دراسة : نيسان الوفاء والعطاء والتضحية – محمود كعوش
في نيسان نتذكر، فنترحم ونجدد العزم على مواصلة النضال
الإصرار الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني
محمود كعوش
نيسان الوفاء والعطاء والتضحية
في هذا الزمن “الأغبر” الذي بات فيه الحكام والمسؤولون العرب يسبقون التطبيع في الهرولة سراً وعلناً لأداء “فريضة الحج” عند الصهاينة في تل أبيب وتقديم واجب الطاعة لهم طمعاً بنيل رضا البيت الأبيض المتصهين ومن تبقى من حثالات المحافظين الجدد في واشنطن أملاً في الحفاظ على عروشهم وكراسيهم ومواقعهم في سلطة الحكم، يُصبح من واجب كل من الإعلامي والمقاتل البقاء في حالة استنفار دائمة للدفاع عن قضايا الأمة، الأول للنضال بالكلمة وتدوين الصفحات تلو الصفحات من السير الذاتية الأسطورية لشهداء القضية الأبرار الذين يتساقطون زرافاتٍ ووحدانا نتيجة الإرهاب الصهيوني الإجرامي الذي عادة ما يتخندق وراء الاستكبار الأمريكي وتوثيقها وحفظها في”موسوعة الشهادة والاستشهاد”، وتوريثها للأجيال القادمة، بدون تزييف أو تزوير أو تدليس، والثاني للنضال بالبندقية وممارسة الكفاح المسلح، ليكمل أحدهما الآخر استجابة لمتطلبات دحر الاحتلال واستعادة الحقوق الوطنية وإعلاء كلمة العدل في فلسطين، كل فلسطين من البحر للنهر.
فأنا من ناحيتي لا أرى فارقاً أو تبايناً يُذكر بين الإعلامي والمقاتل، طالما أن كليهما مُعرضان للاغتيال والاستشهاد في كل لحظة، وطالما أنهما يحملان نفس الرسالة ويتبنيان نفس العقيدة ويدافعان عن نفس القضية ويقاتلان من أجل نفس الغاية والهدف. وإن وجد هذا الفارق أو التباين بين الاثنين فلا يكون بغير نوعية السلاح الذي يستعمله كل منهما والذخيرة التي يحشوه بها، ولا أظن أن مثل هذا الفارق يشفع لإعلامي دون مقاتل أو لمقاتل دون إعلامي عند العدو الصهيوني المجرم.
فكم من العقول والأقلام والرموز الثقافية والقيادات السياسية الفلسطينية استهدفها الإرهاب الصهيوني، تماماً كما استهدف المقاتلين والكوادر والقيادات والعسكرية!! وهل من مرة واحدة ميز أو فرّق فيها هذا الإرهاب بين المدنيين والمسلحين الفلسطينيين، أو بين الأطفال الرضع والنساء والشيوخ، الأصحاء والمقعدين الفلسطينيين؟ ألم يستهدف السياسيين والعسكريين من شعب الجبارين في كل مكان فلسطيني وزمان فلسطيني دون ما تمييز أو تفريق؟ وألم يستهدف الشجر والحجر والحرث والزرع والنسل وباطن الأرض وأديمها والماء والهواء وكل البحر والفضاء في فلسطين؟ وألم يحول كل هذه منفردة ومجتمعة إلى أهدافٍ عسكرية استراتيجيةٍ لجيشه وعصابات مستوطنيه وآلة بطشه وجبروته وفاشيته بزعم “الضرورات والمقتضيات والدواعي الأمنية” للكيان الصهيوني العنصري القائم فوق التراب الفلسطيني المبارك منذ عام 1948، بمنطق القوة العسكرية ودبلوماسية الطائرات والبوارج والقاذفات الصاروخية!!
في زمن العجز والتخاذل والانبطاح العربي هذا الذي يوغل فيه الإرهاب الرسمي الصهيوني، تحت مظلة الاستكبار الأمريكي الذي يضرب يميناً ويساراً في سورية والعراق وليبيا واليمن وغيرها من البلدان العربية بذريعة محاربة “داعش” الكاذبة، في ارتكاب جرائمه البشعة والنكراء ضد الفلسطينيين خاصة والعرب عامة، أقبل علينا شهر نيسان هذا العام بكل ما حملته جعبته واختزنته ذاكرته من قوافل الشهداء الفلسطينيين الأبرار الذين سقطوا على مدار السنوات ال 69 التي تمثل عمر الاغتصاب الصهيوني لفلسطين.
لا أظن أن أحداً من الفلسطينيين في أي مكان تواجد، في الوطن أو خارجه وفي الحل أو الترحال قد نسي أو غاب عن باله ولو للحظة واحدة مسلسل المجازر والمذابح وعمليات الاغتيال التي ارتكبها جزارو وسفاحو الكيان الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني على المستويين الجماعي والفردي في شهور تلك الأعوام كلها، وبالخصوص الشهور النيسانية منها.
ولا أظن أن واحداً مِن هؤلاء المظلومين والمضطهدين دائماً وأبداً قد نسي أو غاب عن خاطره ولو لبرهة قصيرة أو لمحة بصر خاطفة جرائم عصاباتي “شتيرن” و”الهاغاناة” وغيرهما من العصابات الصهيونية الإرهابية المنظمة وغير المنظمة التي حدثت قبل نكبة عام 1948 الكبرى وأثنائها وبعدها وصولاً إلى زمن الانحطاط والردة الذي نعيشه هذه الأيام، وبالأخص جرائم رجال جهاز الموساد التي ارتكبت بحق الفلسطينيين الأبرياء داخل الوطن وفي الشتات.
جرائم اغتيال ومجازر ومذابح بربرية وإبادات جماعية، لا أخلاقية ولا إنسانية كبيرة لا حصر ولا وصف لها إلا في سجلات التتار والمغول والنازيين، دأب الجزارون والسفاحون الصهاينة على ارتكابها بدم بارد بحق الفلسطينيين بشكل خاص والعرب بشكل عام، منذ عهد الإرهابي المقبور ديفيد بن غوريون حتى عهد الإرهابي الحالي بنيامين نتنياهو. وشلالات من الدماء الفلسطينية الذكية والطاهرة سفكها الإرهاب الرسمي الصهيوني الإجرامي على مدار 69 عاماً من الاحتلال القهري المتواصل. مسلسل دموي صهيوني بغطاء استكبار أمريكي ما تزال حلقاته تتواصل حتى أيامنا هذه.
