رحلة البحث عن جفرا – فاطمة عبد الرحمن
جفرا…خلف أسوار عكا
جفرا…اختزلت معاني الوطن واللجوء والحب والألم في راحتها…تغنت بها حروف الشعراء والزجالون…جفرا…”ومن لا يعرف جفرا؟ ومن لم يعشق جفرا؟” أسئلة رددها الشاعر الفلسطيني عزالدين مناصرة…
استيقظنا ذات يوم لنعرف بأن عشاق جفرا لا يعرفونها…بأنها كغيرها وقعت فريسة فخ “الشعار”…ضاعت بين أوراق السياسة والقرارت الدولية …وتاهت في أروقة مجلس الأمن …جفرا…إحدى الأرقام في صفحة اللجوء القديمة…فلم يعرفها أحد…ومات عاشقها…فهل نشنق أنفسنا…”ونشرب كأس السم العاري” …!
قصة الـ”جفرا” هي حكاية من عشرات الحكايات التي صنعت وبلورت التراث الفلسطيني, والتي تركت بصمتها في الحياة الثقافية الفلسطينية. هذه القصة التي بقيت طي الكتمان منذ عشرات السنين ستكشف فصولها لأول مرة, في رحلة بحث امتدت من الخليج إلى بيروت إلى دمشق إلى اسكتلندا إلى الدنيمارك, لعلها تحفظ قبل أن تضيع كغيرها من صفحات التراث الفلسطيني.
قرية كويكات
ولدت الـ”جفرا” في قرية اسمها “كويكات” في الجزء الشرقي من سهل عكا ,وهي إحدى قرى قضاء عكا في لواء الجليل الأعلى, وتقع إلى الشمال الشرقي منها وتبعد عنها حوالي 9كم. وتبلغ مساحة قرية “كويكات” 4723 دونما, وقد اشتغل أهلها في الفلاحة والرعي كباقي قرى الجليل الأعلى.
كانت الـ”جفرا” وحيدة أبويها فلا إخوة ولا أخوات, ولم تتلق التعليم, في حين كان أولاد القرية الذكور يتلقون التعليم في مدرسة (كفر ياسيف) القريبة من قرية “كويكات”. وتقول الإحصاءات بأن عدد سكان القرية كان يقارب الـ 1050 في عام 1945، ومتكون من 163 بيتاً.
وتقول الحاجة (هـ.ح) , واحدة من العشرة المتبقين من أبناء قرية “كويكات “من جيل النكبة الأولى حول الحياة في القرية : (( كان أهالي قريتنا يشتغلون بالفلاحة، كان لنا أرض نزرعها بالزيتون. في “ترم” الصيف كنا نزرع البطيخ والتين والصبر والحمضيات و القمح والشعير والحمص والبامية والكوسا والخيار من أرضنا و”برسيم” نطعمه للخيل.كنا نزرعه في أول الصيف وفي شهر 6 نحصدها ثم نضعها على “البيدر”… كنا جميعا فلاحين.
في “ترم” الشتاء كنا نأكل الزيتون الذي حفظناه ونأكل التين الذي جففناه والذي يسمى الـ “قطين”، من خلال وضعه على أسطحة الدور ليجفف وهو موضوع على “البلان” وهي نبتة يسرها الله لنا لقضاء حاجات الناس، هذه النبتة مرتفعة عن الأرض وتحتها مجرى هواء وبذلك يجفف التين وهو معرض للشمس. وكنا نزرع السمسم ونحفظه أيضا للشتاء ونأكله مع “القطين” وكنا أيضا نعتمد على الذرة الصفراء لفصل الشتاء.
شجر الزيتون في قرية كويكات
كان أهالي القرية يملكون الكثير من الدجاج والأرانب ويعتمدون عليها في أكلهم.لكن لم يكن كل الفلاحين يحبون الاشتغال في الزراعة، مع أنهم كانوا يملكون أراضي، فاشتغلوا بالتجارة ومنهم زوج الـ”جفرا”)).
