خمسون رصاصة وشهيد…انتقام الحاقد ووحشية الجبان – عبد اللطيف مهنا
مشهد اعدام الشاب المقدسي الشهيد محمد ابو خلف بأكثر من خمسين رصاصة، توالى اطلاقها على جسده المثخن النازف وهو ملقى على الأرض يلفظ أنفاسه الأخيرة في باب العامود بالقدس الأسيرة المحتلة، وأمام عدسات التلفزة الكونية وبشهادتها، له من الدلالات كثيرها. دلالات لايمكن اختصارها في معهود الوحشية الجبانة والانتقامية الحاقدة لآلة البطش الاستعمارية الصهيونية الهائجة والمنفلتة مستفردةً بضحاياها العُزَّل، ولا لمدى استنادها المعروف لعرَّابها وظهيرها الغربي، أو ما لم يعد جائزاً تسميته، كما هو الدارج، بتواطوء ما يدعى “المجتمع الدولي”، وإنما مشاركته في الجريمة الصهيونية المستمرة لثلاثة ارباع القرن بلا انقطاع ورعايتها وتغطيتها…يضاف إليه ما اسبغته عليهم من فرص لاتعوَّض بركات عار مثل هذا الزمن العربي الذي يمر بأحط مراحل انحداره وغرائب لامعقوليته.
كل ما تقدَّم هو قطعاً يشكِّل جزءاً من هذا المشهد الدموي الهمجي واللاانساني، لكنما عماده الأهم هو مزمن الرعب المستحكم في لب هذا الكيان اللقيط الهش، والذي أقل اهتزاز للبعد الأمني في ركائز وجوده يطرح عليه مسألة بقائه مرةً واحدةً ويشكك في امكانية استمراريته ويثير لديه كل كوامن عقدته الوجودية القاتلة. هذا عموماً، إلا أن هذه المرحلة تضيف اليه مستجدين يشكِّلان اضافةً من شأنها مفاقمة تلكم العقدة واثارة جنون ملتاثيها، أولاهما:
اقتناعهم بأن زمن انتصاراتهم السريعة والسهلة والحاسمة قد ولَّى وإلى غير رجعة. ثبت لهم، ومثلهم لاحقاً لولاة رعاية فجورهم الأميركان، محدودية القوة مهما عظُمت وتطوَّرت وتغوَّلت، ناهيك عن عدم قدرتهم على مزيد من التوسُّع والاحتفاظ بما يضيفونه لما سبق وأن اغتصبوه من الارض العربية حتى الآن. في الدرس اللبناني وحروبهم على غزة ما يكفيهم من عبر. بدأوا يتحدثون الآن عن اخطار “كيانات ما دون الدولة” بعد أن ابتعدت عنهم إلى حين اخطار الجيوش العربية الكلاسيكية، وعن اعتماد استراتيجية ” الفيلا داخل الغابة” واسوارها واسيجتها الالكترونية الملتفة من حولها وإن غير الموثوقة. فشلت دروعهم الصاروخية بمسمياتها المختلفة من “حيتس” وحتى “القبة الحديدية”…وإذ بدأوا يشعرون بأنهم قد باتوا شيئاً فشيئاً يتحولون إلى عبىءٍ على الغرب لم يعد حتى ثابت ضمانته لهم ورسوخها يطمئنهم إلى مستقبلهم.
