ذكريات من “محل” والدي أبو جمال حمد – الحلقة الأولى
بعد أيام قليلة تحل الذكرى الثالثة لوفاة والدي محمد أحمد حمد – أبو جمال حمد- حيث توفي عن 90 عاماً في الرابع عشر من شهر كانون الأول 2018. ووري الثرى في مقبرة سيروب قرب مخيم عين الحلوة.
والدي أبو جمال ولد في مثل هذه الأيام من شهر كانون الأول 1927 في قرية الصفصاف، على سفح جبل الجرمق، قضاء صفد في الجليل الأعلى الفلسطيني المحتل من قبل أعداء الانسانية والحياة، العصابات الصهيونية الارهابية الاستعمارية العنصرية.
درس في مدرسة الصفصاف الابتدائية التي كانت واحدة من المدارس القليلة في ذلك الوقت في قرى الجليل. كان التلامذة يأتون من القرى المجاورة للتعلم فيها أو في جارتها مدرسة الجش.
كما كل أهالي البلدة عمل والدي في مساعدة عائلته بالذات في زراعة التبغ والعناية بأشجار التين والزراعة بشكل عام. كما عمل في ميناء حيفا كما غالبية شباب القرى الجليلية الفلسطينية في ذلك الوقت. بعد ذلك التحق بسلك الشرطة في عكا وتدرب على السلاح، الذي نفعه ونفع الصفصاف يوم معركة الدفاع عنها، حيث لم يكن في البلدة عدد كبير من المتدربين على السلاح. لكن الصفصاف كما كل الجليل وكل فلسطين سقطت بأيدي العصابات اليهودية الصهيونية الغازية، المدعومة من الغرب الاستعماري وبالذات من بريطانيا العظمى التي كانت تستعمر فلسطين.
غادر والدي الصفصاف ليلة سقوطها في 28 على 29-10-1948. كنت شخصياً كتبت عدة مرات عن رحلة العذاب عقب احتلال الصفصاف والوصول الى لبنان. حيث قام أبي بدفن بندقيته في بلدة “بنت جبيل” فقد رفض بيعها بثمن بخس بالرغم من العوز والجوع والتشرد واللجوء والمبيت في العراء تحت الشجر. لازالت بارودة والدي مدفونة تحت سلسلة في أرض بنت جبيل اللبنانية الجنوبية جارة فلسطين المحتلة.
في لبنان مثل غالبية اللاجئين تنقلت عائلة والدي بين عدة قرى وبلدات جنوبية على حدود فلسطين، ثم في بلدات جويا وقانا وبرج الشمالي. في الختام استقرت العائلة في مخيم عين الحلوة عند تأسيسه بداية سنوات الخمسينيات من القرن الفائت. بقي والدي في عين الحلوة حتى وفاته.
لكي يستطيع والدي أن يربينا نحن أولاده الستة، عمل في مجالات عديدة منها الأعمال الشاقة كما كل اللاجئين الفلسطينيين في عين الحلوة وفي مخيمات لبنان. عمل في توزيع الحليب على اللاجئين في مطبخ الأنروا الذي إذا لم تخنِ الذاكرة كان يقع بعد مدرسة حطين التكميلية الجديدة على الطريق الى الكينيات المؤدية الى سينما جمال وباتجاه درب السيم. بالقرب من الكينيات كان هناك مكتب الجبهة الشعبية القيادة العامة ومكتب جبهة النضال الشعبي وغير بعيد عنهم مكتب جبهة التحرير العربية في حي حطين. عند الكينيات لازال هناك منزل ابن لوبية، صديق الطفولة ومقاعد المدرسة والنضال أخي أديب الشهابي، مقابل جبل الحليب.
فيما بعد عمل والدي ومعه عمي علي شقيقه الأصغر سناً في الخياطة وكانا يتقنانها بشكل جيد جداً. فقد كانت من المهن المتتشرة بين اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات بلبنان وبالذات في مخيم عين الحلوة فهو أكبرها.
في طفولتي أذكر أن والدي افتتح دكاناً يشبه المقهى حيث كان فيه بلياردو وألعاباً أخرى للتسلية ثم تطور وصار فيه ماكينات فليبرز. كان شباب المخيم الأكبر مني سناً يتواجدون هناك يومياً. وأذكر منهم الشهداء علي أيوب وسعيد اليوسف ومحمد علي اليوسف والراحل سعيد شريدي (سعيد المَرنية) والمرحوم المخرج نصري حجاج وابن عمتي حسام أيوب والاستاذ خليل شريدي وخالي المرحوم أحمد علي قاسم حمد وآخرين… آخرين لا يمكن ذكر أسماءهم كلهم الآن فأنا أصلاً لا أتذكر الأسماء كلها. ربما صديقي دياب العلي صاحب الذاكرة المتوهجة وهو كان من رواد المقهى في ذلك الوقت من الزمن يتذكر بعضهم. فقد كُنا نتحدث عن ذلك قبل أيام وتطرقنا الى سيرة الصديقين الحميمين الراحلين علي أيوب أو (علي الجشي) كما كان رفاقه يلقبونه نسبة لبلدة الجش، التي كان والده المرحوم سليم أيوب – أبو محمد – مختارها وخرج منها يوم النكبة مختاراً ومات في لبنان مختاراً لكن بلا بلدته الجش المحتلة في شمالي فلسطين. حتى عمتي (المُختارة) خديجة أحمد حمد والدة الشهيد علي لقبوها المُختارة نسبة لزوجها المختار. فيما كان البعض يعرف نجلها المرحوم الأستاذ محمد أيوب – أبو خلدون – صاحب بن أيوب بمحمد المختار نسبة لمخترة والده.
عند الحديث مع دياب ذكرته (بطوشة) وقعت بين سعيد وعلي مع انهما كانا صديقين حميمين ظِلاً بظل وروحاً بروح حتى استشهاد علي أيوب (أبو فراس) في عملية المنارة سنة 1973. لا أعرف سبب (الخناقة) التي شاهدتها. لكن بعدها عادا صديقين مبتسمين ضحوكين كأن شيئاً لم يكن. يومها سألت والدي عن الطوشة بين إبن شقيقته علي وإبن بلدته سعيد. أجابني “شباب طايش، بعد شوية بيرجعوا حبايب… وهذا ما حصل فعلاً”.
أما دياب فقص على مسامعي قصة أخرى عن حادثة حصلت في محل أبي وكان بطلها المرحوم سعيد شريدي وشاب من دار رفاعي من بلدة طيطبا. كانا من ضمن شلة سعيد وعلي ودياب وآخرين. سعيد وعلي كانا يعشقان الحكيم جورج حبش ويحبان الجبهة الشعبية التي انتمى اليها سعيد وناضل في صفوفها وقاتل في العرقوب مع أوائل الفدائيين. كان هناك مقابلة في جريدة المحرر اللبنانية مع الحكيم أبو ميساء، وكانوا يجلسون في محل والدي، الشلة نفسها تقريباً: سعيد شريدي ودياب العلي وخليل شريدي وشخص من آل رفاعي. ذاك الشخص الأخير وهو صديق حميم للجميع، علق على مقابلة وكلام الحكيم بإستخفاف شديد …أترك الكلام هنا عن الحادثة للأخ دياب العلي الشاهد عليها والذي سوف يرويها لنا في الحلقة القادمة.
يتبع