دور المنظمات الإقليمية في المشهد اليمني – الدكتور عادل عامر
يقع اليمن ضمن الإقليم الخليجي إلا أن الاهتمام على مستوى مجلس التعاون ما يزال يحمل بعض التردد أحياناً تجاه الانخراط في مزيد من الاهتمام بما يجري في اليمن، مع أن دول الخليج العربي ليست بعيدة جغرافياً عن اضطرابات المشهد اليمني. فاليمن لديه حدود مشتركة مع الإقليم الخليجي، وهو يكتسي بالنسبة لنا أهمية كبيرة، والاستمرار في تجاهل أحداث اليمن يعتبر أحد مصادر الخطر المحدقة بالمنطقة الخليجية.
إن الدولة اليمنية تعاني من متاعب ومصاعب اقتصادية، وتدهور اليمن يشكل أحد التحديات الجسيمة التي تواجه مجلس التعاون الخليجي، وقد يكون التردد لدى بعض دول الخليج العربي في انتشال اليمن تعبيراً عن عدم انسجام بعض السياسات الخليجية التي مازالت تعمل وفق آليات تقليدية لا تأخذ في الحسبان المتغيرات الدولية التي تتشكل حالياً في الحرب ضد «داعش»، والإرهاب الذي يجتاح العراق وسوريا.
. وأصبح اليمن أيضاً من الدول التي تواجه تفاقم امتداد الإرهاب وخلاياه. والراهن أن التردد الخليجي يعبر عن غياب رؤى مستقبلية في التعامل مع التداعيات، ونعتقد أن اليمن مرشح لمزيد من الفشل، وقد يتحول إلى مركز استقطاب لـ«داعش» بعد خروجها من العراق، وهذا ما يشكل أحد أكبر التحديات الإقليمية. وقد لا يكون المطلوب في هذه المرحلة ضم اليمن إلى مجلس التعاون بقدرما هو مطلوب وضع آليات ورسم سياسات مشتركة تساعد اليمن على الخروج من الأزمة، والحد من التدخل الإقليمي في الشأن المحلي، أما انتهاج سياسة اللامبالاة فقد يغرق المنطقة في مزيد من التمزق والاضطرابات وخصوصاً أننا نتذكر المحاولات السابقة في البحرين التي كانت تهدف إلى زعزعة أمنها واستقرارها والتي انتهت بالفشل. ويبدو أن الفشل في البحرين أدى إلى التوجه نحو اليمن باعتباره دولة تعاني من الانقسامات القبلية وضعف السلطة المركزية. كما أن تنظيمات الإسلام السياسي تتمتع بقوة الانتشار والتنظيم في المشهد اليمني، وهي تستغل الظروف الاقتصادية في تثبيت مواقعها، وهذا ما يهدد الإقليم الخليجي بأكمله. ونعتقد أن السياق الإقليمي يدخل الآن مرحلة جديدة تشكل منعطفاً تاريخياً وخصوصاً أن بعضاً من ملامح الاضطرابات باتت واضحة في هدفها من حيث زعزعة استقرار هذا الإقليم.. وفي المقابل التحرك الخليجي المشترك ما يزال بعيداً عن فهم طبيعة المتغيرات الإقليمية والدولية في تشكلها الجديد، حيث يشن العالم الحرب الجديدة على «داعش» باعتبارها الخطر الأكبر الذي يهدد الجميع. والدول الخليجية معنية بالدرجة الأولى بوضع تصورات عملية تتسم بالجرأة لصد أية محاولات إيجاد أرضية لصراعات مخطط لها، يراد منها إضعاف بعض من دول الإقليم الخليجي قبل حوالي 54 عامًا، خاضت اليمن حربًا أهليّة دارت بين حكومة صنعاء (الجمهورية الجديدة) المدعومة من مصر (عبد الناصر) ضد المسلحين من أنصار “المملكة المتوكلية اليمنية الزيدية” المدعومين أيضًا من المملكة العربية السعودية وبريطانيا، وبعد سّت سنوات من الحرب الدامية، التي فقدت فيها مصر 26 ألفًا من جنودها (من 70 ألف جنديّ)، انتصرت الحكومة اليمنيّة وانتهت الملكية الزيدية وأعلنت الجمهورية في اليمن، ولكن بقي الوجود الزيدي منتشرًا على تخوم العاصمة وقرب الحدود مع السعودية التي هرب إليها الإمام الزيدي.