وثانيهما: فشل استراتيجية “الاعدامات الميدانية”، التي منها مشهد باب العامود المشار اليه، بالتوازي مع التعاون الأمني مع الأجهزة الأوسلوستانية في وأد الانتفاضة الراهنة، أو جاري المقاومة الشعبية للاحتلال وبما ملكت ايمانكم، حجراً أو سكيناً أو مقود سيارة وحتى الامعاء الخاوية، وكل ما سيتيسر، وأكثر ما يخشونه وليس في مقدورهم التكهُّن به هو الأخير، وأشد ما يقلقهم هو ملاحظتهم أن أغلب فدائيي الانتفاضة الثالثة هم ممن ولدوا بعد الانتفاضة الثانية ومعظم القلة المتبقية منهم هم ممن كانوا صغاراً إبانها. توقَّفت صحيفة “يدعوت احرونوت” أمام كون عمر الشهيدين عمر الريماوي وأيهم صباح لم يزد عن الأربعة عشر عاماً، أما الشهيد احمد مناصرة فلم يتجاوز الثالثة عشرة. وكان “الشاباك” قد نشر إحصائيةً تقول بأن 22 طفلاً، أو 10% من الفدائيين، هم دون السادسة عشرة، و81 منهم، أو ما يعادل 37%، هم بين السادسة عشرة والعشرين عاماً، و74 فدائياً، أي 34%، ما بين الحادية والعشرين والخامسة والعشرين، و17، أو 8%، مابين السادسة والعشرين والثلاثين، و25 فقط، أو ما لا يزيد عن 11% فوق الثلاثين.
لهذا الفشل وردت اشارة تحذيرية في التصريحات الأخيرة للجنرال ايزنكوت رئيس اركان جيش الاحتلال، وهو ايضاً ما دفع به لأن يجيز لجنده القتل خارج الخدمة، عندما سمح لهم بالاحتفاظ بسلاحهم الفردي عندما يجازون ويعودون إلى بيوتهم…وهذا الفشل عكسه أيضاً مقال لمعلق تلفزيوني معروف هو امنون ابراموفيتش نُشر في ذات الصحيفة المشار إليها والمعروفة بيمينيتها الفائضة، يتحدث فيه عن انتفاضة فتية وفتيات تحت الاحتلال في مواجهة لن ينتصر جيش الاحتلال فيها، مثلما لم ينتصر في حروبه الأخيرة على لبنان وغزة وضد الانتفاضتين السابقتين الأولى والثانية، مذكِّراً ب”أطفال الآر بي جي” في اجتياح بيروت عام 1982 ودورهم في معركة الدامور، حينما فتكوا بالدبابات الغازية، ليخلص ابراموفيتش محذِّراً صهاينته إلى إن “التاريخ القديم والحديث مليىء بأمثلة عن تراجع جيوش الغزاة أمام مدنيين ومقاتلين تحت الاحتلال”.
…وهذا الفشل يضاعف الفوبيا ويزيد من تخبط المحتل المرتبك، والذي، كما تقول مصادره، بات يوطن النفس ويستعد لثلاثة سيناريوهات يتحسب لها: ثورة شعبية فلسطينية شاملة يدعوها “اندفاع الجمهور شيباً وشباباً دفعة واحدة للخروج لتنفيذ عمليات طعن ودهس”، أو ما يسميه “سيناريو الرعب”، وهو تمرُّد تنظيم السلطة الأوسلوستانية واجهزتها الأمنية وانضمامهما مع اسلحة الأخيرة إلى انتفاضة شعبهم، أو ما يدعونه “تضرر التنسيق الأمني” مع هذه السلطة. السيناريوهان الأول والثاني هما المحتملان وحتى معاً، أما الثالث فلا من مناسبة توفرها السلطة لكي تثبت لهم ولشعبها أنه ليس في واردها، ورئيس شعبة استخباراتهم العسكرية الجنرال هاليفي طمئن الكنيست بعدم ترجيحه لوروده… إلى هموم هذه السيناريوهات الثلاثة، المحتملين وغير الوارد منها، يضاف تحسُّب الصهاينة غير المكتوم، والذي عبَّر عنه هاليفي نفسه بالقول: إن “الجيش قلق مما سيغدو عليه الحال بعد ابومازن، خصوصاً وإنه ليس له وريث طبيعيي حالياً”، هذا ناهيك عن ما يعرف عندهم ب”استراتيجية الأنفاق” الغزِّية، وخشية وقوع ما يحذِّر منه وزير حربهم يعلون ويدعوه بانفتاح جبهة غزة.