنّهُ مُتوسِّط الخِبْرة… ومع ذلك فكّر في القضية.
وهو يُحضّرُ بِدلته، يطويها بعناية، يضعها داخل جيْبٍ كبير في حقيبته الجلدية ذات اللون البني الغامق؛ بينما في الجيب الآخر؛ تكدّستْ ملفاتٌ ومطوياتٌ ورسائل وقصاصات قديمة؛ كلما عزم على التخلُّص منها؛ انتابهُ ما انْتابَ “المتنبّي” يوم قال:
خُلِقْتُ ألُوفا؛ لو رَجعْتُ إلى الصّبا **** لَفارقْتُ شَيْبي مُوجَعَ القلبِ بَاِكيا!
غافلتْهُ يدهُ؛ فاندسّتْ وسط الفوضى الورقية، وبدون أيِّ انتقاء؛ سحبتْ أصابعُهُ الطويلة ورقة متآكلة، شابها اصفرار القِدَم، ورقة تطرح تفاصيل اللحظة الهاربة من قاموس زمنٍ ولّى….
حين تَقاذَفتْهُ السُّطور…
قرّبَها منْ عيْنيْه، حاول أن يقرأ… تراجع إلى الوراء؛ حيث الكرسي الخشبي العتيق، جلس برفق وكأنّه يخشى على الكرسي ِمنْ أنْ تتخلْخلَ أثرِيتُه…! بين السّطر والسّطر؛ عاش ضجيج المحطات.. هزّهُ مخاض الذاكرة، نسيَ يومه، غاب رَاهِنُه؛ وغاص في مرارة أمْسِه… عوالمُ طفولته؛ تنْبعِث من جديد؛ في لحظة انصياعٍ لمِطرقة الأزْمِنة الحَالِكة… يترك العنان لنفسه؛ فيستيقظ بداخِلِهِ ذلك الطفلُ الضّعِيف؛ حين دفع ثمن يُتْمه وقلة حيلته في بيت زوْجة خاله… ضرْبٌ وتجْويعٌ، وَعِيدٌ وَتعْنِيف، اتِّهامٌ بالتّمرّد على سيِّدة البيْت… ذاك؛ هو مُلخّصُ طفولته. كان الخال كثير الغياب عن الدّار بسبب طبيعة عمله، فهو يشتغل في أحد المناجم البعيدة عن البلدة، نظامها يعتمد المناوبة: ثلاثة أشهر عمل؛ مقابل شهر راحة. الثلاثة أشهر تكفي لِتبَعْثُرِ هذا الكائن الصّغير بين شظايا اللسان السليط والوجه المُكْفَهِر والصّفْعَة الطائشة وهي تسْتقرّ على الخدّ النّدِي بدمْع العيْن المُنْهمِر… بحلول شهْر الرّاحة؛ يُصْبحُ الخال هو الفيْء الذي سيحْمي هذا الصغير منْ سَعيرِ المرْأة الحاقدة… يتعجّبُ الطفل من الطقوس الجديدة… “كُلثوم” تُصبح امرأة أخرى… كلام معسول، حنان كبير، كرمٌ باذخ…! وتمضي السنوات… لا الطفل يحكي للخال، ولا الخال يعلم خساسة الطبع لدى امرأة؛ ائتمَنَها على قطعةٍ مِنْ أخْتِه.