الإرهاب الصهيوني واغتيال القادة الفلسطينيين في نيسان
ما أن يطل علينا شهر نيسان في كل عام إلا ونكون قد هيأنا أنفسنا لنعيش الأيام النيسانية الفلسطينية بكل ما تستدعيه من مستلزمات التأمل والاستنفار وما تفترضه من متطلبات الصبر والأمل والحيطة والحذر، بسبب ما تحمله هذه الأيام من مفاجآت مؤلمة ومحزنة، وما يترتب عليها من مخاطر وتبعات وارتدادات سلبية محتملة. ففي هذه الأيام الاستثنائية نجد أنفسنا مدفوعين بتلقائية تامة لإنعاش ذاكرتنا واسترجاع شريط تلك المجازر والمذابح وجرائم الاغتيال التي دفع فيها الشعب الفلسطيني من دمه الذكي والغالي الكثير من أجل أرضه المباركة وقضيته المقدسة، جراء صنوف وأنواع الإرهاب الصهيوني التي مورست ضده ولم تزل تُمارس حتى اليوم.
والآن ونحن نعيش هذه الأيام بحلوها ومرها، نستذكر مجازر القسطل ودير ياسين وفردان وسيدي بوسعيد والسارة وغيرهم الكثير الكثير، ونستذكر معها أرواح الشهداء الأبرار الذين سقطوا في شهور نيسانية سابقة اصطُلح على تسميتها فلسطينياً شهور البذل والعطاء والشهادة والاستشهاد من أجل الشرف والكرامة وحرية الأرض والإنسان، لكثرة الشهداء الفلسطينيين الذين سقطوا خلالها وبالأخص في صفوف القادة والكوادر. نستذكر أرواح الشهداء عبد القادر الحسيني وكمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر وخليل الوزير “أبو جهاد” والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والعقيد طيار محمد درويش والعقيد طيار غسان ياسين والمهندس طيار ثيودوروس جيورجي. نستذكر أرواح ثمانية عشر شهيداً أبت أرواحهم إلا أن تهاجر من الأرض الفلسطينية المحتلة لتعانق روح “أمير الشهداء” يوم وصلت يد الغدر الإرهابي الصهيوني إلى جسده الطاهر في العاصمة التونسية، وتُزف معها في عرس شهادةٍ ما بعدها شهادة. نستذكر أرواح هؤلاء الذين قالوا للكيان الصهيوني لا وألف لا، لن تموت جذوة الانتفاضة المباركة مع اغتيال “أمير الشهداء”. نستذكر أرواح الشهداء الثلاثة الذين قضوا دفاعاً عن “الأمير” والقضية، مصطفى وحبيب التونسي وأبو سليمان.
وحتى لا أُلام أو أقع تحت طائلة لوم نفسي قبل لوم الآخرين لي أو يؤخذ علي مأخذ النسيان أو”التجاهل المتعمد لا قدر الله”، أرى أن من العدل والإنصاف استذكار أرواح كل الشهداء الفلسطينيين والعرب الذين وصلتهم يد الغدر الصهيونية خلال الشهور النيسانية. لكن اقتصار الحديث على هذا الشهر اللعين يستدعي مني التوقف فقط عند رموز قياديةٍ كبيرةٍ ومميزة كان شغلها الشاغل وهمها الأول الحفاظ على وحدة الصف الفلسطيني من أجل خدمة القضية المقدسة، ولم تقدم في وقت من الأوقات “الأنا” أو المصلحة الذاتية أو الحركية على المصلحة الوطنية الفلسطينية والمصلحة القومية العربية، استهدفها الإرهاب الصهيوني في شهور نيسانية لعينة سابقة.
فالحديث عن القائد الشهيد عبد القادر الحسيني يعيدنا بالذاكرة إلى الوراء 69 عاماً، حين استشهد في معركة القسطل في 8 نيسان 1948. ويعيدنا أيضاً إلى أيام بالغة الظلمة والسواد، أوغلت خلالها عصاباتا “شتيرن” و”الهاغاناة” الإرهابيتان في عدوانهما النازي والفاشي ضد الفلسطينيين لغرض ترحيلهم والاستيلاء على أراضيهم، فارتكبتا من المجازر والمذابح الجماعية ما لا يُعد ولا يُحصى، وما يندى لها جبين الإنسانية. ومن بين تلك المجازر كانت مجزرة “دير ياسين” التي حدثت في 9 و10 من ذات الشهر والعام والتي اغتال الصهاينة الأنذال فيها جميع أبناء البلدة إلا من نجا منهم بأعجوبة ، في واحدةٍ من أسوأ عمليات الإبادة الجماعية .
والتوقف عند 10 نيسان 1973 يذكرنا بذلك اليوم الذي تمكن فيه الإرهاب الصهيوني النازي بواسطة مجموعات مجرمة تابعة لجهاز “الموساد” من اغتيال ثلاثة من القادة الفلسطينيين الكبار في شارع فردان في قلب العاصمة اللبنانية بيروت هم كمال عدوان وأبو يوسف النجار وكمال ناصر.
فقد كان الشهيد القائد كمال عدوان واحداً من أهم وأبرز الإعلاميين إن لم يكن أهمهم وأبرزهم. وكان الحريص على أن تتعانق الكلمة الحرة مع البندقية الحرة. ورأى عدوان العالم من خلال القضية الفلسطينية فكان القائل الذي صَدَقَ قوله: “حتى تكون أممياً لا بد أن تكون فلسطينياً أولاً”. وأتقن فن الثورة ودرب الآخرين على إتقانه وممارسته. أصدر جريدة “فتح” من قلب المعركة عندما تطلبت الضرورة ذلك.
وكان الشهيد القائد أبو يوسف النجار “السهل الممتنع” في مرونته وتصلبه. أما شعاره الثابت والدائم فكان “الحق أولاً والمبدأ أولاً”. ومثل أبو يوسف النجار نموذجاً لجيلٍ فلسطينيٍ كاملٍ عَبَرَ عنه بنقاء ثوري أصيل.
أما “ضمير الثورة” الشهيد القائد كمال ناصر فقد أحبه جميع الثوار كما أحبهم، وكان لحركة فتح كما كان لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية. كان أديباً وشاعراً ومفكراً، وكان إنساناً بكل معاني الإنسانية النبيلة. حبّب القتال إلى قلوب الجماهير فأصبحت الجماهير الحاضن الأمين والحُضن الآمن والدافئ لفكر المقاومة وممارساتها. وكان حريصاً على الوحدة الوطنية الفلسطينية وعمل من أجلها. سُمي “ضمير الثورة” لما مثّله من قاسمٍ فكريٍ وسياسيٍ مشتركٍ بين جميع فصائل المقاومة، مع تعدد نزعاتها الفكرية والسياسية.