ولم يكن الدعم السعودي حينئذٍ للإمام “المتوكل” -كما يقرأه بعض المحللين- سوى مناكفة لعبد الناصر في ذلك الحين ورفض للنفوذ المصري قرب حدود المملكة، ولذلك كانت حرب اليمن حربًا بالوكالة بين مصر وحلفائها والسعودية وحلفائها.
أما اليوم، فقد اختلفت الخطوط العريضة للصراع الدائر في اليمن، فالمتمرّدون الحوثيون (يتبعون المذهب الزيدي وهناك قراءات تؤكد تحولهم للمذهب الأمامي الشيعي) يحتلّون صنعاء وسط توافق مشابه في المصالح بينهم وبين السعودية في الشمال، وتحالف مذهبي مع الإيرانيين، وانسجام مع مصالح مع أمريكا والغرب الذي بدأ يتماهى مع الخطط الإقليمية لاحتواء ثورات الربيع العربي.
ومثلما كانت الحرب القديمة في اليمن تدور بالوكالة بين وكلاء لمصر والسعودية وبريطانيا، تحول الصراع مرة أخرى -خصوصًا بعد الثورة اليمنية والربيع العربي- إلى “حرب بالوكالة”، بين إيران وأمريكا والدول العربية المضادة للربيع العربي من جهة، وبين القوى الثورية والإسلامية وبعض قادة الأحزاب والجيش (الذين يعتبرهم بعض الباحثين جزءًا من حالة الفساد والاستبداد في النظام السابق)، ولكنهم انحازوا إلى الثورة الشعبية وقاموا بحمايتها، مستفيدًا ممّا يجري على الأرض من احتلال “حوثي” للعاصمة وتحقيقهم نفس الأهداف التي يريدها التحالف الإقليمي الفارسي الأمريكي المدعوم بصمت أو رضا خليجيّ. أعداء الأمس أصبحوا أصدقاء اليوم
وكما يقول إيان بلاك في صحيفة الجارديان الأحد 21 سبتمبر تحت عنوان: A guide to Middle East politics in 2014: «أعداء الأمس (أمريكا وإيران) أصبحوا أصدقاء اليوم بسبب توافق مصالحهم في مناطق مختلفة مثل العراق واليمن طالما أنّ مصالحهم تجتمع ضد الآخرين”، وحتى ولو ظلّ الإيرانيون والأمريكيون مختلفين لمدة 35 عامًا، فتبادل المصالح الآن في العراق واليمن يجمعهم سويًّا».
صحيفة «المونيتور monitor» الأمريكية قالت أيضًا يوم 20 أغسطس الماضي تحت عنوان: «Saudi Arabia seeks Yemen reconciliation to subdue Houthis» أو: (السعودية تبحث عن تحالفات يمنية لإخضاع الحوثيين) إن: «السعوديّة تحاول ترتيب الوضع السياسيّ في اليمن من جديد تحت لافتة المصالحة الوطنيّة، في الشكل الذي تطمح إليه، ولكنها سعت إلى بعض التناقضات هي: إضعاف الإخوان بعد اعترافها بالحوثيّين كقوّة محليّة، لكن ليس بالقوّة التي تقلق حدودها وحضورها داخل اليمن، والنتيجة حتّى الآن هي إضعاف الإخوان وصعوبة احتواء الحوثيّين الذين أصبحوا أقوى، وهو مشهد يلخّص الكثير حول مدى الدور السعوديّ المتراجع باستمرار في اليمن».
