ذكريات ومحطات مع غازي حمد وعامر خليل وآخرين – نضال حمد
صورة مع الرفاق: الى الأخوين المرحومين غازي حمد وعامر خليل والى الأخ الحبيب طارق علي حمد – أبو علي-
كم هي الصورة مهمة في حياة الأمم والأفراد
من سجل العين الحلوة وذاكرة اليرموك
هذه الصورة القديمة التي يعود تاريخ إلتقاطها الى مطلع سنة 1984 جمعت في الزمن الصعب، بعض أبناء مخيم عين الحلوة وبلدة الصفصاف في مخيم اليرموك قرب دمشق، في سورية العروبة. يومها كان مخيمنا لايزال يقبع تحت الاحتلال الصهيوني.ففي الوقت الذي كان فيه أبناء المخيم ومنهم رفاقنا وإخوتنا يقاومونه ويلاحقون العملاء ويقومون بتصفيتهم. حيث في تلك المواجهات المشرفة استشهد بعضهم مثل الرفاق الشهداء: أبو الرووس، سهيل خريبي ومحمود الشامي. فرت قيادات الأفراح والأتراح تاركة خلفها عارها الذي لن يمحى مدى الدهر.
في الصورة التي جعلتني أكتب هذه الكلمات يظهر معي إبن العم الراحل، المناضل الفدائي في سنوات الثورة المستمرة والكفاح المُشرف، المرحوم غازي محمد عبد حمد -أبو العبد-، الذي كان يومها وصل الى مخيم اليرموك قادماً من الإمارت العربية المتحدة. جاء غازي الى الشام لقضاء الاجازة مع الأقارب والأصدقاء. كانت تلك زيارته الأولى بعد فترة وجيزة من استشهاد شقيقه البطل عبد محمد حمد في معركة صد الدبابات الصهيونية الغازية في مخيم عين الحلوة في يونيو – حزيران 1982.
يومها كنت أنا أيضا عائداً للتو من رحلة العلاج فألتقيت في ربوع مخيم اليرموك بغالبية رفاقي وأصدقائي الذين لم ألتقِ بكثيرين منهم منذ بداية الغزو الصهيوني للبنان. هناك إلتقينا من جديد أنا وأخي وصديق طفولتي، إبن عمي، ظل ظلي، ورفيق الشيطنة والصبا والمغامرات الصبيانية والطفولية، طارق علي حمد -أبو علي-، الذي كان يومها بدوره يتعافى من إصابة تعرض لها في معارك الجبل، معارك سوق الغرب وبحمدون ونيوجرسي، المدمرة الأمريكية، معارك تحرير الجبل في لبنان نهاية سنة 1983. كنا نتعكز على بعضنا وأنا أكثر قد تعكزت عليه وعلى الآخرين.
كما إلتقيت هناك برفيق مجموعة ثلاثي أضواء الحارة الصفصافية التحتا في مخيم عين الحلوة، رفيق الصبا والطفولة والولدنة، ومن ثم رفيق الخبرة والعمل والتجربة في الجبهة ومع قائدها الشهيد طلعت أبي يعقوب، الأخ عامر خليل (توفي أبو رامي بعد سنوات من كتابة هذه القصة)… كان العزيز عامر يقيم في مخيم اليرموك بعد الرحيل عن لبنان بسبب الاحتلال الصهيوني. وكنا نلتقي يومياً بلا ملل وكلل وسئم. كأننا عدنا من جديد الى الزمن الشهيد لكن هذه المرة في مخيم اليرموك بدلاً عن مخيم الحلوة.
كما أظهر أنا في الصورة بلحيتي السوداء الطويلة، تلك اللحية التي تذكرنى بحصار بيروت صيف عام 1982. كنت في تلك الأيام قد عدت للتو من ايطاليا حيث تلقيت العلاج في مستشفياتها، في أعقاب إصابتي خلال معركة غير متكافئة مع الدبابات الصهيونية، في أثناء الدفاع عن مخيمي صبرا وشاتيلا في ثاني أيام المجزرة يوم الجمعة الموافق 17-09-1982.
كانت تلك الأيام أياماً صعبة ومُعقدة ومُحزنة، لأننا كُنا بعيدين عن الأهل الذين بدورهم وقعوا مرة ثانية ومن جديد تحت الاحتلال الصهيوني. فهم لغاية ذلك الوقت لم ينسوا احتلال فلسطين والنكبة سنة 1948 وبالتأكيد لن ينسوها ماداموا على قيد الحياة. ها هم يقعون من جديد تحت الاحتلال سنة 1982. ويفقدون الكثير من الأبناء والبنات. إذ سقط في المعارك والمواجهات الشهداء والأسرى والجرحى. بينما لصوص الوطن والمنفى والثورة والمنظمة، جنرالات المصادفة وغالبية ألوية هذه الأيام، فروا من الميادين والساحات. تاركين عبء المواجهة والمقاومة والقتال على بعض شباب وشبيبة وأطفال المخيمات.
