دروس لحرب مقبلة – معين الطاهر
صمدت غزة. قاتلت وحدها 51 يوماً. لم تستسلم أو تنكسر إرادتها. هزمت عدوها بدماء أطفالها وبسالة مقاومتها، بجدران منازلها، ومآذن مساجدها المدمرة، باحتضان أجراس كنائسها آذان الصلاة. ولم تستطع قوة نار عدوها الغاشمة أن توقف تتابع موجات بحرها. استمر أطفال غزة الذين ارتقوا إلى السماء من بين حبات رمل البحر، يحرسون أقرانهم في لعبهم وجدهم وهزلهم. واستمر البحر ينبض بالحياة، ويهرع إليه أهلها يغسلون فيه ذنوبنا نحن. يتأملونه وقت الغروب، وهو يحتضن الشمس في أعماقه، ليهيئها لإشراقة يوم جديد.
لكن، غزة قاتلت وحدها. لم يشاركها في قتالها ومجدها أحد. قاتلت دفاعاً عن حق كل أطفالنا بغد آتٍ، يحمل في طياته الأمل والحرية. قاتلت منفردة عنا جميعاً، وتحملت عبئنا جميعا. لم تقاسمنا آلامها وجراحها، وحجارتها المتناثرة، ورائحة البارود الذي لوث هواءها. اكتفت منا ببعض المراسم والكلمات، تشابه التي نقولها عند زيارة بيت شهيد أو سرير جريح. كلمات، على أهميتها، لا تغني عن مبضع الجراح، أو رب العائلة المقاوم الذي ارتقى إلى السماء ليراقبنا منها، ويسأل: ماذا سنفعل في الجولة المقبلة؟
هي جولةٌ مضت من حربٍ طويلة، مستمرة استمرار العدوان والاحتلال، وجولة أخرى تلوح بوادرها في أفقٍ ليس بعيداً. جولة لا ينبغي لغزة فيها أن تكون وحيدة. ما نقوله، هنا، لا ينطق عن هوى، أو ينم عن عاطفة، بقدر ما هو استخلاص لعبر وتجارب، ومحاولة لاستخلاص شروط النصر القادم.
في هذه الجولة، تأكد ما استقر من جولاتٍ سابقة، بدأ من 2006 في لبنان، ومروراً بمعارك غزة، من أن استراتيجية الحرب الخاطفة التي كانت (إسرائيل) تحسم الحرب فيها خلال أيام قد انتهت إلى غير رجعة. وأن الطائرة والدبابة لا تحتل أرضاً، ولا تقضي على مقاومة يحتضنها شعبها. قدّر الخبراء العسكريون من (الإسرائيليين)أنهم يحتاجون من ستة أشهر إلى سنة لاحتلال غزة ودحر المقاومة. في المعركة، لم يتوغل الجيش (الإسرائيلي) سوى مئات الأمتار تكبد فيها خسائر فادحة، وعند إعلان الهدنة الأولى، سارع إلى الانسحاب خلف الحدود، في سابقه أولى في تاريخ الحروب العربية (الإسرائيلية). أما الجيش البري فقد أنهكته الانتفاضتان الأولى والثانية، عندما حولتاه إلى وحدات لشرطة مكافحة الشغب، وأرهقه الإهمال الناتج عن الاهتمام بسلاح الجو، وقوة النار الهائلة، وإدخال التقنيات الحديثة التي تحول المعركة إلى ما يشبه لعبة (بلاي ستيشن)، يقودها الضباط من خلف أجهزة الحاسوب، بعد أن كانوا أمام الجنود في جبهات القتال.
الدرس الأول إذن: لم يعد الجيش (الإسرائيلي) قادراً على التقدم، وعلى التوسع، وعلى احتلال أرض جديدة، إذا ما ووجه بمقاومات (حركات أو جيوش) تستند إلى حاضنة شعبية.