وسبق هذا تقرير للكاتب البريطاني ديفيد هيرست في صحيفة الجارديان البريطانية نوفمبر 2013 الماضي، يؤكد فيه أنّ السعودية تدعم الحوثيين في اليمن؛ “لضرب الإسلام السياسي في المنطقة، بما في ذلك حزب الإصلاح الإسلامي الذي تجد فيه السعودية خطرًا كبيرًا وجامحًا”. وبحسب هيرست، فإن «الحوثيين يتلقون دعمًا ماليًّا وعسكريًّا من السعودية، وحول سرّ استمرار الدعم السعودي للحوثيين رغم أنهم كانوا محسوبين على إيران، قال مصدر سعودي إن «المملكة لا ترى في الحوثيين أو الشيعة أو حتى إيران خطرًا عليها، بقدر ما أنّها تعتبر بأن الخطر هو الإخوان المسلمون في مصر والتجمع اليمني للإصلاح في اليمن».
منذ بدء جماعة الحوثي الاعتصام بالعاصمة (22 آب/ أغسطس 2014) بنصب عشرات الخيام في حديقة الثورة بالقرب من الوزارات المختلفة، استجابةً لـ «التصعيد الثوري» الذي أعلن عنه زعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، وهم يؤكدون أن تحركاتهم “ستكون سلمية ولن نستخدم فيها السلاح، وكل المحللين العسكريين يستبعدون اقتحامهم العاصمة صنعاء بالسلاح، فما الذي جرى؟.واقع الأمر أنه رغم هذه التصريحات، فقد كانت التحركات العسكرية مستمرة، ويبدو أنها وفق مخطط هدفه الوصول للسيطرة على العاصمة عسكريًا، فالجماعة بدأت بمحاولة السيطرة على مدينة عمران التي تعدّ المفتاح الرئيس لصنعاء ودخلتها بالفعل، وأيضًا السيطرة على جبل الصمع في مديرية أرحب لأنه يطل على العاصمة صنعاء، وتحديدًا على مطار صنعاء الدولي.
وكانت خارطة المواجهات التي يقودها ويخوضها الحوثيون في شمال شرقي اليمن موجهة بالأساس للقوى التابعة لحزب الإصلاح، والمؤسسات التابعة له وقبيلة الأحمر التي يتقلد أعضاؤها مناصب في الجيش والحكومة، فضلًا عن المؤسسات الإعلامية لبث بياناتهم منها، وهي كالتالي:
معارك مع القبائل وحزب الإصلاح في محافظة الجوف بشرق البلاد – معارك مع حزب الإصلاح والقبائل في منطقة أرحب بمحافظة صنعاء شمال العاصمة – معارك طاحنة مع السلفيين في منطقة دماج بمحافظة صعدة – معارك أخرى في ذات المحافظة مع رجال القبائل، وتحديدًا في منطقة كتاف – ومعارك أخرى مع قبائل حاشد في محافظة عمران .
ولهذا، عندما اقتحم المسلحون الحوثيون صنعاء من الجنوب كانت وجهتهم هي أهداف ومقرّات أحزاب إسلامية مناوئة لهم، وقوى ثورية يمنية، ما أثار تساؤلات حول ما إذا كانت هناك اتفاقات مسبقة وقعتها أطراف إقليمية ودولية معهم -بالوكالة- مقابل تقديم تنازلات (مكاسب) لهم في اليمن على غرار ما فعله حزب الله في لبنان عندما اعتصم وحصل على وزارات بعينها في الحكومة اللبنانية لاحقًا تمثل قوته العسكرية. ولم يكن مستغربًا، بالتالي، أن ينتهي الأمر بسيطرة ميليشيات الحوثيين بالكامل على حيّ صوفان واقتحام معظم المنازل التابعة لأولاد الأحمر وقيادات سياسية في حزب الإصلاح واحتلال مقرّ جامعة الإيمان التابعة للشيخ عبد المجيد الزنداني، وباقي المصالح الحكومية في ظلّ تراخي الشرطة وكثير من وحدات الجيش.
