دراسة / المسيرة الثقافية للأسرى الفلسطينيين فى السجون “الاسرائيلية” : الباحث رأفت حمدونة
صادرة عن مركز الأسرى للدراسات :
يعتقد الباحث أن القلم يمثل بندقية الأسير بعد الاعتقال ، والورقة هى ساحة المعركة الإعتقالية على كل الجبهات ، معركة التواصل والتنسيق بين الأسرى فى إعداد الخطوات النضالية لتحقيق الانجازات والحقوق الأساسية ، و معركة الدفاع عن الذات أمنياً مقابل محاولات الاختراق ، ومعركة إظهار المشاعر النبيلة مقابل ثقافة الحقد والكراهية وتحطيم القيمة الإنسانية ، معركة العلم والمعرفة مقابل سياسة التجهيل والأمية ، معركة الأمل والتفاؤل مقابل سياسات التشاؤم والتيئيس والإحباط ، معركة الفرح والحرية مقابل واقع الحزن والقتامة والقيد .
وكلما ضغط واقع الزمن على الأسير ، وجد طريقته للهروب والتخلص مع ظبى الخيال ، وللخيال قوة الهروب من حصار زمن الانتظار بزمن الانشغال ، ولكن ليس كل تخيل هو ميكانيزم هروب من واقع بل أحياناً ما يكون التخيل ضرباً من الإبداع ، أو أن يكون له طبيعة تخطيطية لما يمكن أن يؤدى إلى واقع ، فيه صناعة للحدث اليومى على مستوى السجن والمستوى الاستراتيجى ” كالدراسة والتثقف ، والتعلم ، وفى العمل التنظيمى ، والتفاعل الوطنى والاجتماعى مع السجناء ، وممارسة الهواية من نحت فى الصخر ورسم اللوحات الفنية ، والنشاط الرياضى ، وخوض معركة الاضراب المفتوح عن الطعام ، كل ما سبق زمن لانشغال السجين ، وإشغال للوقت بعيداً عن الانتظار [1].
وتعتبر الحياة الثقافية للأسرى الفلسطينيين داخل معتقلات الاحتلال من أهم معالم الحياة الاعتقالية ، التى صاغتها الحركة الأسيرة منذ نشأتها ، ولقد برزت حاجة الأسرى لبلورة جو ثقافى منذ بدايات تشكل نواة الحركة الأسيرة ، حيث أنهم سارعوا إلى تشكيل أولى معالم حراك ثقافى واسع شمل مختلف عناصر الأطر والفصائل المشكلة للحالة الاعتقالية ، والذى تطور بالتوازى مع الانجازات الحياتية الأخرى التى حققها الأسرى بفعل نضالهم المتواصل ، وقد لعبت العديد من العوامل دوراً مركزياً فى دفع رواد الحركة الأسيرة الأوائل لخلق إطار يعبر عن ثقافة الأسرى ، وانتمائاتهم الفكرية والسياسية ، يأتى فى مقدمتها ” رفض الأسرى لخطة الاحتلال القائمة على تجهيلهم وإفراغهم وزعزعة انتماءاتهم الفكرية والحضارية والعمل على إحباطهم ، وحاجة الأسرى إلى ملء الفراغ الناجم عن اعتقالهم والاستفادة من الوقت ، واهتمام الأسرى بنشر الوعى التنظيمى والتعبئة الفكرية بخاصة مع ارتفاع وتيرة النقاشات الفكرية والسياسية بين التيارات الفلسطينية المختلفة داخل السجون ” [2] .
فى هذه الدراسة سيتناول الباحث الأوضاع الثقافية ، والأشكال والخطط والبرامج والوسائل ، التى رسختها الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة فى مواجهة سياسة السجان التفريغية والتجهيلية .
أولاً ، طبيعة المعركة الثقافية فى السجون :
الثقافة هى المكونات الرمزية والمتعلمة مثل اللغة والدين والمعتقدات والعادات ، وهى التى تميز الإنسان عن غيره من الكائنات الطبيعية [3]، وهى عملية إنسانية متعددة الأبعاد والممارسات ومكانها المجتمع ، فهى تشق وجودها من تطوير معان مشتركة ومن قدرة البشر على تفهم بعضهم البعض ، وتعتبر اللغة هى أداة التعبير عنها [4]، والثقافة السياسية تمثل البيئة الثقافية للعمل السياسى [5]، والتى يكتسبها الإنسان من خلال عملية التنشأة الاجتماعية والسياسية التى تقوم بها الأسرة والمدرسة والجامعة والحزب والنقابة والمؤسسات الدينية [6]، وفى دراستنا هذه سنجد أن الثقافة السياسية تجسدت بشكلها الواعى والواسع والمدرك والمخطط له لدى الأسرى أثناء الاعتقال وفى السجون ، لوجود معركة ثقافية محتدمة فى هذا الواقع بين طرفين ، بين سجان يحبس كل ما يشير لأى معنى للحياة ، ويسعى لقتل الإنسان الفلسطينى جسدياً ونفسياً ومعنوياً وثقافياً ، وبين الأسرى اللذين أدركوا مبكراً تلك المخططات فواجهوها بكل الوسائل الممكنة ، فانتصروا على جلاديهم بعد سجالات متواصلة ، كان ضحية مسيرتها العشرات من الشهداء ، ممن أرسوا دعائم الثبات والصمود ، وحققوا العزة والكرامة لمن بعدهم من المعتقلين اللذين انشغلوا بأوقاتهم وبناء ذواتهم لما بعد الحرية .