“على السلطة الفلسطينية أن تنضم فوراً للمنظمات الدولية والمطالبة بمحاكمة العدو ومقاطعته. |
الدرس الثاني أنه لا يجوز في أي حرب مقبلة أن تترك غزة وحدها. من الواجب الاستعداد لمواجهةٍ شاملةٍ، تستند إلى أكثر من جبهة في الوقت نفسه، وعلى الأقل الجبهة الشمالية وجبهة الضفة الغربية في الظروف الراهنة. الضفة الغربية وفلسطين التاريخية ليسا في موقع المتضامن ولا المتعاطف، هما في قلب المعركة. ويمكن القول إن المعركة المقبلة ستنشب عندما تهب غزة وقوى المقاومة الأخرى لنجدة الضفة والقدس، وحمايتهما من الابتلاع والتهويد. معركة الضفة وتهويد القدس بدأت فعلاً، وانتفاضتها وهباتها الجماهيرية ومختلف أشكال المقاومة فيها يجب أن لا تتوقف، منذ الآن، وحتى يحين موعد المعركة الكبرى. إذ لن يحمي الضفة الغربية إلا مقاومتها، وشن الحرب ضد العدو، والعمل على عزله في كل الجبهات الدولية. على السلطة الفلسطينية أن تنضم فوراً للمنظمات الدولية والمطالبة بمحاكمة العدو ومقاطعته، ولا يجوز مقايضة هذا الإجراء إلى ما بعد التقدم بمبادرة فلسطينية جديده للانسحاب (الإسرائيلي)، قد يستغرق نقاشها والتفاوض حولها سنوات، والنتيجة معروفة سلفاً لكل ذي عقل وبصيرة، إتاحة الوقت للعدو لابتلاع مزيد من الأرض الفلسطينية.
ثمة أهمية كبرى لتنسيق المعركة مع الجبهة الشمالية، وتحديداً مع المقاومة في لبنان. في الحروب العربية (الإسرائيلية)، كانت جبهة العدو الداخلية خارج المعركة. بدأت هذه المعادلة تختل، اعتباراً من حرب لبنان 2006. وفي حرب غزة 2014 بقي خمسة ملايين (إسرائيلي) قرب الملاجئ 51 يوماً. العدو كان يقدر أن في غزة عشرة آلاف صاروخ، بينما في لبنان مائة ألف صاروخ. فلسطين بأسرها تصبح تحت مرمى صواريخ الجبهتين. مع استنزافه في الضفة، ستتكتل فرصة حقيقية، لتحقيق تقدم نوعي في الحرب، ولاستهداف بنيته التحتية، والأهم لتحييد مصدر قوته النارية الكبرى المتمثل بسلاحه الجوي. لن تستطيع المقاومة أن تنافس هذا السلاح، ولا أن تشل فعاليته عن طريق منظومات دفاع جوي، لكنها تستطيع أن تفعل ذلك بقصف مطاراته وقواعده الجوية. ثمة فرصة حقيقية أن تكون المعركة المقبلة إذا جرت على هذه الوتيرة، بداية العد العكسي لدولة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
هي مهمة ليست سهلة، وتحتاج إلى بدء الإعداد لها، على المستويات، الجماهيري والعسكري والسياسي، والأهم البدء في إعداد المناخ الكفيل بتحقيقها. وفي مقدمته نبذ الخلافات المذهبية، والانسحاب من الحروب الجانبية. هي مهمة تحتاج، أولاً، وقبل كل شيء، إلى إعادة فلسطين وقضيتها، وطبيعة الصراع مع العدو الصهيوني إلى مصاف التناقض الرئيس الذي يجمع ولا يفرق، ويشكل البوصلة الهادية إلى الطريق المؤدي إلى القدس. ولعل إعادة الصراع مع العدو الصهيوني إلى مركز الصدارة في أولوياتنا العربية يساهم في حل الانقسامات المستعرة في صفوف التيار القومي والإسلامي، ويحارب التطرف والانقسام المذهبي والطائفي والاستبداد والفساد وتفتيت المنطقة إلى دويلات ودواعش، عبر معركة واحدة لا تتجزأ.
دروس لحرب مقبلة – معين الطاهر