خاطر الأمان في الصراع العربي الأمريكو- يهودي..
علي حتر
لفت انتباهي أن بعض مرشحي الدورة الحالية للبرلمان، يضعون الأمان شعارا انتخابيا لهم.. (وهو ما يُنتج إرباكا وبالنتيجة خداعا الناس.. بغض النظر عن النوايا).. وكلنا نعرف أنهم لا يستطيعون تحقيق ذرة من الأمان إذا فازوا بمقاعد برلمانية إلا لذاتهم بالميزات والرواتب.. رغم أنه، حتى ما يحققونه هم لأنفسهم، سيبقى مهددا ما دام هناك وضع لا يمتاز بالأمان في فلسطين والمنطقة.. وهو يعرفون ذلك..
كل الشعارات الأخرى خلال الحملة الانتخابية، واضحة: السيء منها والجيد.. الكاذب منها والصادق.. إلا هذا شعار الأمان.. الذي أعتبره خطيرا.. لا تقل خطورته عن مفاوضات صائب عريقات العبثية مع الكيان اليهودي أو الصهيوني لمن يريد تسمية أخرى..!
ولهذا أجد نفسي مضطرا للكتابة في موضوع الأمان.. الذي أعرف أنه عبثي وأن نتيجة تبنّيه تؤدي إلى تضليل المواطنين.. لتحقيق مكاسب توصل رافعي هذا الشعار إلى الأمان الشخصي في البرلمان..
وأنا مستعد أن أناظر أيا منهم في المسألة..
Kinda Hattar Saif Hattar Sarry Hattar Kian Hattar
في معارك التحرر الوطني.. أي معارك تحرير الأرض.. لا يمكن تبني هدفِ نشرِ الأمان في المجتمع..! حتى لو كان الإنسان يحب الأمان ويعشقه.. وكلنا نعشقه لو لم تكن هناك إسرائيل..
ما أكتبه هنا ليس موجها لمن لديه أدنى إحساس بأن الصراع العربي الأمريكويهودي لا يعنيه..
ولن أناقش أحدا في ذلك.. لأنني من الذين يؤمنون أن هذا الصراع هو الأهم في تاريخنا في كل المنطقة.. وهو المؤثر الأول في حياتنا سواء عرفنا ذلك أم جهلناه..
وأنا أيضا أومن أنني بالإيمان بضرورة خوض هذا الصراع، لا أتضامن مع أحد.. بل أدافع عن ذاتي وعن أرضي وكياني..
وقبل أن أُحدِّث من يؤمنون مثلي، بأولوية القضية، إيمانا كبيرا غير محدود.. وتأثيرها حتى على لقمة الخبز أرغب أن أحدث من يريدون أمانا للأردن وحده، وهو الأمان الذي يمنع الكيان اليهودي وحلفاؤه الأمريكيون وأذنابهم اكتمالَه!!
سأسرد العناوين فقط، التي تبين الأمان العبثي في الأردن:
ديون الأردن للبنك الدولي (بالمليارات)..
مياه نهر الأردن، ومشروع الديسي وقناة البحرين..
الباقورة ومزارع وادي عربة وعدم المقدرة على إطلاق سراح الدقامسة..
العنف الاجتماعي في المجتمع والجامعات
غلاء رسوم الجامعات والدراسة الجامعية
الخصخصة وبيع مؤسسات الدولة الرابحة
الإضرابات المتكررة
فقدان الأمن الاجتماعي أمام لافارج (في الفحيص والرشادية)
تلوث البيئة
تدخُّل السفيرة الأمريكية وزياراتها المتككرة للمخيمات ودعواتها للولائم في منازل الكبار..!!
خط النفط من كركوك إلى حيفا (الجزء الأردني منه)
قضايا الفساد وهيمنة المتنفذين!!
ارتباك الاقتصاد ووجود المناطق المؤهلة.. وتمرير البضائع اليهودية
جرائم الشرف..
بداية انتشار المخدرات..
ضعف الأحزاب السياسية..
عصير التفاح في البرلمان..
استحقاقات معاهدة وادي عربة وما أكثرها وما أخطرها..!
اعتبار العدو أن الأردن هو بقية الوطن القومي اليهودي.. وأغاني اليهود حول أن الضفة الغربية لهم والضفة الشرقية أيضا لهم..