كما أعلن ناطق الحوثيين محمد عبد السلام أنّ مليشياتهم قامت بالاستيلاء الكامل على مقرّ المنطقة العسكرية السادسة (الفرقة الأولى مدرع المنحلة)، وهو ما نفاه الجيش، وقالوا إنّهم يعتبرون أنّ علي محسن الأحمر مطلوب للعدالة، فضلًا عن السيطرة على مجلس الوزراء واستقالة رئيس الوزراء محمد سالم باسندوه، كي يخلوا الطريق لحكومة جديدة (وفق الاتفاق الجديد)، رغم أنّ رئيس الوزراء شريك مع الرئيس هادي في الحكم بموجب المبادرة الخليجية لليمن. والأغرب أن يأتي هذا الهجوم بعد إعلان مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى اليمن جمال بن عمر أنّ الحكومة والحوثيين الشيعة المسلحين توصلوا إلى اتفاق (السبت) لإنهاء أسوأ قتال شهدته العاصمة صنعاء منذ سنوات، إضافة إلى تصريح عبد الملك الحوثي أن ممثلين عنه قد يصلون العاصمة من محافظة صعدة (الأحد) للتوقيع على اتفاق إنهاء الأزمة، ليفاجأ الجميع بوصول المسلحين لصنعاء، ثم التوقيع على الاتفاق بعد سيطرة الحوثيين على العاصمة تقريبًا عسكريًّا.
ويبدو أن الأهداف الرئيسة لاجتياح صنعاء تم تحديدها مسبقًا وبالاتفاق بين أطراف اللعبة، وأهم هذه الأهداف هي: تصفية جميع قيادات جماعة الإخوان المسلمين العسكرية والقبلية، كما أنّ هناك غموضًا يكتنف مصير القيادات السياسية لحزب الإصلاح (اليدومي، والإنسي، والزنداني، وصعتر وغيرهم) ما بين الاختفاء أو الخطف أو القتل.
ورغم أن اتجاه المعركة تغير نسبيًّا في اليمن بعد مساندة قوات من شباب القبائل للجيش في العاصمة وتوجيه ضربات موجعة لميليشيات الحوثي، ما دفعهم للانسحاب من بعض المواقع التي سيطروا عليها وتسلم الحرس الرئاسي لها مثل جامعة الإيمان ومقر الفرقة السادسة ومجلس الوزراء، فقد فوجئ الجميع بتصريح لوزير الداخلية والدفاع بعدم مواجهة الحوثيين، ما جعل الحوثيين يسيطرون على باقي المنشآت الرسمية دون قتال وسط تغريدات يمنية تقول إنه يجري الآن تسليم اليمن للحوثي. إذا كان من شأن استقرار اليمن واستمراره على مسار التحول نحو الإصلاحات تعزيز نمو الاقتصاد وبالتالي مساعدة دول كالمملكة العربية السعودية على معالجة ملف الأيدي اليمنية العاملة وما يرتبط به من مخالفات وإشكالات قانونية واقتصادية وأمنية، والدول المانحة على توفير ما تقدمه من دعم مالي غير مرتجع لحل أزماتها الداخلية، فإن هذه القوى ستكون حليفا إستراتيجيا لهذه الدول للسير باليمن نحو الإصلاح والاستقرار السياسي. وفي العموم فإن على القوى الإسلامية بمختلف فصائلها أن تكون هي القوى الرافعة للتغيير والطاقة المسيرة لعجلة الإصلاح؛ وأن تخرج تياراتها عن مرحلة الخلاف والتنازع السابقة إلى مرحلة من التعاون والتحالف على أسس مشتركة وقواعد ناظمة، وأن تتجاوز السكون إلى الفعل الإيجابي البناء. فالإسلاميون في أي بلد عربي هم محور وقطب المجتمع فإذا ما اتفقوا فإنهم قادرون بالفعل على التأثير ورسم المشهد الجديد، والواقع المصري في مرحلة الانتخابات السابقة شاهد على ذلك.
كاتب المقالدكتور في الحقوق و خبيرفي القانون العام
ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية والاقتصادية
عضو والخبير بالمعهد العربي الاوروبي للدراسات الاستراتيجية والسياسية بجامعة الدول العربية