وما من أحد عرف أمير الشهداء القائد الرمز خليل الوزير”أبو جهاد” إلا واحترمه وأحبه، وأنا كنت واحداً من هؤلاء وهم كُثر جداً في الأوساط الفلسطينية والعربية والإسلامية. فما أقوله أنا وغيري عن الأمير الشهيد القائد لا يُمثل جزءاً يسيراً مما اتصف به من نُبل وعُرف عنه من أخلاق حميدة ومسلك مُشرف. ولا أبالغ حين أقول أنني مهما اخترت له من الصفات النبيلة والكريمة والإنسانية الشائعة والجديدة لن أوفيه بعض ما استحقه في حياته وما يستحقه في مماته، وهو أكثر بكثير.
لقد كان “أبو جهاد” قائداً بكل معاني الكلمة، وما أحوجنا لأمثاله وأمثال إخوانه الذين عاصروه وقضوا قبله وبعده في هذه الأيام العصيبة والظرف الدقيقة والخطيرة التي تمر بها القضية الفلسطينية وكل قضايا الأمة الوطنية والقومية. وصلت يد الإرهاب الصهيوني المجرم إلى جسده الطاهر في 16 نيسان 1988 فاغتالته مع ثلاثةٍ من مرافقيه بعد معركةٍ غلب عليها طابع الغدر في ضاحية سيدي بوسعيد التونسية.
ويوم اغتال الكيان الصهيوني الشهيد الكبير الذي سُميت “دورة الانتفاضة” للمجلس الوطني التي انعقدت في مدينة الجزائر في تشرين الثاني 1988، اعتقد أنه بذلك الاغتيال سيتمكن من اغتيال الانتفاضة المباركة. لكن وفاء أبنائها للقائد والقضية التي قضى من أجلها زاد الانتفاضة اشتعالاً وتوهجاً، إلى أن جاءت “أُوسلو” اللعينة فاغتالتها بالإنابة.
أما القائد الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، فقد وصلت إليه يد الغدر الحاقدة عن طريق الطائرات الحربية الصهيونية أمريكية الصنع التي قامت بقصف سيارته مساء 17 نيسان 2004، لتعانق روحه وروحا مرافقيه أكرم نصار وأحمد الغرة اللذان قضيا معه أرواح جميع شهداء فلسطين الأبرار الذين سبقوهم، وفي مقدمهم ملهمهم وقائدهم ومؤسس “حركة حماس” التي كانوا ينتمون إليها المغفور له الشيخ الجليل أحمد ياسين، الذي اغتالته الطائرات الصهيونية قبل 25 يوماً من اغتيالهم. ومسيرة القائد الرنتيسي المميزة نسخة مشرفة عن مسيرة الملهم والقائد، تجعلنا هي الأخرى أعجز من أن نذكر كل صفاته ومآثره الكريمة في كلمات أو سطور قليلة.
وكلا الرجلين، القائد والملهم، حرصا دائماً على الوحدة الوطنية الفلسطينية وعملا وقضيا من أجلها ومن أجل وحدة الشعب والأرض والقضية، ولربما أنه لو كتب لهما أن يعيشا أطول لما حدث ما حدث، ولما كان ما كان، ولما وصل الحال إلى ما وصل إليه، ولما فُرض على قطاع غزة أن يدير ظهره للضفة الغربية وقلبها مدينة القدس المباركة ويتباعد عنهما.
اقتصار حديثي على ستة فقط من القادة الرموز الكبار في مسيرة النضال والاستشهاد الفلسطينيين وفي مسيرة الوحدة الوطنية الفلسطينية لا يقلل أبداً من شأن وقيمة الشهداء الأبرار الآخرين. فكلهم شهداء القضية النبيلة، من أصغر طفل رضيع وامرأة وشيخ مسن حتى أكبر قائد فلسطيني، وكلهم تتمزق قلوبنا ألماً وحسرةً على فراقهم . فقوافل سبقت وأخرى تنتظر والعطاء مستمر. لكن “نيسانية” الموقف افترضت التوقف عند هؤلاء القادة للتدليل على فيض العطاء الفلسطيني، بانتظار وقفات أخرى قادمة.
إنه قدر فلسطين وشعبها أن يُلازمهما على الدوام حصادٌ دموي”نيسانيٌ” يعقبه حصاد بعد حصاد. مسلسل من الحصاد الدموي المستمر والمتواصل. فالإرهاب الصهيوني بشتى أشكاله وصوره الهمجية والمقززة مستمر ومتواصل، وشلال العطاء الفلسطيني من أجل الأرض والإنسان والقضية بشتى أشكاله وصوره النبيلة والمشرفة مستمر ومتواصل بغزارة هو الآخر. ولنا في كل يوم وأحياناً كثيرة في كل ساعة أو لحظة شهيد بل عشرات الشهداء، و”موسوعة الشهادة والاستشهاد” التي استوجبتها النكبة الكبرى لتخليد الدم الفلسطيني الطاهر تبقى مشرعة الأبواب ومفرودة الصفحات لاستقبال سير جديدة لكواكب من الشهداء الجدد ينضمون إلى إخوان ورفاق لهم سبقوهم إلى شرف الشهادة، إلى أن تتم العودة ويتحقق حلم الدولة الفلسطينية المستقلة ويعترف العالم كله بالمدينة المقدسة عاصمة لها.
رحم الله شهداء فلسطين والأمتين العربية والإسلامية.
حديثي عن الشهداء والشهادة والاستشهاد يتواصل، طالما أن العطاء الفلسطيني متواصل في مواجهة الإرهاب الصهيوني الذي لا يتوقف، والذي لن يتوقف إلا باستئناف الكفاح المسلح واستئصال الاحتلال واستعادة الأرض والحقوق كاملة ان شاء الله.
الإرهاب الصهيوني وارتكاب المجازر والمذابح في نيسان
من المعروف أن الإرهاب الصهيوني قد اتخذ منذ حدوث النكبة في عام 1948، ولربما منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897، وحتى يومنا هذا أشكالاً ووجوهاً متعددة ومختلفة سعياً لتحقيق أهدافه، فمن شن الحروب العدوانية الإجرامية الخاطفة إلى ممارسة عمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية وارتكاب المجازر والمذابح والإبادات الجماعية وممارسة عمليات الاغتيال والتصفيات الجسدية التي باتت أوسمة عار سوداء تُزين صدور الإرهابيين من قادة الكيان الصهيوني في تل أبيب كلّما شنّوا عدواناً أو مارسوا إرهاباً ضد الفلسطينيين والعرب في هذا البلد أو ذاك.