فصل الضفة الشرقية عن فلسطين ونشر شعار”الأردن أولا” في الأردن.. وشعار تقرير المصير في فلسطين.. للاستفراد بكل واحدة على حدة..
نشر فكرة أن حزب الله كافر لا يجب دعم مقاومته
تقزيم المعارك وتحويلها من قضية شعب واغتصاب أرض في فلسطين إلى قضية جنائية وحقوقية وأمنية.. وفي غزة إلى قضية حصار..
والأهم: قانون حماية المستثمرين والاستثمارات الذي سيجعل الاقتصاد تحت رحمة المستثمرين الصهاينة.. وبالتالي تحت رحمة دولة الصهاينة نفسها..
.قصة قصيرة هامة ساسردها هنا.. وهي تلخص أشياء كثيرة..
عندما كانت إدارة فرض الخصخصة تسمى “الجات”.. عقد مدير الجات ندوة في فندق ريجنسي قرب دوار الداخلية لرجال الأعمال.. ومثل ندوات عزمي بشارة، كانت رسوم دخول الندوة عشرين دينارا.. حتى لا يدخل أمثالي ويزعجوا المعلم والمتعلمين..
لم أكن ولن اكون من رجال الأعمال، لكنني أبقى من الساعين للتعلم.. دفعت عشرين دينارا وذهبت بدون مكباج ولا تبرج ولا ربطة عنق مصطحبا بعض الغبار على شحاطتي وبشعري المنكوث.. كانت حكومة الكباريتي قد رفعت ثمن الخبز قبل الندوة بأسابيع!!
تكلم المعلم الأجنبي عن الجات وفوائدها لرجال الأعمال.. ولم يعرف أنني لست منهم..
بعد انتهاء الكلام.. أجاب على بعض الأسئلة، ثم رفعت يدي للشؤال.. فسمح لي بذلك، سألته:
نحن هنا بلد صغير ولا نشكل عبئا على صناديقكم الدولية واقتصادياتكم، لماذا ترفعون سعر الخبز على فقرائنا؟
أجاب، ولماذا تخبزون الخبز، اشتروه من جيرانكم، إن خبزهم أحسن من خبزكم (جيراننا هنا هم اليهود)..
سألته، ألا تعتقد أنكم بذلك تتحدون أخلاقبات الإنسان؟
أجاب: “نحن لا نؤمن بالأخلاق.. الأخلاق هي المال، وبصراحة عجيبة قال: من يريد ان يتعاون معنا.. أدعوه إلى غرفتي.. أملأ جيبه.. وأدعمه ليبدأ العمل معنا.. تلك هي الأخلاق التي نعرفها..”
القصة انتهت.. ما أحلى هذا الأمان.. حتى الخبز في أمان..
وبعدها خصخصت الحكومة مؤسسات القطاع العام الرابحة!!
كل نقطة من النقاط السابقة تتعارض مع الأمان.. وكلها يُمكن أن تُعْزى إلى وجود العدو الصهيوني وأهدافه في المنطقة..
باختصار: الدعوة للأمان لبلد منفصل، هو السعي للسيطرة عليه وفي حالتنا، لتحقيق الأمان بنسيان فلسطين.. ونسيان الباقورة ومزارع وادي عربة ومياه الأردن..
وتمرير التطبيع إلى الدول العربية وإلغاء تدريس القضية الفلسطينية والسماح للعدو بالاستثمار حيث وحين يشاء.. إذن الغاية من الشعار هي…؟؟
إنه شعار لا يمكن أن يكون بريئا.. ما دامت إسرائل موجودة..!!
أكتفي بهذه النقاط، رغم أن هناك نقاطا أخرى.. ساعود لها عند إكمال البحث..
بعض الأسئلة الضرورية للموضوع:
أ. من أين اقتطعوا فلسطين؟
من سورية.. تماما مثل لواء الإسكندرون.. ومثل الجولان المغتصب..
ب. من أين احتلوا بقية فلسطين؟
غزة من مصر.. والضفة الغربية من الأردن!!!
ج. لماذا جاؤوا إلى بلادنا؟
لنشر الأمان لبعض الناس وحرمان الفقراء من أمنهم وأمانهم.. وتمزيق سورية والعراق.. وتحطيم مصر.. واغتصاب الأرض، والتحكم بالاقتصاد والسياسة والثقافة والأمن، وتشريد الملايين وبعض الأشياء الأخرى.. منها تشكيل فئات تدعو للأمان وتثبّت سايكسبيكو وتوجد من يدافع عنها بشراسة..