كانت أياماً أيضاً جميلة بالرغم من قساوة الغربة وألم الجراح وعذاب الاحتلال ومرارة الرحيل عن بيروت… وفقدان الأصدقاء والرفاق والإخوة وضياع الحلم وأهتزاز كل شيء وأرتجاج عقول الكثيرين، فشراء ضمائر الضعفاء والمتساقطين. وصولاً الى السير خلف الواهمين والفاسدين والمُفسِدِين بِحجةِ الدفاع عن بِدعةٍ كان إبتدعها الذين قادونا الى الهزيمة تلو الهزيمة فمذبحة أوسلو الاستسلامية.
في زمن الخروج من أثقال الهزيمة إلتقينا بغازي العائد مع أحلامه السبعينية من سنوات السبعينيات، التي لم يتخل عنها والتي بقيت تلازمه. أحلام جيل الثورة المستمرة والكفاح، فقد كان غازي حمد مناضلا وفدائيا قضى سنوات كثيرة من عمره في الخنادق والمواقع وعلى جبهات المواجهة. كُنا في سهراتنا نتذكر رفاقنا وإخواننا الشهداء، فكان غازي أكثرنا عودة لهم، ويقسم بقوله برحمة أبو كفاح فهد، برحمة وليد أبو ياسر، برحمة الشهيد فلان والخ…
شخصياً لقد جمعتني بعض المحطات مع المرحوم غازي حمد في مواقع مختلفة مثل النبطية وعين الحلوة. كان غازي رحمه الله دقيقاً وعنيداً في تطبيقاته للقوانين واللوائح الإدارية. حصل أن تسلم في موقع النبطية مسؤولية المستودع حيث كانت تخزن الألبسة والبدلات والبطانيات والغيارات الداخلية والتموين والخ. يومها كنت أنا صغير السن واعتمدت على القرابة التي تربطني بغازي، فكلما إتسخت ملابسي الداخلية كنت أذهب عند غازي وأطلب غيرها. مرة أعطاني وفعل الشيء نفسه في المرة الثانية أما في الثالثة فقال لي: “شو مفكر لأنك بتقرب لي بدك تظلك رايح جاي وتبدل غيارات داخلية… بدل ما ترميها بالزبالة روح أغسلها. ما عاد في إلك غيارات داخلية هنا…”. حاولت جاهداً تغيير قرار غازي لكن دون فائدة. بعدها فكرت بيني وبين نفسي وقلت الرفيق أبو العبد، قريبي غازي حمد معه حق… “على أساس أنا عامل فيها ثائر وفدائي.. لا تستوي الفوضى مع الثورة ولا التبذير والاستغلال مع التثوير والاستقلال”. لذا بعد تلك الحادثة لم أقم لا بالتبذير ولا بالاستغلال… فقد عاقبت نفسي ولُمتها وأدنتها. ثم منذ ذلك اليوم أصبحت شخصاً آخراً يفكر بطريقة أخرى فيها تَعقُل وإحساس ومشاركة بتحمل المسؤولية. جزء كبير من الشكر في ذلك يعود لأبي العبد غازي حمد وقراراته وعناده.
في اليرموك قضينا أوقاتاً رائعة ومسلية ومشوقة مع الراحل فيما بعد أبي العبد غازي والمرحوم فيما بعد عامر خليل – أبو رامي. كذلك مع طارق أبي علي حمد، ومع قريبنا الراحل أبو هشام – محمود حمد – الصيني -رحمه الله. ومع عبد القادر النمر -أبو علي حمد- ومع مروان حمد –الدعم- وشقيقه الأكبر محمد ابو لؤي زوج شقيقة غازي. كما مع الحبيب ماهر حمد -أبو الغضب- شهيدنا الشاب، رحمه الله. كان في بعض الأحيان يسهر معنا العم المرحوم حسين ديب حمد -أبو محمد-. قضينا فترات جميلة مع الأعمام رحمهم الله: العم نمر ديب حمد والعم أحمد ديب حمد والعم الأستاذ أبو حسين حمد – علي حمد – “الخُجا” وعائلاتهم. أيضاً مع كل الأقارب من آل حمد وآل زغموت… وبالذات مع الدكتور محمد زغموت، الذي كان طارق حمد ابن خالته، يقيم عنده على شارع اليرموك، قرب مستشفى فايز حلاوة وفوق محلات روعة وسلامات.
عِشنا أجمل الأيام مع كل الأحبة والأقارب والأصدقاء في مخيم العزة والكرامة والصمود، مخيم الشهداء والعطاء والفداء مخيم اليرموك، الشبيه عطاءا ومكانة بمخيمنا عين الحلوة. فهناك وجدنا مع الأصحاب والأقارب ومع رفاقنا وكل أهالي مخيم اليرموك، الحضن الدافئ الذي احتضننا.
تحية للأهل والأقارب والرفاق والأصدقاء في اليرموك وفي شتاتهم الحالي. فأنتم في البال وفي القلب دائماً. فلا بد من اليرموك على درب العودة الى فلسطين والصفصاف، مهما طالت ليالي العتمة والظلم والعذاب.
نضال حمد – أوسلو في 13- 3- 2014
تم تحديث المقالة في 15 كانون الثاني 2022