فى هذه المعركة أدرك السجان الإسرائيلى قيمة ودور وأثر الإبداع فى السجون ، بوصفه مظهراً حضارياً و إنسانياً ، ولأنه يرى الأسير الفلسطينى ويقدمه للعالم كإرهابى فارغ من الإنسانية والحضارة ، وعدواً لهما ، لذا لا يستطيع أن يسمح للأسير بالسلوك بما يخالف هذه الصورة التى أعدها له بدقة ، وأينما أظهر الأسير سلوكاً أو تفكيراً أو إنتاجاً يخالف هذه الصورة ، يبذل السجان قصارى جهده لإعادته قسراً لداخل إطار الصورة ، صورة الإرهابى القاتل ، كما أن السجان يعى أن الإبداع عامل قوة للأسير ، وعامل تعزيز لصموده ، وتعميق ثقته بنفسه ، التى يسعى السجان ضمن برنامجه اليومى إلى تحطيمها[7] .
فى مقابل ، صورتان للسجن لا تفارقان وجدان الأسرى :
1- ما يريده السجان وما يهدف إليه من ايقاع بالإنسان وتفريغه من محتواه ليمسى جثة بلا روح ، تلك الصورة القاتمة التى شكل أجزاءها الخوف والقلق واليأس والحزن والحرمان والاغتراب ، تلك الصورة الإحباطية المنفرة من الحياة ، القاتلة لبهجتها
2- ما يهدف إليه الإنسان فى هذا المعركة ، هو اجتياز هذا الامتحان الصعب الذى زج به مرغماً ، ساعياً لاستثمار الوقت ، وحشد طاقة الانتماء والوفاء ليحتمل مكونات الإحباط بل والخروج من الصورة القاتمة إلى الصورة المشرقة باعثة الأمل والفخر والإعتزاز والثقة بالنفس ، والإيمان بحتمية الانتصار وشروق شمس الحق مهما واجه من صعاب[8] .
دراسة المفردات التى استخدمها الأسير الفلسطينى ، فى مقابل المفردات التى استخدمها السجان باتجاهه بمثابة الرد على ادعاءات السجان التحريضية والتشويهية بحقه ، ومفارقة حادة بين نوعين ، وتكشف طبيعة التناقض بينهما فى معركة الثقافة والأخلاق ، سجان لا يتحدث إلا بلغة عدوانية ” يديك إلى أعلى ، يديك إلى الخلف ، لا تقاوم إلا قتلتك ، سر أمامى ، أدخل الزنزانة ، أسكت ، انت أسير ، لا علاج ، والكثير من المفردات الطافحة بالعدوانية واللاانسانية ” ، مقابل لغة أسير ” صباح الخير ، كيف حالك ، شكراً ، من فضلك ، وعشرات من هذه المفردات المتوهجة بالحياة العامرة بالإنسانية[9] .
ثانياً ، تطور الأوضاع الثقافية فى السجون :
أدرك المعتقلون فى وقت مبكر أن الاحتلال يستهدف ثقافتهم وتراثهم ويريدهم أجساماً مفرغة لا مضمون لها ، تتحرك وفق رغبته وإرادته ، فانكبوا على تعبئة أنفسهم ثقافياً وفكرياً ، عن طريق القراءة الذاتية ، والدورات التى كانت تشرف عليها الفصائل مجتمعة أو كل على حدة [10]، وتطورت الحالة الثقافية فى السجون ومرت بأربع مراحل :
1- مرحلة القمع الثقافى 1967 – 1972 : كل شىء كان ممنوعاً فى هذه المرحلة ، الأوراق والأقلام والكتب كانت ممنوعة ، ولم يكن للثقافى الفكرية مكان ، وكل التفكير كان مركزاً على الدفاع عن النفس جسدياً ومعنوياً .
2- مرحلة النضال والتمرد 1972 – 1980 : فى هذه المرحلة بدأ الأسرى يمسكون بزمام المبادرة ، بعد خطوات نضالية إستراتيجية كالإضرابات الجماعية المفتوحة عن الطعام ، كان أهم انجاز فيها السماح بادخال القرطاسيات والكتب بأنواعها ، مما أحدث نمو ثقافى هائل.
3- مرحلة الإزدهار 1980- 1992: مرحلة الانتصار وإقامة السلطة الثورية داخل المعتقلات ، فكان الأسرى منظمين ، ويمتلكون التجربة الطويلة ، والحياة الثقافية والفكرية بلغت ذروتها ، وانتصرت فى هذه المرحلة إرادة الأسرى على إرادة القمع والحرمان والقتل .
4- مرحلة التذبذب 1993 – 2015 : بسبب اتفاقية أوسلو [11] ، وما تلاها من اهتمامات للأسرى بالحرية ، ودخول الانتفاضة والهجمة الشرسة على الأسرى فى 2000 ، واستغلال حالة الانقسام الفلسطينى فى 2007 ، ظهرت حالة من التذبذب على مستوى الحالة الثقافية.