من لم يعشق جفرا …
“الجفرا” لم يكن اسما بطبيعة الحال، وإنما لقب أطلقه الشاعر “أحمد عبد العزيز علي الحسن” عليها تشبيها لها بابنة الشاة الممتلئة الجسم. وقد عرف الشاعر بين أبناء القرية باسم “أحمد عزيز”. أما اسم الجفرا الحقيقي فهو كما تروي لنا الحاجة (هـ.ح) : (( “رفيقة نايف نمر الحسن” من عائلة “الحسن” وامها “شفيقة إسماعيل”. كانت سمراء اللون، ذات ملامح ناعمة، وكانت أمها خياطة تهتم بابنتها الوحيدة وتحرص عليها وتعززها وتكرمها وتظهرها بأجمل حلة. وكان “أحمد عزيز” ابن عمها مفتول العضلات ويحترف قول العتابا والزجل ،تقدم لخطبتها وتمت الموافقة وتزوجوا فعلا وهي في سن الـ16 تقريبا. أما ” أحمد عزيز” فكان في حوالي الـ20 من عمره. وأعراسنا كانت كسائر أعراس الفلاحين في فلسطين، يعزف فيها المجوز والشبابة والدربكة، وكان الأهالي يرقصون الدبكة نساءا ورجالا.
ولم يتوفقا في زواجهما، وأرادت أمها ان يتم الطلاق وطلقت فعلا. ولم يستمر زواجهما سوى أسبوع واحد، ولم يكن الطلاق أمرا سهلا فقد قامت بالهروب، وهو قام بملاحقتها حتى استقرت في بيت أهلها. وتمت محاولات لإرجاع الجفرا لبيت زوجها إلا أنها رفضت ذلك.
بعد ذلك بفترة تزوجت الجفرا من إبن خالتها ” محمد الإبراهيم ” من عائلة “إبريق”. وعندما قطع “أحمد عزيز ” أي أمل في رجوع جفرا إليه شعر بمرارة شديدة لحبه الشديد لها. وكان أهالي القرية يمرون امام بيت الجفرا لأنه يطل على الطريق المؤدية لعين الماء، وكانت هي أيضا تخرج مع الأهالي متوجهة للعين، فكان يقول فيها شعرا كلما رآها وهي في طريقها للسقاية من عين الماء، حاملة جرة من فخار :
جفرا يا هالربع نزلت على العين
جرتها فضة وذهب وحملتها للزين
جفرا يا هالربع ريتك تقبرينــي
وتدعسي على قبري يطلع ميرامية
* اختلف الزجالون حول كلمة “ميرامية”، منهم من استبدلها بـ”بير مية” ، لكننا هنا نورد رواية أهل القرية ومن رافق الجفرا في حياتها).
وقد رزقت الجفرا ونحن في فلسطين بعد زواجها من ابن خالتها بابن اسمه “كامل” وبنت اسمها “معلا”.
أما “أحمد عزيز” فقد استمر بالتشبيب بالجفرا في قصائده وعتاباه ، وجمعها في كتاب أسماه كتاب “الجفرا”.)) وقد لقب الشاعر نفسه بـ”راعي الجفرا”، وذكر الشاعر عز الدين مناصرة بأن الأغنية ولدت حوالي عام 1939، وأصبحت نمطا غنائيا مستقلا في الأربعينات، وانتشرت في كافة انحاء فلسطين ثم وصلت بعد عام 1948 إلى الأردن ولبنان وسوريا.