ولربما أنه كان لأيام الشهور النيسانية النصيب الأوفر من ذكريات الألم والوجع والدم الفلسطيني، بسبب ما ارتكبه جيش الحرب “الإسرائلي” وعصابات المستوطنين من مجازر ومذابح واغتيالات يندى لها ضمير الإنسانية في هذه الشهور، بإيعاز من قادة كيان العدو الصهيوني ودعم من الولايات المتحدة زعيمة الاستعمار العالمي الجديد وحلفائها في الغرب والشرق.
في ما يلي أبرز أبرز المذابح والمجازر التي ارتكبها الصهاينة الأشرار خلال الشهور النيسانية، في إطار مسلسل الإرهاب الصهيوني المتواصل ضد الفلسطينيين والعرب:
مجزرة قرية اللجون
كان عدد سكان قرية اللجون عام 1940 لا يتجاوز 1103 شخصاً، وعام 1937 كان فيها 162 منزلا، وست طواحين للحبوب، وسبعة باصات ومدرسة واحدة بلغ عدد طلابها 83 طالبا. وتقع القرية على الطرف الجنوبي الغربي من مرج ابن عامر.
في عام 1937 حاولت العصابات الصهيونية اقتحام قرية اللجون أكثر من مرة لكنها فشلت، وفي 13 نيسان 1948، هاجمت عصابة “الهاجاناة” الإرهابية الصهيونية القرية، قرب مدينة جنين فقتلت 13 شخصاً من أهلها.
مجزرة دير ياسين
حاول بعض المؤرخين الصهاينة التقليل من أهمية وحجم المجازر الصهيونية التي ارتكبت؛ فاعترفوا بمجزرة دير ياسين وبعض المجازر الصغيرة، ليحصروا جرائمهم فقط بدير ياسين ويغطوا على عشرات الجرائم التي ارتكبت وما زالت ترتكب بحق الشعب الفلسطيني. فدير ياسين قرية عربية فلسطينية تبعد حوالي 6 كم للغرب عن مدينة القدس، وعدد سكانها عام 1948 كان 750 نسمة، وعدد منازلها 144 منزلا. في عام 1943 كان فيها مدرسة للبنات وأخرى للذكور.
في عملية مفاجئة بدأت قوات العصابات الصهيونية “اتسل والأرغون والهاجاناه” ليلة 9 نيسان 1948 مزودة بالاستراتيجية الإرهابية الصهيونية القائمة على قتل المدنيين لتحقيق أمانيهم، بالتسلل إلى القرية بهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وذلك بذبح سكان القرية وتدمير منازلها وحرقها على سكانها وهم في غفلة من ذلك، ولم ينج من تلك المذبحة الإرهابية البشعة إلا القليل من السكان ليصفوا للعالم بأسره مدى الهمجية التي وصلت لها الصهيونية، فقد بدأ الهجوم والأطفال نيام في أحضان أمهاتهم وآبائهم، وقاتل العرب كما يقول مناحيم بيغن في حديثه عن المذبحة، دفاعاً عن بيوتهم ونسائهم وأطفالهم بقوة، فكان القتال يدور من بيت إلى بيت، وكان اليهود كلما احتلوا بيتاً فجروه، ثم وجهوا نداء للسكان بوجوب الهروب أو ملاقاة الموت، وصدق الناس النداء فخرجوا مذعورين يطلبون النجاة لأطفالهم ونسائهم، فما كان من عصابات شتيرن والأرغون إلا أن سارعت، بحصد من وقع في مرمى أسلحتهم، وبعد ذلك أخذ الإرهابيون يلقون القنابل داخل البيوت ليدمروها على من فيها، في صورة همجية قل ما شهدت مثلها البشرية إلا من حثالات البشر، وكانت الأوامر تقضي بتدمير كل بيت، وسار خلف المتفجرات إرهابيو الأرغون وشتيرن فقتلوا كل من وجدوه حياً، واستمر التفجير بهذه الهمجية حتى ساعات الظهر من يوم 10 نيسان 1948، ثم جمعوا من بقي على قيد الحياة من المدنيين وأوقفوهم بجانب الجدران والزوايا وأطلقوا النار عليهم، وأخرجوا من داخل المنازل نحو 25 رجلاً، نقلوهم في سيارة شحن، واقتادوهم في جولة انتصار، في حي محانيه يهودا وزخرون يوسف، وفي نهاية الجولة، أحضروهم إلى مقلع للحجارة يقع بين تحوعات شاؤول ودير ياسين، وأطلقوا الرصاص عليهم بدم بارد، ثم أصعد “محاربو” اتسل وليحي النساء والأطفال، الذين قدر لهم أن يبقوا على قيد الحياة إلى سيارة شحن ونقلوهم إلى بوابة مندلباوم، ثم جاءت وحدة من الهاجاناه، فحفرت قبراً جماعياً دفنت فيه 250 جثة أكثرهم من النساء والأطفال والشيوخ .
ووصفت إحدى الناجيات من تلك المجزرة، واسمها حليمة عيد، ما حدث لأختها فقالت إنها “شاهدت جندياً يمسك بشقيقتها صالحة الحامل في شهرها التاسع وهو يصوب رشاشه إلى عنقها ثم يفرغ رصاصة في جسدها، ثم يتحول إلى جزار فيمسك سكيناً ويشق بطنها ليخرج الطفل مذبوحاً. وفي موقع آخر من القرية شاهدت الفتاة حنة خليل رجلاً يستل سكيناً كبيرة ويشق بها جسم جارتها جميلة حبش من الرأس إلى القدم، ثم يقتل بالطريقة ذاتها على عتبة المنزل جارها فتحي. كما وصفت صفية، وهي امرأة في الأربعين، كيف فوجئت برجل يفتح سرواله وينقض عليها فقالت: “رحت أصرخ وأولول، وحولي النساء يُكرهن على مصيري ذاته، وبعد ذلك، انتزعوا ثيابنا وجردونا منها ليلامسوا نهودنا وأجسامنا بحركات لا توصف وقد عمد بعض الجنود إلى قطع آذان النساء للاستيلاء على بعض الحلي الصغيرة”.