د. ما هي حدودهم الدنيا التي يقبلونها؟
إسرائيل هي الديموقراطية الوحيدة في المنطقة.. حتى إنها لا تعترف بديموقراطية عبدالله نسور وهاني الملقي!!
الديموقراطية الوحيدة التي تسرق الأراضي والمياه والغاز وتشرد الشعوب.. وتؤمن بالعقاب الجماعي وتهدم البيوت أو تملؤها بالإسمنت.. وترفض محاكمة مجرميها إلا على أراضيها.. وتقتل تلاميذ المدارس لأنهم يدافعون ‘ن أنفسهم بالسكاكين أو بالمساطر الخشبية المكسورة..
الديموقراطية الوحيدة التي تتمدد عندما تريد وترفض تثبيت حدودها بشكل دائم..
الديموقراطية الوحيدة التي تسمح السعودية لها بدخول أرض الحجاز رغم أنها معادية للإسلام!!
الديموقراطية الوحيدة التي يدخل رجالها إلى فنادق قطر التي يقيم فيها قادة الذين يقاومون وجودها..
الديموقراطية الوحيدة التي تحيط نفسها بجدار فصل عنصري لأنها تخاف أطفال الجيران!!
الأمان!! ما هو؟؟
التعامل مع فكرة الأمان، يتم بعدة طرق، منها:
– الطريقة الأولى: انتهاز فكرة أن الناس يحبون الأمان.. وبالتالي تبني شعار الأمان.. للاستفادة منه،لأن اكتشاف عبثيته لن يكون قبل تحصيل الامتيازات..
– الطريقة الثانية: أن يعرف المنتمي إلى القضايا الشعبية، أن الأمان وهم عبثي.. فيتصدى لشرح عبثيته للناس..
الفكرة الرئيسية التي يخدم الأمان بها العدو، هي الهدوء خلال الصراع، الذي إذا طالت مدته، يصحب معه فكرة السلام المجتمعي.. والطمأنينة الوهمية.. وسلامة الأطفال.. وتوفر الماء الماء الماء والخبز والهواء غير الملوث والغذاء والعلاج والتعليم والمواصلات والحياة الاجتماعية المترفة وبعض الرفاهية، وعدم شعور أفراد المجتمع بأعباء الاقتصاد الحكومي، وقضايا التنزه والسهر في الشوارع، وحرية التنقل إلخ..
لكن، عندما يطول هذا الهدوء، يصاحبه استغلال بعض المتكسبين الفاسدين له، وبناء أموالهم وأدواتهم لاختراق المجتمع.. ولن أذكر الأسماء هنا حتى لا أدخل في قضايا قانونية.. تعيق شرحي وتوضيحي للأمان ومخاطره.. لكن الجميع يعرفها في مصر وسورية والعراق وما اقتطع في سايكسبيكو..
خلال الهدوء الطويل ينام الصديق وينشط العدو وأذنابه في البحث عن نقاط ضعف ومداخل لزعزعة الأمن والأمان.. فتنتشر الشائعات، وشائعات قوة العدو والخوف من فقدان الأمان على حساب فقدان الأرض..!!
رغم انني أعتبر فلسطين والجولان وغزة أرضا واحدة مغتصبة، لكنني سآخذ الجولان نموذجا جيدا لشرح المسألة!!
أعرف مسبقا أن كثيرين سيتدخلون لتحويل الموضوع عن الحديث عن العدو الصهيوني للحديث عن النظام السوري.. بهدف دعم إسرائيل ضد سورية وإن كانوا لا يعلنون.. لكن لن أسمح بذلك مهما كانت أقوالهم، لأبقى في الموضوع الرئيسي..! وسأمسح كل تعليق يؤدي إلى ذلك!!
عندما احتل العدو الغاصب هضبة الجولان قبل نصف قرن، تقدم فيها عسكريا واجتماعيا وسياحيا.. وسيطر على مياهها وشرد بعض أهلها ودمر القنيطرة..!
(للعلم فقط، الجولان مذكور في التوراة 62 مرة على أنه أرض معطاة لليهود وليست موعودة)
حافط الأسد لم يقبل أن يصالح ويوقع معاهدة.. ولم يستطع أن يخوض حربا منفردة..