ثالثاً ، الجهاز الثقافى :
( تحقيق الأهداف والقوة ولغة التقارب والتماسك ) اقترنوا بالمجتمع المثقف ، لأن الثقافة والقوة مرتبطتان بشكل وثيق ، فالثقافة هى التى تعطى القوة فى الأفعال والسلوك [12]، وهى التى تساهم فى تعبئة الأفراد نحو تحقيق الأهداف [13]، وهى التى توجد القواسم المشتركة التى تؤدى إلى قدرة البشر على تفهم بعضهم البعض ومن ثم تحقيق التفاهم والتقارب والتماسك [14]، ولقد أدرك المجتمع الإعتقالى ذلك الارتباط ، فأولت التنظيمات الفلسطينية في السجون أهمية خاصة للنشاط الثقافي ، ووضع الخطط والطرق المختارة واختيار الوسائل الكفيلة بتحقيق نتائج ناجعة، تكفل تحقيق وعي سياسي يمثل سلاحاً هاماً في مواجهة مصلحة السجون وسياساتها المضادة لمصالحهم وبالتالي تحقيق تحسن في شروط حياتهم داخل السجون، وأجمعت كافة اللوائح الداخلية للتنظيمات الفلسطينية في السجون على اعتبار الإطار، أو الجهاز الثقافي جزءاً هاماً وأساسياً في كافة التشكيلات والهيكليات التنظيمية، ومثلت هذه الأجهزة علامة على أي تقدم تنظيمي للمعتقلين، على اعتبار أن هذا النشاط يشارك في دعم كافة النشاطات التنظيمية الأخرى للمعتقلين، فكان المفوض الثقافي عضواً في أعلى الهيئات التنظيمية ابتداءً من الخندق (الغرفة) وحتى اللجان المركزية للسجون كافة [15].
أهداف البرامج الثقافية فى السجون :
1- محو الأمية إذا وجدت ، حيث يكلف كادر متعلم ، أو أكثر بتدريس الأمى حتى يستطيع الاعتماد على نفسه ، ومن الأسرى من دخل ” أمى لا يعرف القراءة والكتابة ” وخرج يحمل شهادات عليا أو على درجة عالية من الثقافة .
2- محو الأمية السياسية ، حيث يترتب لهذا الغرض البرامج الثقافية ، آخذة بعين الاعتبار المستوى الثقافى للمعتقلين ، وتتخصص فى هذا المجال جلسات مصغرة للجدد ، للنهوض بوعيهم السياسى عدا الجلسات العامة [16].
3- تقوية الانتماء الوطنى عبر الجلسات الخاصة بتاريخ القضية الفلسطينية ، والحركة الصهيوينة ، وحركات التحرر العالمية ، وجلسات لتقوية الانتماء الحزبى بما ينسجم مع أفكار كل فصيل.
4- عقد جلسات التحليل السياسى فى أعقاب متابعة آخر المستجدات على الساحة السياسية ” الفلسطينية والعربية والدولية ” وتخصيص جلسة أسبوعية لمناقشة أبرز القضايا ، الأمر الذى يحفز المعتقلين على المواظبة اليومية على قراءة الصحف ، والاستماع للنشرات الإخبارية ، ولنفس الغرض تعمم نشرات سياسية تصدرها اللجنة الثقافية .
5- تشجيع الحلقات الدراسية بكافة أنواعها ، والتركيز على التاريخ السياسى ، والتاريخ الاسلامى ، ، وشروط النهضة ، وسنن الانتصارات ، وظهور القوميات وتقلب الحضارات .
6- تشجيع تعلم اللغات ” كالعبرية ، والانجليزية ، والفرنسية ، والألمانية ، والأسبانية والروسية ” .
7- تشجيع إعداد البحوث والدراسات ، وإعداد المسابقات ، والمنافسة فى أدب السجون بكافة أنواعه ، وتدويره عبر المجلات التنظيمية والعامة.
8- عقد دورات التجويد والتلاوة ، والتشجيع على حفظ القرآن الكريم ، وقد حصل المجتازون لهذه الدورات ، وحفظة القرآن الكريم على شهادات معترف فيها من وزارة الأوقاف والتربية والتعليم .
9- دورات فى مجالات أخرى : حيث كان يتم تنظيم دورات إختيارية فى النحو ، والخطابة ، والقاء المحاضرات ، وإدارة التنظيم ، والقيادة ، والأمن ، والفقه ، والسيرة ، والتاريخ ، وإدارة المشاريع ، والإسعافات الأولية ، والخط العربى وغيرها [17].
رابعاً ، المكتبات ، وتنقسم إلى ثلاثة أنواع :
كان الكتاب الثقافى أو السياسى أو الفكرى ، حلماً طالما راود تفكير وخيال المعتقلين الأوائل ، وظل الكتاب كعنوان نضالى ملازماً لمراحل التجربة الاعتقالية ، ولتعويض الكتب فى التداول الثقافى ، وفى كتابة التعاميم لجأ الأسرى في بدايات الاعتقال للكتابة على ورق الكرتون ، وعلب السجائر وورق الصابون ، ومحارم التواليت ، وورق لَفِّ البرتقال ، وورق علب اللَّبَن ، وورق لَفِّ الزّبْدة بعد غسلها، وتجفيفها، واضطروا إلى الكتابة بخط صغير جداً ، ومائل لتحوي الورقة الصغيرة الكثير من المعلومات ، التي كانوا يتبادلونها بين الغرف والأقسام [18]، ففى البدايات سمح بقلم رصاص واحد لكل خمسين أسيراً لكتابة الرسائل لذويهم ، ثم يسلمونه لإدارة السجن ، وفى العام 1970 نجحوا فى الحصول على دفتر من ثمانى ورقات وقلم لكل معتقل [19]، وسمح للمعتقلين بإدخال الكتب عن طريق الصليب الأحمر وفق اشتراطات ومعايير ، واحتجازها للرقابة والتمحيص لفترات طويلة قبل إدخالها للأسرى ، للنظر فى اسم الكتاب ، مروراً بالمؤلف ووصولاً إلى المضمون [20] ، وحصل المعتقلون فى العام 1977 على فرصة أخرى من الكتب عندما أصدرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية قراراً يقضى بالسماح بدخول الكتب إلى المعتقلات باستثناء 600 كتاب صنفتها إسرائيل بالممنوعة ، وكان السماح بإدخالها بشكل مزاجى ، وفى العام 1979 حقق الأسرى انجازاً بإدخال كتاب كل شهر لكل أسير على أن لا يزيد ما بحوزته على ثمانية كتب [21]، وفى الثمانينيات تم إدخال الكتب عبر الصليب الأحمر والأهالى بشكل كبير ومتنوع ، وأقيمت المكتبات العامة فى السجون .