وبعد تسرب أخبار المجزرة حاولت بعثة من الصليب الأحمر زيارة القرية، فلم يسمح لها بزيارة الموقع إلا بعد يوم من طلبها، وحاول الصهاينة أن يخفوا آثار جريمتهم، فجمعوا ما استطاعوا جمعه من أشلاء الضحايا وألقوها في بئر القرية وأقفلوا باب البئر، وحاولوا تغيير معالم المكان، حتى لا يعثر عليه مندوب الصليب الأحمر، لكنه استطاع معرفة مكان البشر ووجد فيه 150 جثة مشوهة، لنساء وأطفال وشيوخ، وفضلاً عن الجثث التي وجدت في البئر دفنت عشرات الجثث في قبور جماعية في حين بقيت عشرات أخرى مبعثرة في زوايا الطرقات وخرائب البيوت.
ـ ذكر رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق الإرهابي مناحم بيجين في كتابه “الثورة” أن الاستيلاء على دير ياسين “كان جزءاً من خطة أكبر، وأن العملية تمت بكامل علم الهاجاناه وبموافقة قائدها، وأن الاستيلاء على دير ياسين والتمسك بها يُعَد إحدى مراحل المخطط العام رغم الغضب العلني الذي عبَّر عنه المسؤولون في الوكالة اليهودية والمتحدثون الصهاينة”.
ـ ذكرت “موسوعة الصهيونية وإسرائيل” التي حررها العالم الصهيوني روفائيل باتاي أن لجنة العمل الصهيونية “اللجنة التنفيذية الصهيونية” وافقت في آذار من عام 1948 على “ترتيبات مؤقتة، يتأكد بمقتضاها الوجود المستقل للإرجون، ولكنها جعلت كل خطط الإرجون خاضعة للموافقة المسبقة من جانب قيادة الهاجاناه”.
ـ كانت الهاجاناه وقائدها في القدس ديفيد شالتيل يعمل على فرض سيطرته على كل من الإرجون وشتيرن، فلما أدركتا خطة شالتيل قررتا التعاون معاً في الهجوم على دير ياسين. فأرسل شالتيل رسالة إليهما تؤكد لهما الدعم السياسي والمعنوي في 7 نيسان، أي قبل وقوع المذبحة بيومين، جاء فيها: “بلغني أنكم تخططون لهجوم على دير ياسين. أود أن ألفت انتباهكم إلى أن دير ياسين ليست إلا خطوة في خططنا الشاملة. ليس لدي أي اعتراض على قيامكم بهذه المهمة، بشرط أن تجهِّزوا قوة كافية للبقاء في القرية بعد احتلالها، لئلا تحتلها قوى معادية وتهدِّد خططنا”.
ـ جاء في إحدى النشرات الإعلامية التي أصدرتها وزارة الخارجية الصهيونية أن ما وصف بأنه “المعركة من أجل دير ياسين” كان جزءاً لا يتجزأ من “المعركة من أجل القدس”!!
مجزرة قرية قالونيا
كانت قرية قالونيا تقع على الطريق العام للقدس – يافا وتبعد عن الأولى 7 كلم. في عام 1931 بلغ عدد سكانها 632 نسمة، وكان عدد منازلها 156منزلاً، وكان فيها مسجد ومدرسة ابتدائية. في عام 1945 كانت أراضيها مقسمة كالتالي، 846 دونمًا مخصصة للحبوب و1022 دونمًا من البساتين والأراضي المروية و200 دونم مزروعة بأشجار الزيتون.
في 12 نيسان 1948هاجمت قوة من “البالماخ” الإرهابية قرية قالونيا، وقضت يومين في نسف بيوتها الحجرية. قال اليهودي الانجليزي هاري ليفين الذي رافق قوة البلماح أثناء مهاجمة القرية أنها “كانت تبدو كبركان ثائر، قصف مدفعي وإطلاق نار عشوائي كان يأتي من كل حدب وصوب”، وأنه أحصى 14 جثة، إلا أن “عدد القتلى كان أكبر من ذلك بكثير”.
مذبحة ناصر الدين
في عام 1931 كان عدد منازل قرية ناصر الدين 35 منزلًا، وفي عام 1945 بلغ عدد سكانها 90 مواطنا فقط. تقع القرية على تلة تشرف على بحيرة طبريا، واشتهر سكانها بتربية الماشية وزراعة الحبوب على مساحة وصلت 4172 دونمًا. قصد الصهاينة من وراء تدميرها إشاعة الرعب لدى سكان مدينة صفد والقرى المجاورة، فكانت اول قرى قضاء صفد تتعرض للتدمير.
في 14 نيسان 1948 اشتدت حدة القتال في مدينة طبربة بين العرب والصهاينة، وكان التفوق في الرجال والمعدات في جانب الصهاينة منذ البداية. وجرت محاولات لنجدة مجاهدي طبرية من مدينة الناصرة وما جاورها. وجاءت أنباء إلى أبناء البلدة عن هذه النجدة وطُلب منهم التنبه وعدم فتح النيران عليها. ولكن هذه الأنباء تسربت إلى العدو الصهيوني الذي سيطر على مداخل مدينة طبرية فأرسلت منظمتا “ليحي والإرجون” في الليلة المذكورة قوة إلى قرية ناصر الدين تنكر أفرادها بالملابس العربية، فاعتقد الأهالي أنهم أفراد النجدة القادمة إلى طبرية فاستقبلوهم بالترحاب، وعندما دخل الصهاينة القرية فتحوا نيران أسلحتهم على مستقبليهم، ولم ينج من المذبحة سوى أربعين من سكان القرية ال 90 استطاعوا الفرار إلى قرية مجاورة. وقد دمر الصهاينة بعد هذه المذبحة جميع منازل ناصر الدين.
مذبحة تل لتفنسكي
تل لتفنسكي كان معسكراً سابقاً للجيش البريطاني، وبعد اخلائه سكنته بعض العائلات الفلسطينية التي هربت من قراها إلى يافا، بحكم وجود المعسكر في قضاء المدينة ووقوعه بين قريتي العباسية وسلمة. في 16 نيسان 1948 قامت عصابات صهيونية مسلحة بمهاجمة المعسكر، وأطلق أفرادها النيران على ساكنيه، فقتلوا نحو 90 منهم معظمهم من النساء والأطفال.
مجزرة طبريا
بتاريخ 19 نيسان 1948 نسفت العصابات الإرهابية الصهيونية أحد منازل مدينة طبريا، فقتلت 14 شخصاً من سكانها كانوا يختبئون في ذلك المنزل.