هوشيه منه في فيتنام تعرض لنفس الحالة في الحرب مع الأمريكان.. لكنه لم يقبل بانتشار الهدوء وواصل القتال عن طريق لاوس، بجنود فييتناميين فلم يطغ الشعور بالأمان على الفيتناميين فواصلوا التصدي.. حتى انتصرت فيتنام..
حافظ الأسد لم يتمكن من خوض حرب منفردا.. فاختار دعم المقاومة.. لكن مع انتشار الهدوء والشعور بالأمان في سورية..
ذلك الهدوء جعل الناس تنعم بالأمان وفوائده، حتى أنهم أصبحوا يتذكرون الجولان في المناسبات.. وذلك وضع طبيعي.. لكن بعض الانتهازيين من أمثال عبد الحليم خدام ورفعت الأسد وآخرين، استغلوا الوضع وراحوا يبنون أموالا وأمجادا شخصية وراح العدو يعمل على إذكاء حرب إعلامية لزعزعة المواطن السوري وهز ثقته بنفسه وبسورية!!
أتذكر أن معارِضة سورية ألقت محاضرة في مجمع النقابات في عمان تكلمت فبها مدة تزيد عن الساعة، لم تذكر خلالها الجولان، وعندما واجهتهتا بذلك بكت واتهمتني أنني أشكك بمصداقيتها.. (وكنت كذلك لأنها لم تذكر أرضها المحتلة). كان كل ما يهمها حريتها في أن تقول ما تريد.. حتى لو ذهبت الجولان إلى الأبد..!
الأمان مفسدة حين تكون أجزاء من البلاد محتلة!!
سيتصدى بعض الناس ويتهمونني بالدعوة لخراب البلاد العربية المحيطة بالعدو بالإضافة للعراق..
أقول بثقة بطرحي: لو انتشر الخراب، يكون المعنى أن العرب الآخرين تدخلوا.. وعندها لن تصمد أو تبقى إسرائيل!!
ولن تستطيع إسرائيل تنفيذ فكرتها القائلة: “الدم خارج الحدود” أما في الداخل فالأمان لكل مستوطن..
وفي بلادنا لن يكون الأمان في البرلمان..
تلك أهم المشاكل:
يذهب أبنائي إلى المدرسة.. بأمان.. ونذهب إلى المقاهي لتعاطي الأرجيلة بأمان أيضا.. ونلقي محاضرة عن جمال عبد الناصر وثورة يوليو ومقاومة التطبيع بأمان أيضا.. ويبني المستوطنون الغاصبون مستوطنة أخرى… بأمان أيضا.. تمهيدا للزحف باتجاهنا..
نعم تلك أهم المشاكل: أن تبحث أنت عن الأمان دون أن يبحث عدوك عنه.. بل يعزز قواه وأسلحته لقتل أمانك حين يناسبه الوقت.. كما في غزة.. والجولان..
والمؤامرة أن يوصلك إلى لحظة الدفاع عن الأمان حتى لو بالتنازل له عن كل ما يريد..!!! وقبول فكرة الحداثة وأن القضية بدأت عام 1967.. لا 1897 ولا 1948..
والمؤامرة أن يتحول تدريجيا الشعور بالأمان إلى معاهدة سلام واستسلام للعدو بعد تدجين الناس ودفعهم إلى البحث عن أمان لأولادهم!!!
أنا لا أتهم.. لكنني أبحث عن إجابات..
الأمان أوصلنا لرؤية طيران العال في القاهرة وعمان!! ورؤية باراك في دافس البحر الميت.. ورؤية الفرق المتدربة من بلادنا عند العدو.. يغسل عقولها ويشحنها ضد ذاتها!!
وأوصلنا إلى قبول ملايين اللاجئين وقبول تقسيم العراق ومحاولة تقسيم سورية وتمزيق البحرين وتهديم اليمن..
الأمان أوصلنا لقبول أن تبني إسرائيل مطاراتها على الجزر الأريترية مقابل شواطئ اليمن..
الأمان.. أوصل حكام مصر (السيسي) للقول إن إسرائيل صديقة..
لا أزعم ان رايي وحده هو الصحيح.. لكن أؤكد ان تجاربنا في المنطقة هي التي تؤكد كل كلمة قلتها..
فليسقط الأمان.. المبني على وجود إسرائيل.. وبقاء الأرض ممزقة أو مغتصبة
أهديكم بالمناسبة قصيدة من ديواني حكواتي النوفرة الدمشقية..
