راوية شاتيلا.. دموع لا تجف – محمود كلم
راوية شاتيلا.. دموع لا تجف
سميّة، ما تزال شمس شاتيلا والجليل تشرق من مشرقها، وأنت على الضفاف تضعين الروح باقة ورد على الأكف لكل من تحبين هدية وتلمين خيوط الشمس فوق البيوت التي تعبت من فقرها لتصنعي منها مواويل وأغان للصغار وللكبار. فيك عطر مدينة مسحورة.
سميّة، كنت التقيها في غرفتها النظيفة، المرتّبة، في زواريب المخيم، الغرفة حتى الآن حزينة جداً، صامتة جداً. صاحبتها رحلت وتركتها مع ذكرياتها.
عوّدتنا الحياة على الخسارات ولم تعوّدنا ولو مرة كيف يكون الربحُ، فالطريق ما زالت ممتدة والليل، ليل الغربة طويل، وللموت إيقاع يشدُّ المرء إليه ويعصف به. فإذا كان الزوال ضرورة لكل الكائنات الحيّة فما تركته أم ناظم هذه الأم إنما هو دفاع ضد التلاشي. وما يبقى في ذهن المناضل الفلسطيني هو الأم المجاهدة المقاتلة المضحية والضحية. تلك ذخيرة وفرادة نجتاز بها صحراء القيظ والزمن المحدود للأحياء ليبقى فعلاً فاعلاً.
ما أقسى أن يموت الإنسان بعيداً عن وطنه وغريباً عنه.. وهو شاهدٌ على عصره ومؤرخ لأحداثه وباعثُ الجذوة في صغاره، إن الحديث عن شخصية من هذا النوع ليس بالسهل، إنها أشبه ما تكون بالحكواتي، فتاريخ فلسطين التي قطّعت أوصالها وشعبها الذي توزعت قبور أبنائه في أصقاع الأرض تجدها حكايا طرية على لسانها، فكم حدثتني عن فلسطين، حكايتها ظلت عالقة كالوشم في ذاكرتي. سمية أحمد إسماعيل (أم ناظم) 1936 مواليد الكابري – قضاء عكا، لم تجلس على مقاعد الدراسة يوماً، ولا تجيد القراءة والكتابة، منحتها الطبيعة ميزة امتلاك موهبة فن الخطابة، نقدها حاد، لذلك كانت تخشاها معظم القيادات الفلسطينية. تحتفظ بذاكرتها الشابة الطرية باثني عشرة سنة الأولى من عمرها فقط. سميّة أحمد إسماعيل (أم ناظم)، تلك التي ما بخلت يوماً على الثورة الفلسطينية فقدمت ثلاثة من أحبائها شهداء (محمد في تل الزعتر عام 1976، أحمد في حرب المخيمات عام 1985 في شاتيلا، وفيها كذلك خسرت زوجها صالح هاشم). انتظرت 29 عاماً كي تكتمل فرحة العمر برؤية ولدها ناظم العائد من السجون السورية، لكنها رحلت دون أن تراه !. كانت نموذجاً للمرأة الكادحة المناضلة، التي تفتخر بانتمائها للشعب الجبار العظيم صاحب التضحيات، شعب فلسطين. غادرت إلى مثواها الأخير يوم الأربعاء 9/1/2008 في مخيم شاتيلا بعد إصابتها بمرض عضال في الحنجرة.
فماتت وهي تعرف أن هذا الطريق لا بد أن تسلكه يوماً دون خوف ولا تردد. إن يكن أحد قد خسر في موتها شيئاً، فالشعب الفلسطيني وأهل شاتيلا وجدوا في موتها الخسارة التي من الصعب تعويضها في زمن التهافت هذا. لم تتخلف مرةً عن المشاركة في أحزان الفلسطينيين ومصائبهم، كانت هي القاسم الأعظم في ذلك. فمن بدء النكبة إلى الهجرة إلى حرب المخيمات كانت شاهد عصرها على ما يدور خلف كواليس السياسة وكيف تباع الضمائر وتشترى.
اليوم، من سيزور قبور الشهداء الكثيرين يا سميّة. سميّة اسماعيل (أم ناظم)، ترقد بسلام في مقبرة شهداء الثورة الفلسطينية في شاتيلا.
سميّة رحلت، بعد أن بكت شهداء كثيرين !!!
لا الدمعُ بعدك يجديني ولا الألمُ —- ما فاتَ فاتَ فماذا ينفعُ الندمُ.
لن نَنسى يوماً بنتَ فلسطينَ ، وسَتبقى ذكراها خالدة في نفوسنا ما حَيينا.
وداعاً (أم ناظم)، فالكلُّ يأتونَ بعدكِ، وما هي إلاّ فترةُ انتظارٍ بسيطة.