وقد عرف الشاعر الشعبي “أحمد عزيز” بصوته الشجي الحنون، ومن أغانيه (على دلعونا):
ست الجفاري يا ام الصـنارة
وأخدت الشهرة عاكل الحارة
لوفُت السـجن مع النظـارة
عن كل اوصالك ما يمنعونـا
إجا لعنّا حبــي بــالسهرة
راكب عَ كحيلة ووراها مهرة
واسمعت إنو صارت له شهرة
بقول الغناني وشعر الفنونـا
ويقول الحاج عبدالمجيد العلي في كتابه عن قرية كويكات : (( كان موقع “أبوعلي” (أحمد عزيز) في أول الصف روّاسا على تقسيمات الشبابة ونقتطف من بستانه جفرا ويا هالربع بعض المقاطع:
جفرا ويـا هالربـــع بتصيح يـا اعمـامي
ماباخـــذ بنيّكــم لو تصحـنوا عظامي
وان كان الجيزه غصب بالشـرع الإسلامـي
لرمي حالي في البـحر للسمـك في المــيه
تمنيت حـالي أكــون ضابـط بالوظــيفة
لاعمل عليـها حـرس مع وقـف الدوريـه
وقعد لــها خــدام حتى تـظل نظيـفـه
يظلوا يخــدموا فيها في الصبح وعشـية))
والقارئ للأبيات الأخيرة يلحظ بأن الشاعر “أحمد عزيز” يغني على لسان الجفرا التي رفضته زوجا، ثم لسانه وهو يصف حبه لها.
يا ترى هل ستفرق الغربة بين القلوب المعتقة بالشوق كما فرقت بين الوطن وأبنائه؟ هل تحصد ليالي الغربة السرمدية تلك الأرواح المسافرة في ربوع “كويكات” البعيدة؟ وهل تتسع خيمة اللجوء للحب؟..معاناة اللجوء وتفاصيل الغربة محور الفصل الثاني من تحقيق “رحلة البحث عن جفرا”..إلى ذلك الحين، تصبحون على وطن.
رحلة البحث عن جفرا
هنا وطن الغياب، كل الفرح يمضي , كل بسمة تنزف حتى الموت. الخيمة المهترئة ترتعش كلما رمقتها عين البرد اللعينة…وجفرا تدفئ جدرانها بهمس لطيف يثير غضب الرياح العاتية فتجلدها بسياط الزمهرير والقهر…
ليل الغربة طويل، وما بين بكاء الأطفال وآهات العجائز تقف الجفرا مذهولة أمام هول الكارثة. مرت 10 أيام كما قال “كبار” البلاد، ولم يسمح لأهالي القرية بالعودة بعد. والمسافة بين وطن الأرواح ووطن الأجساد تزداد وتطول. وما زال اللاجئون ملتحفين بدعواتهم و صلواتهم…لعلهم يدركون سراب الوعود.
في بحثنا المستمر عن أي معلومة متعلقة بالشاعر “أحمد عزيز” أو الجفرا، وقعت بين أيدينا وثائق متعلقة بالشاعر “أحمد عزيز” تعود إلى فترة ما قبل النكبة. وهي وثائق تاريخية شاهدة على الحق الفلسطيني، وجميعها كانت في ظل “حكومة فلسطين”.
الوثيقة الأولى هي عقد زواج الشاعر “احمد عزيز” من زوجته الثانية، والتي يبدو أنه تزوجها بعد بضعة سنين من طلاقه من الـ”جفرا”. وتعود الوثيقة إلى الـ29 من شهر مارس عام 1941. وقد تزوج الشاعر بـ”خديجة خليل خالد” وهي أيضا من قرية “كويكات”. وكان أهالي القرى في ذلك الوقت يبدلون من عمر الزوجة حتى تكون أكبر سنا مما هي عليه ، حتى يرضى القاضي بتزويجها!
الوثيقة الثانية شهادة ميلاد ابن الشاعر “أحمد عزيز” الاول واسمه “علي” في عام 1945.
الوثيقة الثالثة “هوية” الشاعر “أحمد عزيز” بتاريخ 1946، وفيها صورته وقد بلغ الـ30 من العمر. وكان الشاعر حلاقا في قرية كويكات.