عن مواطن دمشقي بريء
لم يفكر يوما بالقتال
براءتي انتحار
شعر علي حتر
ماذا هناكْ
مالي أرى الشارع في ارتباكْ
يعج بالصراخ والعراكْ
تملؤُه الرّهْبهْ
من كل ما يدورْ
أو كل ما يوشك أن يدورْ
والناسُ..
أهلي الطيبونْ..
ماذا بهمْ؟
مالي أرى الأهداب والجفونْ
مرهقة تعْبهْ
مذهولة حزينهْ..
حائرة.. تفتقد السكينهْ
هل هذه مدينتي.. نَفْسُ المدينهْ؟
أمس فقط..
لم أبتعد حقْبهْ
كنت أرى مدينتي..
شوارعي.. أزِقَّتي..
برْدا وطمأنينهْ..
مالي أراني اليوم حيثما أسيرْ..
أسمع أجراس الحريقْ
واللطم والزعيقْ
وغصة البكاءْ
وضجة الإسعاف تملأ الأنحاءْ..
من في الزوايا كامنونْ؟
من هؤلاءْ؟
ذوو الوجوه اللاثمهْ
والقاتمهْ..
من أي صوْب أقبلوا..
كيف تراها انتشرت وجوههم
في حيِّنا.. تختالْ
وكيف في أعماقنا توغلوا..
تلك الوجوهْ..
ليست كَمنْ يأتوننا
زُوّار َصيْفٍ كل عامْ..
بالحب والسلامْ
لِم السواد لفّهم حتى العيونْ؟؟
لم السواطير مُدلّاة من الحزامْ
عيونهمْ ترنو.. ومن تحت القناعْ
تُحْدق بالغيظ إلى الكبار والصغار..
ويلِيَ.. لا أعرف منهم واحدا
هل تعرفون صاحبأ من بينهم أو جارْ
جيرانِيَ القُدامُ في مدينتي..
في الأمس عنها ارتحلوا..
دون وداعْ..
قالوا بهمس.. إنما رحيلهم.. قد كانْ
خوفا على الأطفال والنساءِ..
والكهولْ..
لله درُّهم..
لإنّي ما فهمت قولهم..
ولا أزالْ
تكلموا عن خوفهم
من سطوةٍ مع الظلام قادمهْ
جائحةٍ وداهمهْ
ومن خلايا نائمهْ..
وما فهمت قولهم..
ولا أزالْ
كيف خليةُ تنامْ؟
وما هي الخلية التي تنامْ..
…..
أكبر من فهمي الكلامْ
…….
أرجع للسؤالْ
ماذا هناكْ
تلك الوجوه اللاثمهْ..
خلف القناعْ
كامنة وجاثمهْ
وما الذي أثارها؟؟
ابتدأتْ.. يا للعجبْ
تُلعلع الرصاص في الهواءْ..
في كل قرنة من المكانْ..
لا أعرف السببْ
مَنْ قرّر استنفارها؟؟
وهل دعاها للنفير داعْ
….
أكبر من فهمي الكلامْ
…..
“مالي ومالهمْ”
قرب الجدارْ
لا بأس أن أسيرْ
لأنني بريء..
وقرب ذلك الجدار اعتدتُ أن أسيرْ
وأطلب الستر والاستتارْ
ورغم أن الدُرّة الصغيرْ
مزقه الرصاص مرة..
لِصْقَ جدارْ
في وضَح النهارْ
“أبعدْ عن الحائط يا ختيارْ”
اللاثم الجبارْ
جلجل صوتُه..
ورشاشُهُ نحو جُثَّتي أدارْ
ذكّرني بالدُرّة الصغيرْ
فانْصعْتُ للأمّارْ..
وربما..
لو لم تخُرْ قوايَ..
لذتُ بالفرارْ
…………….
الفرن دون نارْ
ولا أرى الفرانَ في الجوارْ..
والولد الأجيرْ
بالحاجبين لي أشارْ
وخافتا بصوته..أكمل باختصارْ
“ما جاءنا الطحينُ في هذا النهارْ
حتى لجارنا الخَضّارْ
لم يصلِ الخُضارْ”
ما عاد لي بالخبز رغبهْ
فأنني أتيت أُرجِعُ الحفيدْ
للبيت بعد المدرسهْ
أرْجِع بالصغير أوَّلاً..