في إحدى فترات غياب الخال “اسماعيل”؛ أصيب الطفل بحُمّى شديدة؛ ناولتْهُ “كُلثوم” الأدوية الموجودة في البيت، ولم تُحمِّلْ نفسَها ضرورة نقله إلى الفحص الطبي أو حتى مجرّد استشارة جارتها الممرّضة في الطابق العُلوِي. ظلّ الطفلُ قرَابة أسْبوع بيْن سِياط الحُمّى وجحيم “كلثوم”؛ يهذي بِاسْمِ خاله؛ إلى أن وقعتْ بالحيّ جريمة؛ سلبتْ حياة فتاة في قضية شرف…. “عمّار” يقتل أخته بعد أنِ اكتشف علاقتها ببائع مخدّرات… لمْ يُصدّق في بداية الأمر ما تناهى إلى سمعه من هنا وهناك… فقررَ مُرَاقبتَها حتّى ضبطها وهي تهمُّ بالدخول إلى وَكْرِ رَفيقها… يتحامل الصغير على نفسه؛ وقد اختلطت الأصوات عليه؛ صفارات الشرطة، عويل وصراخ، يقصد النافذة مُتثاقِلاً، ومن الزجاج يلتقط المشاهد… “عمّار” تحيط به الشرطة بعد أن أخرجتْه من البيت وهو مثل الثور الهائج، يتوعّد مَن كان السبب في ضياع أخته… أمُّهُ تصْرُخ وراءَه، تضْرِب على فخذيْها وتضْرِب على رأسِها في حالة من الهِسْتيريا…. الشرطة تُبْعِدها عنِ الجَاني، نساءُ الحيّ تُحاوِلنَ تهْدِئتَها وإعَادتَها إلى الدّار… تسقط مغشيا عليها، تبتعد سيارات الشرطة، تتحلّق الجموع في شكل دوائر متفاوتة؛ الشيوخُ وغضبُهم على هذا الجيل…. الشبابُ وهُمُومُهمُ… الأطفالُ وغيابُ الاسْتيعابِ لديْهم… الحيُّ غارقٌ في الدهشات…. صمتٌ قصير يعقبه ضجيج جديد…. صوت سيارة الإسعاف يصمُّ الآذان…تُنْقَل الأمّ إلى المستشفى، تُرَافِقُها أخْتُها الساكنة بِالجِوار…
يشهق الصغير وهو يرى “عمّار” صديق خاله؛ يُرْمى به داخل سيارة كبيرة للشرطة… كم كان هذا الرجل يعطف عليه في غياب خاله… كان حين يُصادفه في الحيّ وهو ذاهب إلى المدرسة أو عائد منها؛ يشتري له الحلوى أو فطيرة يلُفُّها بعناية في قطعة من الورق، يتهلّل وجْه الطفل، يأخذها بامْتنان…. قدْ يضعها في محفظته، وقدْ يأكلها وهو يتابع طريقه…
“عمّار” هذا الإنسان الطّيّب؛ المُبْتلى اليوم، كان يعلم قصة الطفل “يوسف”.. وكيف جاء إلى الحياة في ظرفٍ؛ قد يكون أحلكَ وَأشدّ عُسْراً من ظرف اليوْم، ظرف الجريمة…. ففي إحدى الليالي الدامية من سنوات الدم المهراق؛ هجمت جماعة من أشرار التسعينات على أهل البلدة الهادئة؛ قتلتْ، خرّبتْ، نهبتْ قطعان الماشية، ثمّ اختطفتْ أرْبع فتيات؛ كان مِنْ بيْنِهِنّ ابْنة “الحاج عيسى” أكبر مَوّالٍ في البلدة….
الوليمة….