ويذكر الباحث قبيل الافراج عنه فى العام 2005 أن إدارة السجون سمحت للأسرى بإدخال كتاب شرط إخراج كتاب بدله يوم الزيارات ، الأمر الذى انحصر مع المتغيرات السياسية ، والقوانين التى سنتها اسرائيل للتضييق على الأسرى فى العام 2007 ، والتى كان إحداها منع الزيارات عن أسرى قطاع غزة فى أعقاب أسر الجندى شاليط ، صحفيون اسرائيليون ومؤسسات بحثية قامت بزيارات لمكتبات السجون للاطلاع على مضمون الكتب الأكثر اهتمام لدى الأسرى ، وحركة المطالعة ، ورقابة إدارة مصلحة السجون على الكتب ، وشكل تعيين أمناء المكتبات ، وخرجوا بنتيجة أن ” المكتبة لدى الأسرى الأمنيين الفلسطينيين تحظى بمكانة مرموقة جداً ، وأن قيادة الأسرى ترى فيها كمركزاً للتربية والتعليم فى السجون ” [22]، أما عن المكتبات فى السجون فهى أربعة أنواع :
أ – المكتبة الإعتقالية العامة ، وعادة تكون موجودة فى معتقلات تجمعها مكتبة عامة ، وجميع أقسامها يخرجون لساحة واحدة كسجن عسقلان المركزى ، وتكون مزودة من قبل الصليب الأحمر ومن الأهالى عبر الزيارات ، ويديرها المعتقلون بشكل جماعى ويعين لها أمين مكتبة عام ، وبإمكان أى معتقل من أى فصيل الاستفادة منها ضمن نظام استعارة متفق عليه على عدد الكتب ، وتقسيم نظام الأقسام ، وأيام الاستعارة .
ب- المكتبة الإعتقالية الداخلية ، وعادة تكون فى قسم واحد من السجن ، وتشترك فيها كل الفصائل ، وتزود من قبل الصليب الأحمر بتوزيع النسخ المكررة على الأقسام ، وذاتياً من قبل المعتقلين ، أى بما يحصلون عليه من أهاليهم ، ويوزع أمين المكتبة كراس يحتوى عناوين الكتب على المعتقلين فى كل قسم [23] ، وقد شغل الباحث أميناً لمكتبة قسم 11 بسجن نفحة ، ويسمح للأسير باستعارة ثلاث كتب لمدة أسبوع وتبديلها أو تجديدها ، ضمن أرشيف وترقيم تم تصنيفه للتعرف على الكتب والمؤلفين وتصنيف الكتاب لسهولة الحصول عليه واعادته فى مكانه ، وكان هنالك اقبال شديد على الدراسة وخاصة ممن تخصص وقام بالأبحاث وإعداد الدراسات من الأسرى ، واعتاد الأسرى على الحفاظ على الكتب وخاصة التى تدخل عبر الأهالى بعد انتزاع جلدتها الخارجية بحجج أمنية ، فقاموا بتجليدها بالكرتون والغراء وقطع القماش وورق البرستول الملون وكتابة أسمائها بخط جميل خوفاً من التلف .
ج- المكتبة الفصائلية الخاصة ، قد تكون فى مكتبة القسم فيما لو حُسِم القسم لفصيل معين ، أو لفصائل قريبة من بعضها ” كقسم الجماعة الاسلامية ، أو قسم لليسار ، أو قسم كامل لحركة فتح ” ، وفى حال اختلاط الأقسام بالفصائل المتنوعة يتم اقتناء تلك المكتبات على رفوف الغرف الخاصة ، وعادة تحوى هذه المكتبات الكتب والدراسات والنشرات والمجلات الفكرية الحزبية ، والتى تتناول البرامج والأفكار والمبادىء واللوائح الخاصة بكل تنظيم ، ويتم إدخالها عبر الأهالى ، ويدوياً من انتاجات ودراسات الأسرى المنسوخة بخط اليد .
د- المكتبة الشخصية ، كثير من الأسرى من لازمهم الكتاب معظم أوقات اعتقالهم ، فكان رفيق حياتهم أينما حلوا ، وكانت لهم اهتمامات خاصة غير متوفرة فى المكتبات العامة والتنظيمية ، فاقتنوا مكتبات خاصة تلبى رغباتهم وميول ثقافاتهم عبر الزيارات ” كالقواميس الخاصة باللغات ، والكتب الفكرية ، وعلوم الإدارة والقيادة ” ، ومن اهتموا بمواصلة دراستهم الأكاديمية ، أو من عكفوا على إعداد الدراسات والأبحاث الخاصة ، وأذكر أن الأسير الشهيد نعمان طحاينة من السيلة الحارثية – جنين كان يحمل فى تنقلاته حقيبة ملابس ، وحقيبتين من الكتب الفكرية والمنوعة ، وعلى شاكلته المئات من الأسرى .