وقد روى “أحمد عزيز” بلهجته الفلسطينية الجميلة تجربته في وقعة “البروه” وذكرها الحاج عبدالمجيد العلي في كتابه عن قرية كويكات، يقول “أحمد عزيز” : (( شاركت في وقعة البروه سنة 1936. وكان عمري 18 سنة. كان الشيخ عارف حمدان وأبو زعرورة مطوقين في تمرة. وأجانا الخبر أنهم مطوقين.فزعنا. وصلنا إلى الليات، مرقت مصفحة، ضربنا عليها، لمصفحة أعطت خبر للطيارات في تمرة، أجوا الطيارات ورحنا انزلنا على البروه: طيارات تروح وطيارات تيجي: يرموا أزانات علينا وانحشرنا كان معي كتاب قيادي إنه لما تيجي طياره علي لازم أركي على صخرة أو زتونة أعبطها ولا أعمل ولا حركة. في وقعة البروه كنت لابس أواعي الثوار، إنأسرنا في البروه وفي البيوت هناك كانوا يعلقوا على الحيطان أطباق قش، قمت شلحت الأواعي وخبيتها تحت أطباق القش إللي على الحيط. ولمن دخل الإنجليز ما شافوا علي لبس الثوار. أهل البيت كانوا جابوا لي منديل حرير وفستان حرير ولبستها وقعدت بين البنات)).
ويبدو أن الإنجليز سرعان ما كشفوا أمره، يكمل راعي الجفرا : (( أخذونا الإنجليز في السيارة وكان في السيارة وجوه طمره وكانت القيادة عندهم : الشيخ عارف، أبوعلي زعرورة، صالح سليمان، عبدالسلام الحاج، أنزلونا في حيفا وبعدين في عكا. قال المحامي إنه كان ضايع لي جمل ورحت أدور عليه، حكموني 3 أشهر وكل ما تخلص يمددوها.ظليت سنة في المعتقل (منع جرايم) وبعدين طلعت وحملت البارودة، وكان أبو محمود من صفوريه والشيخ سلمان أبوعلي وأبوعلي النجار)).
جفرا…والوطن المسبي
بعد انتهاء الإنتداب البريطاني وخروج قواته بدأت القوات الصهيونية بالاعتداء على المدن والقرى العربية. وكان رجال القرية يقومون بالحراسة بما لديهم من بنادق وعددها حوالي 50 بندقية ،ورشاش (برنغن) واحد. وقد نقم الجيش الصهيوني على أهل القرية بسبب مشاركتهم بمعركة الكابري عام 1947، وقامت قوة منه بأول هجوم على القرية في ليلة 19 كانون الثاني 1948 فصدهم الأهالي ، وليلة 7 شباط قاموا بهجوم آخر وصدهم أهل القرية مرة أخرى. ولم يصب أي من أهل القرية بأذى، ولم يقم الجيش الصهيوني بأي اعتداء بعد ذلك.
وقبل الهجوم الأخير، جرت عدة اتصالات غير مباشرة من قبل الصهاينة بوجود وجهاء وكبار القرية، يدعونهم إلى البقاء فيها والعيش بأمان. رفض أهالي القرية هذا العرض، وقرروا الدفاع عنها والمقاومة، على أمل أن تنجدهم الجيوش العربية. وبدأت قرى تتساقط وحدة تلو الأخرى في معارك طاحنة ،غير متكافئة. وارتكب الجيش الصهيوني مجازر في المناطق التي احتلوها، وقد تردد بين القرى روايات الناجين بأن القوات الصهيونية بقروا بطون النساء الحوامل ومزقوا الأطفال أمام أمهاتهم.
كانت قرية كويكات وأهلها على موعد مع الموت في ليلة الحادي عشر من شهر يناير عام 1948، والذي صادف أول يوم من شهر رمضان. قامت الكتائب الصهيونية “شيفا” و “كرميلي” بالهجوم على القرية في عملية “ديكيل”. وقد دمرت هذه المنظمات الصهيونية المسلحة القرية وشردت أهلها.وفر معظم أهالي هذه القرية مذعورين باتجاه الأراضي اللبنانية. وقد نجحت الجفرا وعائلتها وابن عمها “أحمد عزيز” من الفرار من موت مؤكد، وبدأت بذلك أولى فصول النكبة، والتي لم يتصور أهلها الذين أخبروا بأنهم سيبتعدون لمدة 10 أيام فقط، بأنها ستسمر لـ70 سنة قادمة!