عاشت “جميلة” كل أنواع الإذلال… استعطفتْ زعيمهمْ….بكتْ…. صرختْ…. ناشدتهم أن يقتلوها لتستريح…. أصابتْها بحّة؛ انتهت بفقدها الصوت لِمُدّةٍ طوِيلة … كانت تتبادل النظرات مع باقي المُختطفات ولسانُ الحال يقول: “إلى متى… إلى متى ؟”
في أحد الأيام صدر الأمر من زعيم الأشرار؛ بضرورة تحضير وليمةٍ مُعْتبرةٍ على شرَف المُنْتمِين الجُدُد. تمَّ إعْلامُ المُخْتطفات بأنّهنّ المسؤولات عن القيام بواجب الضيافة، إعداد الأكل بكميات كبيرة، تجْهيزُ أباريقِ الشّاي، تنْظيفُ أماكن المبيت…. أذْعَنَّ مُجْبَرَات. أتتْ مركبة كبيرة مُحَمّلة بكمياتٍ كبيرة من اللحُوم وشتّى أنْواع الخُضر والفوَاكه والمشروبات وكل لوازم الوليمة… تقدم أحد الرجال المُلثمين وهو يجر الأكياس إلى المطبخ المُفْترَض… صُعِق وهو يرى أمامه “جميلة” بنت “الحاج عيسى” …نظر إليْها ملياً، ألْقَى السّلام؛ اكتفتْ بهزّ رأسها وراحتْ تُنادي الأخْريات للبدْءِ في العمل. غادر المكان وهو يتَعَثّر… تصبّبَ عرقه، أحسّ بدوار، ارْتمى تحْت ظلّ شجرة، يُقاوِم حتّى لا يفْقدَ وَعْيه… نزع اللثام عن وجهه وتنهّد بحرقة لا يعلمها إلا صدره…! كيف وصلتْ “جميلة” إلى هنا…؟ زميلته أيام الدراسة بين يديْ هؤلاء….!؟ يا ألله، يا ألله…. أعاد قطعة القماش السوداء على وجهه وتابع بعيْنيْه طيْفاً بعيداً زارَ مُخيّلته…. كان و”جميلة” هذه؛ من المُتفوِّقين في الدّراسة، عُرف كلاهما بالذاكرة القوية والبديهة الحاضرة…. اختلفت ظروفهما فيما بعد، حيث تابعت الصبية دراستها بينما انقطع هُوَ لأسْبابٍ قاهرة ومع ذلك؛ كثيرا ما كان يتصادفان في الأماكن العامة، يتبادلان التحية، وينصرف كل واحد منهما لشأنه؛ وقد أشرقتْ شمس اللقاء في قلبَيْهما الصغيرين، البريئيْن؛ فتهلّلتِ الملامِح، وَانْتَشَتِ الخطوات وأصْبحَ لِلّحْظة مَعْنى؛ لا يفْهَمُهُ سِواهُما…
ها هو اليوم يُصادفها في مكان غير المكان… لم تتعرّفْ عليْهِ بسبب القناع على وجْهِه، ورُبّما بِسبَبِ يأسِها منْ كُلِّ شيْء…. بدأ يفكر في كيفية التواصل معها، حاول أن يعود إلى حيث وضع لوازم الوليمة؛ غير أن صوْتا خِشناً؛ ناداه، طالباً منه الالتحاق ببقية الرجال للاستماع إلى التعاليم الجديدة…. حَضَرَ معهم بالجسَد فقط، أما الفكر فكان مُشتَّتاً؛ يبحث عن مَرْسى ترسو فيها أحاسيسه… اكتنفتْه حيرة شديدة، تحوّلتْ إلى ألمٍ عميق يشُقُّ الصّدر.. عندما انتهى الاجتماع؛ عاد إلى مكانه تحْتَ الشّجَرَة حيث يمكنه أن يُرَاقب المكان ولو من بعيد. بعد يوميْن يغيب الزعيم في مهمة لا يعلمها سوى مَنْ ذهب معَه… يظلّ “هارون” في المنطقة؛ ومعه بضعة رجال يحرسون المكان والحريم…. تُوَاتيهِ الفُرْصة؛ وهو يحمل دِلاء الماء إلى مكان الطبخ، يراها…. يتشجّع….. يسألها إنْ كنَّ يحْتجْن شيْئاً… تُجِيبُ نفْياً بحركة من يدها. قبل أن تتراجع إلى الوراء؛ إلى حيثُ النّسْوةُ مُنْشِغلات بغسْلِ المَلابِس؛ يفاجئها بالسُّؤال…. ألستِ “جميلة” بنت “الحاج عيسى”..؟! تتسمّرُ في مكانها… تُغاِلبُ نفسها وهي تلتفِتُ نحْوَه…. تنْظرُ إليْه مَلِياً، يسْتغِلُّ “هارون” اللحظة المُناسِبة، ينْزَعُ قِطعَة القُماش عن وَجْهه…. تُحوّلُها الصّدْمة إلى صَنَم….! تتدفّقُ الكلِماتُ مُخْترِقة توَقّفَ الزّمَن حين تتسارع الأقدار في حبكة المجهول…. يعِدُها بِتخْليصِها، يشدُّ على ذراعها بكل قوة وكأنّهُ يقول لها: “ثقي بي….فقط؛ ثقي بي….” شيْئا فشيْئا؛ تعود “جميلة” إلى إحْساسِها بمَنْ حوْلها… تشعر بالضيْق، يسيلُ دمْعُها، تُسارع إلى تجْفيفِ خدِّها بِكُمِّ لباسِهَا…. يتَعَاهَدان….