موقع إلكترونى عبرى يحمل اسم ” دليل المكتبات ” أجرى تحقيقاً صحفياً عن مكتبات الأسرى الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية وتطرق لصفات أمين المكتبة الفلسطينى الأسير بالقول ” ضمت المكتبة فى السجون ما بين 800 إلى 3000 كتاب ، وقد يصل العدد إلى 7000 كتاب معظمها عربية ، وبها كتب عبرية وإنجليزية ، عند اختيار أمين المكتبة من قبل السجناء الأمنيين الفلسطينيين ، يؤخذ بعين الاعتبار أن يكون حاصلاً على شهادة جامعية ، وصاحب تجربة فى مرافق العمل داخل السجون ، وأن يتحلى بالرزانة والعقلانية والهدوء ، وأن تكون معاملته مهذبة مع الأسرى ، وأن يكون مشجعاً للأسرى على القراءة ، وأن يكون على علاقة مستقرة مع السجان حتى لا يكون سبباً للتوتر ، وأن يكون قادراً على اختيار الكتاب للأسرى وفق أعمارهم ومستوياتهم الثقافية حتى لا يصاب البعض بالإحباط من بعض الكتب ذات الصياغة العالية ، وأى أمين مكتبة لا يتحلى بهذه الصفات يتم فصله من عمله ” [24].
خامساً ، الوسائل الثقافية :
1- الجلسات :
يعتقد الباحث أن الجلسات فى السجون والمعتقلات الإسرائيلية بمثابة الباروميتر لقياس قوة الحركة الأسيرة ، والأوضاع الداخلية للفصائل الفلسطينية ، ولمدى اهتمام المعتقلين كأشخاص بذواتهم ، فأينما تواجدت الجلسات الثقافية ، والتعليمية ، والإدارية ، والأمنية ، على صعيد السجن ، والتنظيم، والأسرى بشكل تطوعى ، تواجدت بمعيتها الصلابة ، والعافية ، والقوة التنظيمية ، والعكس صحيح .
قضى المعتقلون الفلسطينيون الكثير من وقتهم اليومى فى الجلسات الثقافية ، فقد كانت جلسة الصباح تعتبر بمثابة جلسة تنظيمية تبدأ بالقسم ولذلك كان حضورها إجبارى لجميع أبناء التنظيم بغض النظر عن مراتبهم التنظيمية أو وعيهم ، أما جلسات المساء فكانت للنشاطات العلمية فهى اختيارية حسب تسجيل المعتقل لأى نشاط معين[25] ، وتنقسم الجلسات إلى ثلاثة أقسام .
أ – جلسات اعتقالية عامة :غالباً ما تكون ثقافية وطنية تعنى بالقضايا الفلسطينية العامة ، وتعرف بالمناسبات التاريخية ” كالنكبة والنكسة والتقسيم ويوم الأسير والانتفاضات الفلسطينية والانقسام ووثيقة للوفاق ” ، وممكن أن تتناول المستجدات على صعيد الوضع الفلسطينى ، والأحداث المحلية والعربية والدولية ذات الانعكاس على القضية الفلسطينية ، وممكن أن تعالج قضايا اعتقالية ، وأمنية ، وإدارية عامة تتفق عليها اللجنة الثقافية العامة المفرزة عن اللجنة النضالية العامة فى المعتقل .
ب – جلسات تنظيمية : وهى الجلسات التى يقوم بها الفصيل بشكل داخلى ، وغالباً ما تعنى بمبادىء الفصيل ومفاهيمه وشعاراته وتصوراته لخطوات العمل ، ويقوم المثقفون فصائلياً أو قادة التنظيم بشرح طروحات فصيلهم وتبريرها خاصة للمعتقلين الجدد الذين لم تترسخ لديهم بعد مثل هذه الأمور[26] ، هذا بالاضافة لقضايا التحليل السياسى والاهتمامات الثقافية الأخرى التى تحدد معالمها اللجنة الثقافية للفصيل وفق الحاجة والمستجدات .
ج– جلسات تطوعية فردية : هذا نوع من الجلسات يعكف على ترتيبها أشخاص معنيون ببعض المواد الثقافية ، كتعليم اللغات ، واللغة العربية ، وأحكام القرآن وغير ذلك ، وغالباً ما تكون بأعداد قليلة ومحدودة ، وغير تنظيمية ، وغير إلزامية بموادها وأوقاتها ، وقد يكون المعلم فيها من فصيل ، والمتلقى من فصيل آخر ، وفق الحاجة التعليمية والرغبة الثقافية للأفراد .
أهمية الجلسات :
1- عبرت الجلسات تعبيرا حياً وحقيقيا عن الصورة المشرقة داخل المعتقلات.
2- اعتماد التثقيف داخل المعتقلات من مقومات العمل النضالي.
3- صهر النضالات الفردية والجماعية في بوتقة واحدة لخدمة الإطار والفصيل التنظيمي الذي ينتمي إليه المعتقل.
4- محاولة جادة لخلق حالة من التكيف والانسجام مع الواقع الإعتقالي من خلال خطوات تكتيكية وإستراتيجية بإشغال المعتقل في العمل الثقافي.
5- تأطير العنصر-المعتقل- بما ينسجم مع المواقف السياسية والنضالية الوطنية.
6- عملت الجلسات التنظيمية والتثقيفية داخل المعتقل والسجن على التعبير عن الرؤية التنظيمية بكل تفصيلاتها للمحافظة على وحدة الصف والموقف والرؤية السياسية.
7- الاقتناع بأن جميع الفصائل التنظيمية الفلسطينية متميزة ورائدة من حيث العطاء والعمل وحين الانتقال من مرحلة القرار إلى مراحل التنفيذ والعمل.