مجزرة مدينة حيفا
بتاريخ 22 نيسان 1948هاجم الغزاة الصهاينة، بعد منتصف الليل، مدينة حيفا، قادمين من هادار الكرمل “الحي اليهودي في أعالي جبل الكرمل”، فاحتلوا البيوت والشوارع والمباني العامة، وقتلوا 50 فلسطينياً وجرحوا 200 آخرين. وقد فوجئ سكان المدينة فاخرجوا نساءهم وأطفالهم إلى منطقة الميناء لنقلهم إلى مدينة عكا، وأثناء هربهم هاجمتهم المواقع الصهيونية الأمامية فاستشهد 100 شخص من المدنيين، وجرح 200 آخرون.
مجزرة القدس
ارتكبها الصهاينة في 22 نيسان 1953 واشتشهد فيها 10 مدنيين فلسطينيين.
مذبحة غزة الثانية
للتذكير، حصلت مذبحة غزة الأولى مساء 28 شباط 1955.
مساء يوم الخميس 5 نيسان من العام التالي 1956 قام جيش الحرب الصهيوني بإطلاق النار من مدافع مورتر عيار 120 ملم على مدينة غزة، وقد ركز القصف على وسط المدينة المكتظ بالسكان المدنيين الذين كانوا يمارسون أعمالهم المعتادة، وقد تركز القصف على شارع المختار وميدان فلسطين والشوارع المجاورة ومنطقة الشجاعية. وقد قتل نتيجة تلك المجزرة الإرهابية التي اقترفتها عصابات الجيش بحق الشعب الفلسطيني 56 وجرح 103 أشخاص بين رجل وامرأة وطفل، وقد توفي في وقت لاحق بعض الجرحى فارتفع رقم القتلى إلى 60 قتيلاً من المدنيين، منهم 27 سيدة و29 رجلاً و4 أطفال.
مذبحة بحر البقر “مصر “
وقعت هذه المذبحة في 8 نيسان 1970 بتأثير وجع حرب الاستنزاف داخل كيان العدو الصهيوني، حيث قامت طائراته القاذفة في ذلك اليوم بالهجوم على مدرسة صغيرة لأطفال الفلاحين في قرية بحر البقر، إحدى القرى التي تقع على أطراف محافظة الشرقية في جمهورية مصر العربية، وأمطرتها بالقذائف لمدة زادت على عشر دقائق متواصلة وراح ضحيتها 19 طفلاً وجُرح أكثر من 60 آخرين. تجدر الإشارة إلى أن القرية كانت خاوية من أية أهداف عسكرية.
مذبحة قانا “لبنان”
لم تقتصر عمليات التطهير العرقي التي قام بها جيش الحرب الصهيوني خلال سنوات الاحتلال على المدنيين الفلسطينيين فحسب، وإنما تعدتهم لتشمل المدنيين اللبنانيين الأبرياء. ففي 18 نيسان 1996 وفي سياق عملية عسكرية همجية كبيرة حملت اسم “عناقيد الغضب”، بدأت يوم 11 من ذلك الشهر واستمرت حتى 27 منه، حين انتهت بقرار أممي أوقف بموجبه إطلاق النار، ارتكب هذا الجيش الهمجي العديد من المذابح والمجازر كان أبرزها مذبحة “قانا” التي كانت الأكثر دموية.
كانت عملية “عناقيد الغضب” الرابعة من نوعها لهذا الجيش تجاه لبنان، بعد اجتياح 1978 وغزو 1982، واجتياح 1993، واستهدفت 159 بلدة وقرية في الجنوب والبقاع الغربي. رمت “عناقيد الغضب” إلى ثلاثة أهداف أساسية غير تلك التي أعلنها القادة والزعماء الرسميون والإعلاميون في كيان العدو وهي، الحد من عملية تآكل هيبة الجيش الصهيوني، ومحاولة نزع سلاح حزب الله أو على الأقل تحجيمه وتقييد نشاطه من خلال الضغط إلى الدرجة القصوى على القيادتين اللبنانية والسورية لتحقيق هذا الهدف، ورفع معنويات عملاء كيان العدو في جيش لبنان الجنوبي الذي كان جنده وقادته يعيشون حالة من الرعب والقلق والارتباك والخوف على المصير المتوقع بعد الوصول لتسوية نهائية للوضع في لبنان. وكانت القيادات الرئيسية في كيان العدو قد أعلنت أن الهدف من وراء هذه العملية هو أمن مستعمرات الشمال وأمن الجنود الصهاينة في الحزام المحتل في جنوب لبنان، إلا أن المراقبين رصدوا في حينه تصريحات لرئيس الحكومة الصهيونية شيمون بيريز ووزيري الحرب والخارجية فيها أشارت للأهداف الثلاثة التي ذكرناها، ولا يمكن تجاهل اقتراب موعد الانتخابات العامة في تل أبيب ورغبة بيريز آنذاك في استعراض سطوته وجبروته أمام الناخبين الصهاينة حتى يواجه الانتقادات التي وجهها له المتشددون داخل الكيان، بعد الخطوات التي قطعها في سبيل تحقيق قدر يسير من التفاهم مع العرب.