عندما تكون الخاصرة… هشّة….
في الليلة الموعودة وهما يهربان؛ بعد أن سمع الجميعُ بسفرية الزّعيم المُبَاغِتة؛ فاجأته “جميلة”؛ “لماذا ورّطتَ نفسك مع هؤلاء؟!” وظلتْ تنتظرُ الجواب….يَحْمِلُها صمْتُه على التّوقّف في مُنْتصَف الطريق، تُخيِّرُهُ بيْنَ أن يُعْطيها الجواب، أوْ تعود أدْرَاجها… الطريق طويل، الليل طويل، الحكاية أطول…..
كان زوج أمه يغتصبه كلما سنحت له الفرصة…. يُهدّده بقتل أمّه إن وصل الخبر إليْها…لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بلْ أصبح يُتاجر بالفتى؛ فيأخذه إلى أوْكار الِانْحِراف، يُسَلّمُهُ ويسْتلمُ ما يمْلأ به جُيوبَه…. يوم تزوّجتْ أمه من هذا البائس؛ بعد غرق والد الطفل مع مجموعة من المُغامرين؛ ظنّتْ أنها فعلتْ خيراً….فترْبِيَةُ الولد في نظرها تحتاج إلى رَجُلٍ في البيت؛ اعتقدتْ أنّهُ سيكونُ السّند وَقتَ الحاجة…!
“هارون” يحكي قصته؛ وعيناه تتَّقِدانِ نارًا…. “جميلة” تتألمُ في صمْت، ثمّ لا تلبث أنْ تسأله ثانيةً عن سبب تواجده مع هذه الجماعة، وكأنها لا تقتنع بهذا التبرير….! بِفِكْرٍ شارِد وملامح قاتمة؛ يروي “هارون” خَلاصَهُ الأخير. سنواتُ القذارَة طالتْ… ومَعها كبُرَ الطفلُ وأصبح قادراً على التّصرّف… ذاتَ ليلة؛ بينما كانا عائديْن من وَكْرٍ للرّذيلة؛ تظاهر الفتى بأنّهُ مُصابٌ بصُداعٍ شديد؛ يكادُ يُفجِّر رأسه، توقف عن المَشْي، غير أنّ زوْج أمّه لمْ يأبهْ له، فتابع سيْرهُ دون أن يلتفت؛ آمِراً إياهُ أنْ يُواصل الطريق بدلاً من الشكوى…. الظلامُ دامِس، الأرضُ كلها حُفر وحِجارة، نُباحُ كِلابٍ بَعيدة؛ يخْترقُ الصَّمْت الرّهيب، يتعثّرُ “هارون” في حجر كبير؛ يسقط… وقبل أن يقوم؛ تمتدّ يده إلى ذلك الحجر؛ يتفحّصه، يحمله بين يديْه بمعاناة… يُراقبُ الماشي أمامه: إنه غارِقٌ في مُكالمَة هاتفية… لعلّها مُساوَمَاتُ الرّذيلة….! يرفع الفتى الحجر ويضرب رأس الرّجل… يتهاوى الجسد على الارض… يستغلّ “هارون” الوَضْع؛ ويسارع إلى المزيد من الضربات في هستيريا شديدة، تنْتهِي بِانْزِوَائِهِ في رُكْن والتفرج على منظر الدّم الذي رشّ كلّ ثيابه…