8- خلق حالة من التوجه لدى المعتقل بأن مرحلة الأسر هي محطة نضالية من محطات العمل النضالي.
9- عملت على تهيئة الشخص للدفاع عن ذاته المناضلة وعملها البناء وصقلها على اعتبار أن الصراع مع العدو داخل المعتقل صراع عقول وليس صراع عضلات.
10- شحن النفوس للمواجهة الدائمة مع السجان [27].
2- المطالعة الذاتية :
اهتم الأسرى بشكل كبير بالمطالعة مع دخول الكتاب السجون ، وتنوع الكتاب فى المكتبات ، هذا التنوع الذى أشبع ميول واهتمامات آلاف الأسرى ممن دخلوا السجون ، وأبحروا فى مكتباتها وتخصصوا فى علومها ، ولقد شجعت الحركة الأسيرة القراءة الذاتية ، فخصصت فى كثير من السجون ساعة هدوء يومية للقراءة الذاتية ، ومن الأسرى من استطاع أن يقرأ كتاباً أو روايةً فى يوم واحد .
وبهذا صار الكتاب فى حياة المعتقل الفلسطينى زاداً ثقافياً يومياً ، لتسود القراءة والنقاش وتلخيصات الكتب والتعليق عليها فى المجلات الاعتقالية والجلسات والحوارات الثنائية والجماعية ، إلى أن ترسخت قاعدة عادة القراءة فى المعتقلات ، وأصبح المألوف ، أن يلازم الكتاب المناضل المعتقل معظم ساعات يومه[28] .
3- المجلات : أطلق بعض الكتاب علىالمجلات الاعتقالية مصطلح ” الصحافة الإعتقالية ” كون المجلات فى السجون تقوم بدور الصحافة ، ولها رئيس ولجنة تحرير ورقابة ، ولقد صدرت ” المجلات ” فى السجون بشكل منتظم أو متقطع ، وتكتب بخط اليد ، وعلى دفاتر يتم قصها وترتيبها لتأخذ أشكالاً جميلة ، وتصدر بلوحات فنية من نتاجات فنانين معتقلين ، ودرجت العادة أن تتضمن المجلات الاعتقالية ، زوايا سياسية وتنظيمية وتربوية وأدبية واجتماعية ونضالية[29] .
ولقد أسهمت مجموعة من العوامل فى التأسيس للصحافة الاعتقالية ” المجلات ” وبلورتها ، منها : توافر الخبرات لدى المعتقلين ، فقد أفرزت التجربة كفاءات ثقافية وفكرية وإبداعية وأفرزت أيضاً تخصصات ، فى السياسة والثقافة والفكر والاقتصاد … الخ ، وفرة المواد السياسية والتنظيمية والثقافية المهربة من الفصائل فى الخارج إلى المعتقلين معلومات أغنت الكتابة الصحفية ووضعت الكتاب فى صورة ما يجرى فى الخارج[30] .
وذكرت شهادات الأسرى أن الأسير فاضل يونس ، كان من رواد الحركة الأدبية فى السجون ، وكان أول من اخترع ” مجلة السجن ” ، وذلك فى العام 1971 ، حيث لم يكن لدى المعتقلين أوراق أو أقلام ، ولكن فاضل يونس ، كان يلجأ إلى الأوراق الملفوفة على علب اللبن ، ينظفها ويلصقها على الحائط ، ليعمل منها مجلة متواضعة ، وهذه المجلة المتواضعة بشكلها وموادها ، كانت عنصر إثارة وتشويق ، وكسرت الركود والروتين اليومى فى حياة المعتقلين . وفتحت عيونهم على الجانب الثقافى الذى كان شبه مهمل قبل صدورها[31] .
وعام بعد عام ، بعد نضالات كلفت الأسرى الشهداء والمعاناة ، والسماح باقتناء الأقلام الملونة والأوراق المسطرة والرسم ، والألوان بأنواع متعددة زيتية ومائية وخشبية وغيرها ، والسماح بالدباسات والصمغ ” ، والقرطاسيات ، ومع تقدم الخبرة عدد من الكتاب ، والمفكرين والإعلاميين ، وبرز على فترات ، الصحافيين ، والشعراء ، والروائيين ، والرسامين ، فأبدعوا إبداعات رائعة تعالج قضايا الوطن على هذا الصعيد [32] .
وتطورت فى المعتقلات مجلات تنظيمية مختلفة تعنى بمختلف النواحى الثقافية ، والتطورات السياسية ، والمبادىء الحزبية والفصائلية ، وقد عمد المعتقلون إلى تطويرها من أجل التعبير عن مواقفهم وتصوراتهم وعن الأبعاد والأسس التى كانت تحكمها ، وكذلك من أجل صياغة تحليلات سياسية أو اقتصادية لم تتطرق الجلسات إليها أو طرقتها بدون تفصيل أو دون الأخذ بمختلف وجهات النظر [33].
