دقيقة صمت…وحرب على ضحايا القوارب المهاجرة! – عبداللطيف مهنا
لم تك أوروبا في يوم من أيام تاريخها مضيافة للآخر، ولا كانت قابلة له، ولا حتى تمتلك القدرة على عدم معاداته. بل إن جغرافيتها غير المترامية نسبياً مقارنة بسواها من قارات المعمورة، قد حفلت على مدار تاريخها بتلاطم ساكنيها وتدافعهم واحتراباتهم المتواصلة، والتي ازال بعضها فيها بعضها من على وجهها، أو ابتلع كبيرها صغيرها، واستورث قويها مستضعفها…ظل هذا ديدنها المرافق لتاريخها إلى أن اختتمته لاحقاً بمقتلتيها العظميين المسميتين ظلماً بالحربين الكونيتين الأولى والثانية، وفقط في مسافة زمنية لم تزد على النصف الأول من قرننا المنصرم. هاتان المقتلتان الرهيبتان اللتان لتفادي تكرارهما ارغمت القارة العجوز نفسها على توحُّد بات بالنسبة لها ضرورة استقرار…توحُّد تسيِّجه المصالح وتضمنه حاجتها لتفادي ما قررت بوحدتها أن تتفاداه.
هذه مقدمة أرى أنه لابد منها لكي نفهم مثل هذه المفارقة المتضمنة لكل هذا المدى الذي لايحد من النفاق الإنسانوي الزائف والمتستر على تليد عدوانية متأصلة تجاه الآخر تجلى في احتشاد وصف بالطارىء لما لايقل عن 41 وزير خارجية وداخلية لدول الاتحاد الأوروبي في اللكسمبورغ تمهيداً لقمة لحقت لزعمائه في بروكسل، ولأمرين نقيضين: الأول، الوقوف دقيقة صمت اسفاً على ضياع ارواح ما قارب التسعماية ضحية من ما يسمونهم في القارة بالمهاجرين غير الشرعيين، الذين ابتلعتهم مياه البحر الأبيض المتوسط على مقربة من الشواطىء الليبية واليونانية الاسبوع الماضي. والثاني، خروج محتشدي اللكسمبورغ “المصدومون” لهول هذه الكارثة الإنسانية، وبالإجماع، بخطة من عشرة محاور قُدِّمت لقمة بروكسل فأقرتها وتعني مجتمعةً إعلانهم لحرب ضروس لاهوادة فيها على القوارب المتهالكة الحاملة اليهم هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين، مردوفةً بتنظيم عمليات ترحيل جماعية وسريعة لمن وصلوا أحياءً ولا يُقبل لجوءهم…المهاجرون الشرعيون عندهم فحسب هم المستثمرون ورجال الأعمال والعلماء وما يحتاجونه من أيدٍ ماهرة ومؤهلات يسدِّون به نقصاً لايتوفر لدى مصانعهم ومؤسساتهم.
هذا الوقوف الأوروبي دقيقة صمت اجلالاً لأرواح ضحايا مقبرة المتوسط فاغرة الفاه، مشفوعاً باعلان الحرب على قواربهم المتهالكة، ولهدف واحد وجلي هو وقف الهجرة لاوقف الغرق، أو ردع اللاجئين وتجاهل وجوب انقاذهم، سبقته حملة تمهيدية إعلامية مركَّزة على المهربين حصراً، أو “تجار الرقيق الجدد”، مع اغفال تام لأسباب هذه الهجرة ومدى اسهام ومسؤلية الغرب اجمالاً في خلقها، ثم جعلها لاشرعية وبالتالي تحويلها إلى مقتلة بإحجامهم عن تنظيمها، وتبرير التشدد حيالها بتزايد المنسوب الضاغط من المزاج الشعبي المعادي للمهاجرين، وتنامي ظاهرة الصعود اليميني في القارة، أوهذه الذرائع التي لاتعدم بعضاً من صحة لكنما لاتكفي لتبرير تشددهم .
قبل رفع منسوب التشدد حيال المهاجرين، واعلان الحرب على قواربهم، تحت يافطة الحرب على المهرِّبين و”تجار الرقيق الجدد”، كانت قد انتصرت لدى الأوروبيين فكرة “دعهم يغرقون”، أو عملية “تريتون”، أو حماية الحدود الأوروبية، التي ستقودها وكالة “فرونتكس” المختصة بهذه المراقبة، على سابقتها عملية “ماري نوستروم”، أي “بحرنا”، التي تعني البحث عن قوارب اللاجئين وانقاذهم، بمعنى اعتمادهم للوصفة الفرنسية بديلاً للإيطالية، التي كان الألمان “يعتبرونها دعوة مفتوحة للمهاجرين” ، الأمر الذي يفسر تضاعف عدد ضحايا القوارب الغارقة ثلاثين مرة عنه في العام الماضي، إذ بلغ عدد الغرقى في الأربعة اشهر المنصرمة فحسب 1500 ضحية.
…بقى أن نشير الى أن 24 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي كن قد رفضن مراجعة اتفاقية “دبلن2” التي تفرض على بلد الدخول المسؤلية عن داخليه من المهاجرين وعن اعادة من يرفض طلب لجوئه من حيث أتى، الأمر الذي يثقل كاهل هذه الدول، لاسيما وأنهن إما دول الجنوب التي تتخبط في ازماتها الاقتصادية، أو دول البلقان الأكثر فقراً في القارة، وهو ما يدفعهن في الغالب إلى غض الطرف عن عابريهن لإدراكهن أنهن لسن مقصداً لهؤلاء البائسين وإنما مجرَّد محطات عبور إلى حيث بلدان اغنياء القارة ومتخميها شمالاً.
والآن وبعد أن ذرف اوروبيو لوكسمبورغ دمعة نفاق عجولة على ضحايا القوارب الغارقة واعلنوا الحرب الشاملة على ما لم يغرق منها بعد في بروكسل، داعين للقيام “بجهد منهجي لأمساك وتدمير السفن المستخدمة من قبل المهرِّبين”، عبر ما كان قد دعاها مفوض الهجرة في الاتحاد الأوروبي عمليات “عسكرية مدنية”، يمهِّد لها توسيع مهمة “فرونتكس” لتتعدى المياه الإقليمية الأوروبية الى الدولية، بمعنى الليبية، فقد تفاوتت الاجتهادات الأوروبية في هذا السياق بين من دعى لعمليات عسكرية محدودة الأهداف ضد المهرِّبين وفق انموذج الحرب على داعش، كالإيطاليين مثلاً، والداعي لملاحقتهم حتى في عمق القارة الأفريقية، كالبريطانيين، وهكذا…
إذا ما شئنا تصنيفاً لمرتادي قوارب الموت في مهلكة المتوسط، أو ضحايا موسم الهجرة الى الشمال غير المضياف، نجدهم في المجمل إما افارقة القوا بأنفسهم إلى التهلكة هرباً من جوع، أو عرباً وافغاناً يفرون من جحيم فتن وحروب اشعلها الغرب ورعاها في ديارهم، بدءاً بغزو افغانستان، وتدمير العراق، والحرب المستمرة على سورية، وهدم الدولة في ليبيا، دون أن ننسى جريمتهم المستدامة في فلسطين بافتعالهم للكيان الصهيوني…بمعنى أنهم جميعاً ضحايا هذا الغرب الإستعماري، الذي ولقرون ولا يزال، يمتص دماء مستضعفي شعوب وأمم الأرض، والسبب المباشر لكل راهن الويلات التي تدفع بضحايا “دعهم يغرقون” لإلقاء أنفسهم في يم الوقوف دقيقة صمتّ!!!