يقرر عدم العودة إلى أمّه، يهْرُب إلى حيث تحْتضِنُه ضوَاحِي المَدينة بضْعة أشْهُر…. ومِنَ الضواحي سيلتقِطهُ الزّعيم الذي كان في مهمَّة استكشافية للمنْطقة بُغْية الإغارة…. يعِدُهُ بالحياة الكريمة مُقابل الطاعة. يدخل الفتى عالَما جديداً، لا يفهم شيْئا منه…. يرى التعذيب والتقتيل، يسمع الصراخ والأنين، يرى الذخيرة، يُقلّبُ عيْنيْه في الأجْهزة المُكدّسة…. لا يسأل ولا يهمّهُ الجواَب…المهمّ أنّهُ عثر على المَلاذ… وَيَا لَهُ مِنْ مَلاذ…! بسببِ انْتمَائِه الحديث، ونظراً لِسِنّهِ؛ يُكلَّفُ في البداية بأبْسَطِ الأشْغال… تنْظيف، ترتيب المكان، المساعدة في توزيع الشاي والأكل على الوَافِدين بيْن الفينة والأخرى. مع مرور الزمن؛ واشتداد العُود؛ يُعْهَدُ إليْه بمسؤولية إفْرَاغ عربة التّمْوين بعد أن يأتي بها السّائق إلى حيث يختبئون.
كانت “جميلة” تتأمله بحسرة عميقة وهو يعرض عِلّة تواجُده بيْن هؤلاء…تزفر زفرة حارّة وهي تضع يدها على بطنها البارز قليلا….! ينْتبهُ إلى حركتها، يجْتاحُه غضب الكوْن كلّه… كيف لم ينتبه إلى حال الفتاة منذ البداية…؟ يتحول غضبه إلى كرْبٍ شديد…تُدْرِك ما يجولُ بخاطره، تهمس والألم يفتك بها: “كلُّ اللواتي اُخْتطِفن مثلي؛ يحملن في ُبطونِهنّ خِزْيَ العُمْر…” حينها فقط؛ يُصْبِحُ الصَّمْت أفْصَح الكَلام….!
يواصلان الفرار؛ وعندما يقتربان من مشارف البلدة، تستخرج “جميلة” من جيْب لباسِها نظارات سوداء سميكة؛ كانت قد أخَذتْها من خيْمة الزّعيم؛ عندما خطّطتْ للهرب مع “هارون”… تُقدِّمُها له حتى يُخْفيَ وجهه… يتردّد في البداية، ثمّ يذعنُ أمام إلحاحها عليه. يضعها على عيْنيْه فإذا بها تغطي نصف وجهه. تلفّ خمارها على نصف وجهها ويتابعان الطريق… تخطر له فكرة…. يقترح عليها ألا تذهب إلى بيت والدها، فقد يكون البيت مُراقَباً من خُدّام الزّعيم الغائب…. يسألها عن أقاربها البعيدين عن الناحية، تبتهج للفكرة، تدلّه على بيْت جدّتِها “الحاجّة يمينة” في النَّاحِية الشرْقية.
لِلّـــقـــاءِ عاصفة….