فمنذ تفاهم تموز 1993 الذي تم التوصل إليه في أعقاب اجتياح 1993 المعروف بعملية تصفية الحسابات، التزم الطرفان اللبناني والصهيوني بعدم التعرض للمدنيين، والتزم الجانب اللبناني بهذا التفاهم وانصرف عن مهاجمة شمال كيان العدو إلى محاولة تطهير جنوب لبنان من القوات التي احتلته في غزو 1982 الذي عُرف بعملية تأمين الجليل. ومع تزايد قوة وجرأة حزب الله في مقاومة القوات المحتلة لجنوب لبنان أصيب الكيان بحالة من الفزع وشرع في خرق التفاهم ومهاجمة المدنيين قبل العسكريين في عمليات محدودة إلى أن فَقَد قادته أعصابهم، الأمر الذي ترجمه شيمون بيريز إلى عملية عسكرية، حاول أن يسترد من خلالها هيبة جيشه الذي تحطَّم على صخرة المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، ويستعيد الوجه العسكري لحزب العمل بعد أن فَقَد الجنرال السابق اسحق رابين باغتياله. ومما يُعَد دلالة في وصف سلوك الصهاينة بالهلع، كان حجم الذخيرة التي استخمت مقارنةً بضآلة القطاع المُستهدَف. فرغم صغر حجم القطاع المُستهدَف عسكرياً وهو جنوب لبنان والبقاع الغربي إلا أن طائرات جيش الحرب الصهيوني قامت بحوالي 1500 طلعة جوية وتم إطلاق أكثر من 32 ألف قذيفة، أي أن المعدل اليومي لاستخدام قوات الاحتلال كان 89 طلعة جوية، و1882 قذيفة مدفعية. وقد تدفَّق المهاجرون اللبنانيون على مقار قوات الأمم المتحدة المتواجدة بالجنوب ومنها مقر الكتيبة الفيجية في بلدة قانا، فقامت القوات القوات الصهيونية المجرمة بقذف الموقع الذي كان يضم 800 لبنانياً إلى جانب قيامها بمجارز أخرى في الوقت نفسه في بلدة النبطية ومجدل زون وسحمر وجبل لبنان. وأسفرت هذه العملية عن مقتل 250 لبنانياً منهم 110 لبنانيين في قانا وحدها، بالإضافة للعسكريين اللبنانيين والسوريين وعدد من شهداء حزب الله. كما بلغ عدد الجرحى الإجمالي 368 جريحاً، بينهم 359 مدنياً، وتيتَّم في هذه المجزرة أكثر من 60 طفلاً قاصراً. وبعد قصف قانا سرعان ما تحوَّل هذا إلفعل الصهيوني الإجرامي إلى فضيحة كبرى عُريت فيها “دولة” البغي والعدوان أمام العالم، فسارعت بالإعلان زوراً وبهتاناً “أن قصف الموقع تم عن طريق الخطأ”. ولكن الأدلة على كذبها تواترت تباعاً، وتجسد أبرزها بفيلم فيديو تم تصويره للموقع والمنطقة المحيطة به أثناء القصف، ظهرت فيه طائرة استطلاع صهيونية بدون طيار كانت تحلق فوق الموقع تأكد أنها استُخدمت في توجيه المدفعية الصهيونية التي قصفته، بالإضافة لما أعلنه شهود العيان من العاملين في الأمم المتحدة من أنهم شاهدوا طائرتين مروحيتين بالقرب من الموقع المنكوب.
ومن جانبه اعترف رئيس وزراء كيان العدو شيمون بيريز بالجريمة في قوله “إنها فضيحة أن يكون هناك 800 مدني يقبعون أسفل سقف من الصاج ولا تبلغنا الأمم المتحدة بذلك”. وجاء الرد سريعاً وواضحاً، إذ أعلن مسؤولو الأمم المتحدة أنهم أخبروا المسؤولين الصهاينة مراراً بوجود تسعة آلاف لاجئ مدني يحتمون بمواقع تابعة للأمم المتحدة. كما أعلنوا للعالم أجمع أن قوات الاحتلال وجهت نيرانها للقوات الدولية ولمنشآت الأمم المتحدة 242 مرة في تلك الفترة، وأنهم نبَّهوا تلك القوات إلى اعتدائهم على موقـع القوات الدولية في قانا أثناء القصف ولقد أكد تقرير الأمم المتحدة مسؤولية حكومة شيمون بيريز وجيشه عن هذه المذبحة البربرية المتعمدة. ورغم الضغوط الأمريكية والصهيونية التي مورست على الدكتور بطرس بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة آنذاك لإجباره على التستر على مضمون هذا التقرير فإن غالي كشف عن جوانب فيه، وهو الأمر الذي قيل إنه كان من بين أسباب إصرار واشنطن على حرمانه من الاستمرار في موقعه الدولي لفترة ثانية. وفي عام 1997 اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً دعا كيان العدو الصهيوني إلى دفع تعويضات لضحايا المذبحة، لكن قادته امتنعوا عن ذلك.
وقد اكتسبت مذبحة قانا 1996 أهمية خاصة لأنها كشفت كذب ادعاء حكومة ائتلاف العمل الصهيوني بما روجته عن سعيها للسلام مع العرب وزيف دعوة شيمون بيريز لفكرة السوق الشرق أوسطية. ومن المفارقات التي تستحق التسجيل أن بيريز رغم قيامه بعملية عناقيد الغضب وارتكاب جيشة “مذبحة قانا” الرهيبة إلا أن العملية فشلت في تحقيق أي من أغراضها المباشرة أو غير المباشرة، فلم تستطع القضاء على المقاومة وها هي تزداد يوماً بعد يوم قوة فوق قوة وتشكل قوة ردع يُحسب لها ألف حساب، في حين ذهب بيريز إلى الجحيم.
مخيم جنين…من الملحمة إلى المجزرة
بعد عشرين عاماً على مذبحة صبرا وشاتيلا، وخمسين عاماً على مذبحة قبية، ارتكب الجزار نفسه، والقاتل نفسه مذبحة في مخيم جنين. حدثت المجزرة بين 2 و14 نيسان 2002 وقال عنها في حينه مندوب الأمين العام للأمم المتحدة تيري لارسن أنها تفوق الوصف من حيث بشاعتها. نعم، لقد فاقت تلك الجريمة النكراء كل ما هو مألوف لدى البشر.
بدأت عملية الاقتحام الفعلي لمخيم جنين، فجر يوم 2 نيسان 2002، وحشد جيش الاحتلال أكثر من 20 ألفاً من قوات الاحتياط وأكثر من 400 دبابة وناقلة جند ومجنزرة، بالإضافة إلى الدعم والقصف الجوى، واستخدام شتى أنواع المدفعية والصواريخ، وكما عُرف بالمقابل فقد اشتدت المقاومة، وتحولت إلى حرب ضروس تعرض خلالها لواء “جولاني”، الذي كان يقود عمليات الاقتحام، إلى خسائر فادحة أدت إلى اتخاذ رئيس الأركان الصهيوني في حينه شاؤول موفاز، قرارًا بعزل قائد اللواء العسكري المكلف بالمهمة العقيد يونيل ستريك، وتعيين نائبه المقدم ديدي بدلا منه، وتجرع القائد الجديد مرارة الفشل، فقام الجزار المقبور أرئيل شارون بتكليف رئيس الأركان نفسه، بقيادة العمليات العسكرية ضد المخيم، وهو أمر له دلالة كبيرة على مدى شراسة المقاومة، ومدى الصعوبة التي واجهها جيش الحرب الصهيوني وقيادته.