وفى إحدى الحملات البوليسية وقعت مجلة فى يد ضابط فى معتقل عسقلان ، وكانت المجلة المذكورة مقصوصة بشكل جميل ومكتوبة بعناية فائقة ، وعناوينها بارزة ، ورسم أحد فنانو المعتقل أسفل كل مقالة لوحة منسجمة مع مضمونها ، عندما استعرض الضابط المجلة ” صفر ” وقال مستغرباً ، يا إلهى ، إنهم يخبئون هنا مطبعة [34] ، دلالة على دقة التصميم والتنسيق ، وجمال الخط ، وإرفاق الصور ، والكاريكاتور ، وتنوع المقالات فى المجلات ، واستطاع الأسرى إدخال الطابعة اليدوية فى عسقلان ونفحة فى العام 1984م ، وتعلم عدد من الأسرى على يد زملائهم اللذين كانوا يجيدون استخدامها قبل الاعتقال ، ولكن إدارة مصلحة السجون صادرتها فى منتصف العام 1985 م فى أعقاب رفض الأسرى الوقوف على العدد [35]، ويمكن تقسيم المجلات إلى قسمين :
أ – المجلات الإعتقالية العامة : والتى كانت بمشاركة الكل الإعتقالى فى السجن أو المعظم منه ، وتكون تحت إشراف اللجنة الثقافية المنبثقة عن اللجنة النضالية العامة فى السجن ، ولقد برز من هذه المجلات ” مجلة (عسقلان الثورة) ، وكان أول عدد منها من سبع ورقات من ورق اللبن، وهي نسخة لكل مردوان ، ولقد وصلت تطورات المجلة إلى ذروتها عام 1984 عندما كانت تصدر في أكثر من أربعين صفحة [36].
ومجلة ” نفحة الثورة ” بعد العام 1980 فى سجن نفحة ، وجرى الاتفاق وطنياً على إصدارها صحيفة لتعبر عن الكل الوطنى ، وتنتهج فى تحريرها نهج منظمة التحرير الفلسطينية[37] .
ومجلة ” الجماعة الإسلامية ” فى العام 1982 الصادرة عن الفصائل الإسلامية ، والتى كانت برئاسة تحرير الموجه الثقافى ، والذى شغل عضو مجلس الشورى العام المنتخب ، وبرز عدد من الكتاب فى هذه المجلة كالأسير ” زهير الرنتيسى ، وعبد الله الزق ، ومصباح الصورى ، ومحمد أبو طير ، وعبد الحليم شهاب ” [38].
ب- المجلات التنظيمية الخاصة : هى مجلات تصدر عن التنظيمات بشكل حزبى ، وتتناول القضايا والتفسيرات والتعقيبات والتحليلات للقضايا من منظور وأفكار ومبادىء الفصيل الذى يرعى المجلة ، وتكون تحت إشراف اللجنة الثقافية له ، ولكنها شبيهة من حيث التقسيم والتصميم والتلوين وعوامل الجذب للأسرى ، وعرف من هذه المجلات ” العاصفة ، وفتح الثورة ، الهدف ، وراية الشعب ، وإلى الأمام ، والنضال ” لحركة فتح ” ، والثبات ، والرباط ، واللواء ، والياسين والهدف” لحركة حماس ” ، والفرسان ، والمجاهد ، والأمين ” لحركة الجهاد الإسلامى ” ، ونداء الوطن ، والهدف ، والطريق نفحة ، والشعلة ” للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” ، وعدد كبير من المجلات للفصائل الفلسطينية الأخرى .
وتعددت المجلات لتصبح من 40 صفحة أقل أو أكثر ، وأصبح يمتلك الفصيل أكثر من مجلة ، ووصل الحد بأحد الفصائل إلى إصدار خمس مجلات شهرياً ، كل منها تخصصت فى مجال معين ، وأصبح لكل فصيل منابر خاصة تعبر عن خطه السياسى ومنظومته الفكرية[39] .
إن إصدار المجلات الاعتقالية ، يمثل أحد العلامات المهمة فى تجربة المعتقلين الفلسطينيين ، ولا يمكن لأى دارس لهذه التجربة إلا أن يتوقف ويتأمل ملياً هذا الإبداع الصحافى الذى طالما أدهش بل وصدم السجان ، و أشغل أوقات المعتقلين المهتمين بعمل منتج مفيد شكل إحدى العلامات المضيئة فى تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة [40].
4 – الفنون :
تجشم الأسرى كجماعة منظمة أخضعت لشروط حرمان رهيبة الكد المضنى ، وبذلوا جهوداً جبارة فى محيطهم المادى ، واستنبطوا منه الوسائل التى تساعدهم على التعبير عن أحاسيسهم وأفكارهم ، وتحويلها إلى خطوط تشكل المادة المختارة لتغدو قطعة فنية تتجلى فيها القدرة الإبداعية الطالعة من أتون الحرمان النفسى والإجتماعى[41] ، فامتاز المعتقلون في كل السجون بالأشغال اليدوية التي تسمح ظروفهم بإنتاجها، والتي تتحكم في ذلك عوامل البيئة وطبيعة المكان إضافة إلى العامل الزمني، كغيرها من المظاهر الثقافية فقد كان إبداع المعتقلين يزيد مع الزيادة التي تطرأ على تطور النشاط الثقافي بشكل عام [42]، فالذى عاش التجربة الإعتقالية ، لابد وأن يتذكر أولئك الفنانين الرائعين ، مجموعة كسرت بأقلام مهربة وبقطع من القماش انتزعت من ملابس المعتقلين الخاصة ، كسرت أقفال الأبواب الحديدية الثقيلة وحلقت فى عالم الإبداع ، وأكدت أن الحرية هى معرفة بالضرورة ، وأن الفنان بمقدوره أن يكون طليقاً حراً يرفرف بجناحيه الإبداعيين حتى لو أدمى القيد معصميه [43].