لم يكن من السهل؛ أن تُصدّق الجدة أنّ حفيدتها أمامها؛ وهي التي كادت أن تُشلّ يوم سماعها بالواقعة… فقد دخلتِ المُسْتشفى لأيامٍ عديدة، ومازالتِ الصَّدْمة تنْخرُ قلبها، ولا تملك سوى الدّعاء… بكت “جميلة”… بكت الجدّة….بكى “هارون” … تتصل الجدة بابنها “الحاج عيسى” بواسطة الهاتف، تخبره بأنها مريضة، وبأنها بحاجة إليه…. في أقلّ من ساعة يصل “الحاج عيسى” ومعه ابنه؛ الأخ الأكبر لجميلة. غرابة المفاجآت، قد تُحوِّلُ الدهشة إلى فُقْدانٍ لِلتّوازُن… يسْقط “الحاج عيسى” مَغْشِياً عليْه…. ينْهارُ “إسماعيل” عند قدَمَيْ أخْتِه الشّاحِبة شحوبَ الأمْوات….تطلبُ الجدّةُ مِنْ “هارون” أنْ يأتي بِقارُورَةِ ماءٍ وهي تشيرُ إلى المطبخ، يُهرْوِل، يُناوِلُهَا القارُورَة، تبْدأ بِرَشّ الماءِ على وَجْهَيْ الرّجُليْن… شيئاً فشيئاً؛ يعودان إلى طبيعتهما…. يسأل “إسماعيل” الجدّةَ عن هذا الرّجُل الغرِيب في الدّار، تتدَخّلُ “جميلة”… ترْوي التّفاصِيل….
تطولُ الجَلسَة، تسيلُ الدُّموع، تخْتنِقُ الصّدور، ومع تفْويضِ الأمْرِ إلى الله؛ يتفقون على أن تظلّ “جميلة” في بيْت جدّتها حتى تضع حملها. يستأذن “هارون” أصحاب البيْت للمُغادَرَة… يوقفه “الحاج عيسى”، يطلب منه البقاء ولو إلى حين… يشكره “إسماعيل” على هذا المعروف، ويعِدُهُ بأنْ يجِدَ له حلّا…. بكلامِ الوَاثقِ منْ نفْسِه، وبِتَصْميمِ القلب المكسور؛ يُفاجِئهم بأنّه سَيُسلّمُ نفْسَهُ للعَدالة… تشهق “جميلة”، ترتعد فرائصها، تحاولُ أنْ تمْنعَه، يُذكّرُها بأنه لنْ ينجوَ من ملاحقة الزعيم وأتباعه…. يطلب من “الحاج عيسى” وابنه “إسماعيل”؛ مرافقته إلى حيْث يجب أن يكون…. تُهوّنُ الجدّة على الحفيدة: لا تخافي، سيجد من يُدافع عنه… قتْلُهُ لِزوْجِ أمّه؛ كان بسبب قذارَة هذا الزّوْج ووحْشِيته… هرُوبُه إلى القتلة والعيْش في كنفهمْ؛ كان بسبب خوْفه منَ المُلاحَقة القانونية وبسبب خوْفه على مشاعر أمّه؛ حين تصْدمُه بالسُّؤال: “لماذا قتلْته… لماذا قتلْته….؟! “
يُغادِر، وعيْناهُ لا تُغادِرَان “جميلة”… تتبعُهُ حتّى الباب، تطلب منه استعمال النظارات الكبيرة ريثما يصل إلى مركز الشرطة، وتُسلّمه قبّعة تقليدية رجالية ملفوفة بشرائط من الدّوم، ثمّ تهْمِس: “سأنْتظرُك….” ينْصحُها والدها بمُلازَمَة جدّتها وبعَدَم فتْحِ الباب لِأيٍّ كان؛ حتى يعود و”إسماعيل” من قسْم الشرطة.