فقد أكدت المقاومة الفلسطينية بأنها لن تسمح باحتلال المخيم إلا فوق جثث أفرادها وأنها، لن تنسحب، رغم علمها بنية قوات الاحتلال باقتحام المخيم. وبالفعل عجز هذا الجيش المجرم عن اقتحام المخيم لمدة ثمانية أيام كاملة، واضطر إلى تكثيف القصف الجوى، بالقنابل والصواريخ لتدمير المنازل ودفن السكان تحت الأنقاض، وسيلة للتغلب على المقاومة الباسلة.
ورغم كل آلة الحرب والدمار، حول الفلسطينيون المخيم إلى ساحة حرب حقيقية، وملعبًا للبطولة الفذة النادرة، وقاموا ببراعة ومهارة، بتحويل المخيم إلى مصنع كبير لإنتاج العبوات الناسفة في الأزقة والمنازل وساحات المخيم، وقام الجميع بزرع العبوات في كل زاوية، وعلى كل مدخل أو زقاق، ووصل الأمر إلى زرع العبوات المتفجرة على أعمدة الكهرباء وفى السيارات، وتلغيم بيوت كاملة كان يتوقع دخول الجنود الصهاينة إليها، مثل، بيت الشهيد محمود طوالبة الذي قتل فيه جنديان وجرح خمسة آخرون.
ووصف الصحفي الفرنسي في جريدة “لوماتينيه” بيار بابا رنسي ما حدث في جنين لوكالة أنباء “فرانس برس” قائلاً: “قام جنود الاحتلال بحفر فجوة واسعة بوسط المخيم، يوم 14 نيسان 2002، لدفن عدد غير قليل من جثث الضحايا الفلسطينيين، وقال أن “وسط المخيم بات يشبه برلين عام 1945 نظراً لحجم التدمير الفظيع”.
وأضاف بيار بابا رنسي: “شممت رائحة الجثث، وشاهدت أكواماً من النفايات والحشرات وظروفاً صحية مريعة وأطفالاً متسخين ونساء يصرخن وهن يحملن أطفالهن، ونقصاً في مياه الشرب، وانقطاعاً للأغذية والحليب الضروري للأطفال، ورأيت في مبنيين مختلفين جثثاً محترقة بالكامل، وجثتين تحت الركام والأنقاض، وتم العثور على 14 جثة تحت أنقاض أحد المنازل”.
بنتيجة تلك المذبحة أزيل المخيم بالكامل عن الوجود، ووقع ضحيتها أكثر من 500 شهيد من الأطفال والنساء والشيوخ، وبقي الكثير منهم تحت أنقاض المباني المهدمة، وأكثر من 100 من المدنيين أعدموا دون محاكمة في أزقة المخيم، وعشرات الجرحى استشهدوا بعد أن تُركوا ينزفون حتى الرمق الأخير دون أن يتمكن أحد من تقديم العلاج لهم، وعائلات بأكملها، من أطفال ونساء ورجال وشيوخ ومرضى، أبيدت بالكامل، ومئات من جثث الشهداء دفنت في مقابر جماعية سرية حتى يتم إخفاء معالم الجريمة، وعشرات الجثث سحقت بجنازير الدبابات، وأطفال ماتوا لأنهم لم يجدوا الحليب خلال عشرة أيام من محاصرة المخيم.
كان جيش الحرب الصهيوني قد شرع في 29 آذار 2002، إي قبل 4 أيام من بدء المذبحة، بحملة عسكرية احتل فيها العديد من المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وبعد أسبوعين من حصار مخيم جنين واندلاع قتال عنيف بين المقاومين الفلسطينيين والقوات الصهيونية التي قادها رئيس الأركان شاؤول موفاز في ظل حكومة المجرم أرييل شارون، لم يعد من سبيل أمام تلك القوات للقضاء على المقاومة سوى هدم المخيم على رؤوس ساكنيه ونفاد ذخيرة المقاومين الفلسطينيين، وعندها باشرت تلك القوات حملة إعدامات مكثفة في صفوف هؤلاء الفلسطينيين، وقد ترافقت حملة الإعدامات تلك مع جهد دؤوب من قبل الجرافات بإزالة المخيم من الوجود.
قتل في الهجوم 23 جنديا صهيونياً واصيب العشرات منهم، بعضهم وقع في كمائن للمقاومة التي شكلت وحدة عمليات مشتركة حيث خاض مقاتلو كافة الفصائل الوطنية والاسلامية المعركة موحدين . ويتذكر اهالي المخيم انه ورغم نداءات الجيش لهم بالاستسلام قررت قيادة المقاومة من كتائب شهداء الاقصى وسرايا القدس وكتائب القسام وعناصر الامن الوطني، الذين كان يقودهم الشهيد ابو جندل، ومن الجبهة الشعبية مواصلة المعركة خاصة بعد سقوط عدد من قادة المعركة رافضين تسليم اسلحتهم والاستسلام .
وحسب شهود عيان فقد حفر جنود الاحتلال حفرا عميقة وضعوا فيها جثث الشهداء الفلسطينيين، بعد منع محكمة العدل في الكيان الصهيوني جيش الاحتلال من التصريح بذلك.
أكد شهود عيان أن شاحنات تابعة لقوات الاحتلال شوهدت وهي تدخل المخيم وتخرج منه، وهي محملة بجثث الشهداء ومتجهة إلى جهة مجهولة. وأفاد بعضهم فيما بعد أن تلك الشاحنات اتجهت إلى منطقة الغور ودفنت الجثث في قبور جماعية. وأظهرت الصور التلفزيونية جثثاً متفحمة وأخرى متعفنة تحت الأنقاض، وقيام الصهاينة بإعدام ميداني للعديد من المدنيين والمسلحين بعد نفاذ ذخيرتهم.
أعلنت السلطة الفلسطينية أن جيش الحرب الصهيوني المجرم قام بدفن الشهداء في مقابر جماعية في محاولة يائسة لإخفاء معالم المجزرة. وأكدت أن دباباته وطائراته وجرافاته قامت بهدم منازل المخيم واحداً بعد الآخر على رؤوس من تبقى من الأهالي، ونسفت الجوامع والمساجد والمستوصفات وجميع المؤسسات المدنية وأتت على البشر والشجر والحجر وكل شيء في المخيم.
اكتملت الدراسة
مصادر المجازر:
1 – الموسوعة الفلسطينية
2– مؤسسة الدراسات الفلسطينية
3– مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا
4 – ملحمة جنين (كتاب القدس)
5 – من مقالاتي السابقة حول المجازر الصهيونية
نيسان 2017
محمود كعوش
كاتب وباحث مقيم بالدنمارك
kawashmahmoud@yahoo.co.uk