وأشترِي الخبز إذا جاء الطحينْ
حين أعودْ
سألت صاحب الدكانْ
هل عادت الحافلة التي
في كل يوم.. تُنْزل الأولادْ
أمام دكانتهِ..
مال قليلا ثم قالْ
“لم يرجع الأطفالْ
ولم أرَ الأولاد والأحفادْ
فالحافلهْ
سائقها قتيلْ”..
ثم انثنى وقال هامسا..
“سائقها شهيدْ”
ماذا تقولْ..؟
مُدلّلي الوحيدْ
سوف يعود دون حافلهْ
ملتصقا يسيرُ.. بالجدارْ
يا ويلتي..
ماذا إذا شاهده الملثم المختالْ
وغافَلَهْ؟
كالدرة الصغير غافلهْ
وصَلْيَتَيْن ناوَلَهْ؟؟
…………………
تحدثوا في نشرة الأخبارْ
عن مصدرٍ..
لم يكشفوا مجاهلهْ
ألقى على رؤوسنا قنابلهْ
حلت بنا من السماءْ
نيازكا.. لاهبة مِن لا مكانْ
مِن مصدر مجهولْ..
على الرصيف.. انفجرتْ..
ومزّقت..
مجموعة من أبْرياءْ..
أنا بريءْ..؟
بالله ما.. معنى بريءْ..
…………
حين يضج الجو بالقنابل البلهاء
أسمعها.. تصرخ بي..
شامتةً وبازدراءْ
“ما من بريء عندنا..
وكل مَنْ يدبُّ فوق الأرض..
إمّا أن يكونْ
ضحيةً مبعثر الأشلاءْ..
أو أن يكونْ
في أحسن الأحوالْ
ضحيةً مقطع الأوصالْ
وعند قومنا..
من لم يكن ضحيةً
حتى مساء يومنا..
غدا يكونْ..
وكل من ما هان عنْدَ عِلْمنا..
غدا يهونْ”
وما فهمت قولها..
ولا أزالْ
كان لدى الجيرانْ..
ابنٌ من الذين يغرقونْ
في الصفحات والسطور والأسفارْ
كان يقول لي.. بحُرقةٍ المُلتاعْ
إنا نعيش في صراعْ
وإنهُ.. لا أبرياء في الصراعْ
كما يقول ثائر يرفض أن ينصاعْ
كبَّله السُفَّل منذ جيلْ
في قلعة الباسْتيلْ
من بعد أن سلَمه
وخانه الأشرارْ
كان يقولْ..
وليس في الصراع إلا خندقان..
إما يمين أو يسارْ
ولا خيارْ..
وكل مَنْ بينهما
إما يكون جاهلا..
أو بائعا.. غدارْ
أو أنه حمارْ..
لله درّ صاحبي.. سميته “الثرثارْ “
ويلي.. لِأني ما فهمت حينها ما قالْ..
ولا أزالْ
أكبر مني كل ما كان يقولْ
وكل ما في رأسه.. كان يجولْ..
…..
لكنني اليوم بدأت أفهم الكلامْ..
مِن بقعة حمراء تصبغ الرصيفْ
من مقتل الفرانْ
وغيبة الرغيفْ
من موت ذاك السائق اللطيفْ
سائق باص المدرسهْ
من جثة الطفل الذي
مزقه حُطام ذاك الباص ثم هرَّسهْ
من هَرَبِ الجيرانِ من حارتنا
بلا وداعْ
من خوفهم على الصغار والكهولْ
وخوفهم من فضِّ عفة النساءْ..
بدأت أفهم الكلامْ
من غربة الرجال والجنودْ
في الوطن المغدورِ لا على الحدودْ
براءتي انتحارْ
لا بد أن أختارْ..
سأدخل الصراعَ حتى لا أكونْ
ضحيةً ممزقًا..
أنا الذي ما كنت أفهم الأخبارْ
ما كنت أسمع الأخبارْ
فلتأخذوني معكم يا أيها الجنودْ..
فبعْدَ هذا اليوم..
لن أبقى ذليلا في قطيع الأبرياءْ
أو في جموع الأغبياءْ
ولم يعدْ لي الحق أن أحتارْ
لأنَّني فهمتها..
بكل ما في الكون من دماءْ
لا أبرياء في الصراعْ
لا أبرياء في الصراعْ