تنْقضِي شهور الحمْل، يبْدأ المخاض، تتعسّرُ الوِلادة… بعد مُعاناةٍ شديدة؛ تضعُ “جميلة” مولودَها في بيْت جدّتها على يد إحْدى القابلات، تسمع صراخه وهو يسْتنشقُ نسائم الحياة، بينما هي تستقبل نسائم الرحيل…. تموت “جميلة” ويعيش “يوسف”… محامي اليوم؛ الذي ربّاهُ خالهُ “إسماعيل” وقهَرتْهُ زوْجة الخال؛ ولم تهدأ حتى سلّمتْه لأسرةٍ؛ ترغب في تبنّي صبِي أو صبِية… حدث ذلك؛ بعد تعرّض الخال لحادثٍ في المنْجم، أصابَهُ بشللٍ نِصْفي… غادر الطفلُ البيْت وهو يجْهَش بالبُكاء… لا “الحاج عيسى” ولا “يمينة”؛ جدّة “جميلة” باقيانِ على قيْد الحيَاة… أمُّ الرّاحلة “جميلة” كانت قد فقدتْ عقلها يوْم أخذوا ابْنتها، وهي تقضي بقية عمرِها في مصحّة عقلية…
عاش “يوسف” بين أحْضان أسْرَة مثالية…. منَحَتْه الحُبّ في أجْملِ صُورِه… سهروا عند مرضه، تألموا وهو يهذي بِاسْم خاله، ألحقوه بالمدارس الخاصّة، دعّموهُ بمُدرِّسين في البيْت، احتفلوا بأعياد ميلاده، عوَّضُوا كلّ الذي ضاعَ منْه…. كانت سعادته تكْتمِل عنْدما يأخذونه لرؤية “إسماعيل”…. يُعانق خاله بحرارة، تسيل دموع كليْهما، يهمس في أذنه: “سأعود… لنْ أنقطِعَ عنْ زيارتك…”
يدْخلُ الجَامعَة… يختار شعبة الحقوق، يتفوّق على زُمَلائه، فنَتائِجُهُ طيلة سنواتِ الدِّرَاسة؛ كانت مُمْتازة؛ أسْعَدَتْ العائلة التي تبنّتْه، وأسْعدتْ أساتِذته؛ حتى أنّهُمْ حينَ تخرُّجِه؛ أقاموا له حفلاً بهيجاً في نَادِي الكلية… بينما كانتْ هدية الأسرة؛ عبارة عن محل من المحلات المُغْلقة التي تمتلكها هذه العائلة الكريمة، يستعمله مكتباً للعمل…
تتقدّمُ الأيام… تتلاحق الشهور… يخوضُ “يوسف” غِمارَ المحاكِم، يعمل ليل نهار، يربح قضايا ويخسر أخرى… يموت خاله “إسماعيل”…. يشعر بفراغ كبير؛ يعْقبُهُ حُزْن طويل وهو الذي كان يأمل في أن يعْرِف نسبه يوماً…؟ فوَثائِقُ ميلاده؛ تُبيّنُ أنّهُ مَجْهول النَّسب؛ ولكنه يَخْجَل من مُفاتَحَةِ خاله في هذا الأمر، ويَكتفى بالتمنّي علّهُ يتوصّل يوما إلى معلومة تعفيه حرج السؤال…
يبْحث عنْ “عمّار” صديق خاله في سجلات المحْكمة؛ لَعَلّهُ يرَاه، لعلهُ يستطيعُ الدِّفاع عنْه، يعْلم أنَّه توُفِي في السِّجْن بعد تعرُّضِه لجَلطة دِمَاغية. مات “عمّار” قبل انتهاء فترَة حبْسه، وماتَ سرُّ “يوسف” مَعَه….
أعَادَ القُصاصة داخِلَ المِحفظة الجلدية وهو يُحدِّث نفْسَه: “آه… تأخرْتُ عن اللحاق بالمحكمة…” يُهرول؛ وكله تصميم على الدفاع عن أولئك المُحْتجّين، يقوم بالإجراءات المطلوبة ثم يبدأ بالمرافعات…. سنوات وهو يحلم بأن يربح القضية… إلى أن كان يوم….