اشتهر معتقلو سجن بئر السبع بالأعمال الفنية في وقت مبكر عن بقية السجون نظراً للخبرة التي اكتسبوها من مرافق العمل في السجن والتي افتتحت فور افتتاح السجن ، وكذلك استخدام المركز اليهودي للفنون للمعتقلين في العمل كأيدي عاملة في عمل أشكال خشبية وطلائها لصالح المركز[44] ، على أن العامل الأهم هو توفر مواد نشاط الأشغال اليدوية – حسب طبيعة المنطقة- ففي سجن بئر السبع توفر الحرير والحجر الذي كان يأخذه المعتقلون من ساحة الفسحة، وخشب النجارة .
كما مارس المعتقلون الفلسطينيون مهارة الرسم التي ابتدأت من الرسم على جدران الزنزانة انتهاءً بالرسم الملون على المناديل والمتتبع لهذه الرسوم يجد أنها تتعلق بعدة مواضيع أهمها المرأة ، وأسوار القدس وقبة الصخرة ، والقضبان الحديدية، وكانت نجاعة وطبيعة الألوان من أهم السمات التي يمكن أن نربطها بعامل الزمن ابتداءً من بداية السبعينات ، حيث إن المعتقلين حصلوا على مواد الرسم خاصة الألوان والمناديل أثناء وضعها في مطالبهم في الإضرابات عن الطعام [45].
واتخذ الإبداع خلف القضبان أنماطاً عديدة منها صناعة المراكب ذات الأشرعة ، ومجسمات قبة الصخرة ، ومزهريات الزهور ، والبراويز ، وأعمال التطريز ، وتجليد الدفاتر بالمطرزات للمذكرات والتى صنعت من ( الغراء والكرتون المقوى وخيوط الحرير وعبوات معجون الأسنان ، وقد بدأ الأسرى الفلسطينيون يمارسون هذه الأنماط الإبداعية منذ منتصف السبعينيات [46]، وتطوت مع السماح للمعتقلين بادخال أو شراء أدوات صناعة التحف عبر الأهالى ومن الكانتين ، كما نحتوا عجم الزيتون ولونوه بالأصفر والبني بعد أن أوجدوا هذه الألوان من إذابة بعض أقراص الدواء بالماء والزيت ، كما صنعوا عقد الزينة من الخرز، وحفروا على عجم (الأفوكاتو)، كما حفروا على علب (الدمينو) [47]، وقد امتاز المعتقلون في الحفر على حجارة الصخر الصغيرة في تعبيرات لزوجاتهم وأطفالهم، وقد كانت تحفة ” العالم لنا ” المحفورة على الرخام للفنان الأسير ” على النجار ” من بين أفضل إبداعات الحركة الوطنية الأسيرة التى جلبت الانتباه وحازت على الإعجاب ، وأهديت إلى القائد الأممى الرئيس الكوبي فيدل كاسترو[48] .
وخاض الباحث تجربة فريدة فى هذا المجال ، إذ أنه تعلم ” الخط الكوفى ” فى العام 1992 وأتقنه ، ورغم انشغاله الدائم بالثقافة والمطالعة ، وتعلم اللغات ، والتعليم الجامعى ، إلا أنه كان عنواناً للأسرى أينما حل فى السجون لكتابة أول آية من سورة الإسراء على ” مجسم قبة الصخرة “، ورسم عشرات بل مئات البطاقات التى زينت بالورود والعصافير ، كبطاقات معايدة للأمهات والزوجات فى يوم الأم والأعياد .
فى نهاية الدراسة يرى الباحث أن الأسرى تميزوا بعشقهم للجمال ، كما عشقهم للوطن الذين ضحوا بزهرات شبابهم لتحريره ، وأنهم حملوا قلباً وحباً كفيلاً بقلب العالم إلى واحة حب وسلام ، وأنهم اهتموا فى سجنهم بكل ما هو جميل ، ويعوض واقع الحرمان والجمود الذى فرضته إدارة السجون عليهم برسومات الزهور والطيور والرموز المعبرة عن الحب والحرية والحياة .
ويذكر الباحث أكثر من شخص وجد عصفوراً فرخاً لم يكسى بالريش بعد فى ساحة الفورة ، فخبأه وأطعمه وسقاه حتى كبر ، وصنع له قفصاً مفتوحاً من الكرتون بجانب فوهة الشباك ، فطار وعاد وغرد للأسرى فرحاً ورد فضل لفترات قطعه عنهم حقد السجان بالملاحقة والعقاب .
وعلى المستوى الثقافى خرجت السجون الكثير من المناضلين الأشاوس والمقاومين الأشداء ، اللذين كانوا جنودا ً للوطن ، ووقوداً للثورة ، وخرجت القادة السياسيين ، الأفذاذ اللذين كانت لهم أدوار كبيرة ولافتة ومؤثرة فى قيادة الجماهير الفلسطينية ، بالإضافة إلى مئات القادة من ذوى الخبرة والكفاءة ، وبذا فقد شكلت السجون رافداً مهماً وأساسياً للثورة ، وبناء الوطن والدولة ، ولم يكن لكل هذا أن يتحقق لولا الإرادة والعزيمة التى تحلى بها الأسرى ، ولولا الخطوات النضالية التى خاضوها ، والإضرابات عن الطعام والتضحيات الجسام التى قدموها [49].
………….
ملاحظة / يحتفظ الباحث بمصادر الدراسة لحفظ حقوق الملكية / ولكونها أحد مباحث رسالة الدكتوراة
يمنع الاقتباس دون ذكر المرجع – والأفضل – بالمعلومات التالية :
– رأفت خليل حمدونة : الجوانب الإبداعية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة في الفترة ما بين 1985 إلى2015، القاهرة ، رسالة مقدمة للحصول على درجة الدكتوراة في قسم العلو