ذهب في الصباح الباكر إلى المحكمة على أساس المرافعة الأخيرة؛ غير أنه أُخْبِرَ بتأجيل المُرَافعة إلى الغد… شعُر بِالاسْتياء، قصد المصْلحة المُكلّفة بتحْدِيدِ الموَاعيد، سأل…. وكان الجواب: “هناك قضية أخطر؛ استوْجَبتْ هذا التغيير… سيصْدر الحُكمُ في شأنِها اليْوم…”
لِلْعَدالــــــة وَقتــها… كما لِلْـــقَدَر أُحْجِـــيـته…
سِنٌّ تُقارِبُ الكُهولة، رأسٌ غزاهُ الشيب، ملامح تسيحُ تحْتها دِماءُ الأبْرياء، خطواتٌ بطيئة تجرُّ آثام الأعوام السّوْداء.. يتقدَّمُ المُتّهَم إلى المِنصّة… يسْردُ القاضي مُتعلقاتِ القضِية؛ يُعَدّدُ جرائِمَ المُتّهَمِ منذ سنوات؛ ومَا أكثرَها! يُصْعَق “يوسف” وهو يسْمعُ إحْداها! لا يُصَدِّق…! فقد كان من بين الجرائم القديمة لهذا المُتّهَم؛ قصة اختطاف الفتاة “جميلة”…! يُصرّح القاضي بِاسْمِ المرْحُومة ولقبِها، إنّها ابْنة المرْحوم “الحاج عيسى” الذي كان قدْ قدّم بلاغاً يوم عوْدتها مع “هارون”؛ حين سلّم هذا الأخيرُ نفسَه… وكان شاهدا أساسِياً في القضية، أفادَ وَقْتَها الأمْنَ والمحْكمَةَ بشهاداتٍ؛ ستَشْفعُ له بتقْليصِ مُدّة السِّجن؛ مع مُرَاعاةِ ما تعرّض لهُ منَ الأذى بسَببِ زوْج أمِّه المَأفون.
درويش الزاوية…. يا حيّ !
يستعيد “يوسف” صرخات زوْجة خاله؛ وعيناها تقدحانِ شرراً… ” لنْ نربيَ ابْنَ مُجرِم في بيْتنا…!” نطقتْها مرّة واحدة، فهدّدَهَا الخالُ بالطلاق إنْ هيَ كرّرتْها مرّةً أخْرى… وألقى في روعها أن الدور قد يأتي عليْها هي الأخرى؛ إنْ لمْ تحفظْ لِسانَها..! فهؤلاء منتشرون انتشار الجراد…
تمنّى لو أنه لم يُطاوِعْ زميلهُ؛ حين اقتَرَحَ عليْه البقاء في المحْكمة هذا الصّباح… تمنى لو أنّ الأرْض ابْتلعتْه… تمنى لو اختطفه الموت في هذه اللحظة الفارقة…. كان سابحا في عالمٍ آخر؛ حين هزّه زميله من ذراعه وهو يُردّد: “أخيراً، أخيراً، تحْيا العدالة….!” وَقَفَ الجميع إلا هو… انْحنَى زَمِيلهُ يُمازحه: “هيّا، هيّا… ألنْ تدْعُوَني إلى الغذاء معَك؟ “
كانتْ جنازتُه رَهِيبة، شارَكَ فيها كلُّ مَنْ كانَ يُدافِعُ عنْهُم…. شارَك فيهَا كلُّ جُلاّسِ المقْهى في الشارع الطويل…. وعندما عادوا إلى مقاعد المقهى؛ بدأتِ الافتراضات، وكثُرتِ التكهّنات…. “سكتة قلبية…. موت الفجأة…. ارتفاع الضغط… ربّما سمّمَتْه عصابة ذلك المقاول الهارب….” تخمينات لا ترسو على ميناء.
في الزّاوِية المُقابلة للمقهى؛ حيث يتكئ الدّرويش “الجديد” على عصاه؛ وهو يُردّد بصوتٍ شجيّ “إنّه الأجل، ولا شيء غير الأجل… يا حيّ… يا حيّ..!” يُغادِرُ “هارون” المكان مُسْتعيناَ بعصاهُ مُيمِّما شطر المقبرة…هناك سيجْلسُ ساعاتٍ طِوال، سيُحدِّثُ “جميلة” عن عدالة السماء…