هنا بيروت !
بعد رحلة طويلة وشاقة، وصل معظم لاجئي قرية كويكات إلى بيروت حيث أقاموا في برج البراجنة، ومنهم من لجأؤوا إلى مخيمات أخرى كالراشدية وعين الحلوة …
وتقول الحاجة (هـ.ح) : (( قالوا لنا أن نخرج من القرية لمدة 10 أيام، وقد صدق الناس هذا الكلام وظنوا أنهم سيرجعون. وشيئا فشيئا مرت الأيام وبدأت الأمم المتحدة بتوزيع أماكن للسكن وكانت ضيقة)).
وقد لجأت الجفرا وعائلتها إلى مخيم برج البراجنة والذي أنشئ في عام 1948، على مساحة 104 دونم، ويقع على الطريق الرئيس المؤدي لمطار بيروت. وعاش أهل المخيم ولا زالوا ظروف معيشية صعبة للغاية في مساحة 500 متر طولا و400 عرضا. ويبلغ عدد اللاجئين فيها اليوم ما يقارب الـ20405 لاجئ.
ومع مرور الأيام ازداد المخيم اكتظاظا حتى أن 13 فردا ينامون في حجرة واحدة مساحتها 4*4 امتار، مع انتشار كبير لمختلف أنواع الامراض. وقد شهد المخيم في عام 1985 حصارا من قبل حركة “أمل” ، فاضظر الناس لأكل العشب، وكان مصير أي إنسان يحاول الخروج من المخيم القتل، فأكل الناس القطط والكلاب.
تقول الحاجة (هـ.ح) : (( عاشت الجفرا في مخيم برج البراجنة، وعملت في الخياطة والتطريز كأمها، إلى أن كبر ابنها كامل وتعلم ثم توظف واشترى بيتا في حارة حريك، بعدما ضاق البيت بساكنيه. وقد رزقت بأبناء :كامل ،عاهد ،خليل ،صائب ،مايز. منهم من ترك لبنان ليعيش في كندا وأمريكا الشمالية.))
وقد توفي زوج الجفرا ” محمد إبراهيم العبدالله ” قبل ما يقارب 3 سنوات كما روت لنا الحاجة.
راعي الجفرا
أما “أحمد عزيز” فقد فرقت النكبة بينه وبين الجفرا إذ لجأ إلى مخيم الراشيدية كما تروي لنا الحاجة، بينما قالت روايات أخرة بأنه لجأ إلى مخيم عين الحلوة. وكان الشاعر المناصرة قد التقى بالشاعر “أحمد عزيز” وكنيته “أبو علي” في مخيم عين الحلوة في أواخر شهر شباط عام 1982.
وعن لقائه بالشاعر “أحمد عزيز”، يقول الشاعر المناصرة في كتابه “الجفرا والمحاورات” : (( لقد التقيت أحمد عزيز علي حسن من أهالي كويكات، في مخيم عين الحلوة، وهو من مواليد 1915 تقريباً، وفق “وثيقة اللاجئين الفلسطينيين” التي تصدرها الحكومة اللبنانية، وأجريت معه مقابلات شخصية، في أواخر شباط (فبراير) عام 1982. على شريطين ….. وأحمد عزيز (كما رأيته) إنسان هادئ ووقور وعلى وجهه مسحة من الأسى والغموض. وخلال الحوار استمر يجيب على الأسئلة دون أن يقاطعنا إلا مرة واحدة للصلاة، وقد غنى معظم النصوص، وهو يمتلك صوتاً حنوناً وجميلاً رغم هذا السن((.
وعن كتاب “الجفرا” الذي ألفه يقول “أحمد عزيز” :((أنا أول واحد ألف كتاب عن الجفرا، طلبوني لإذاعة القدس سنة 1944، عشان أغني، كنت أعرف فخري بن عارف يونس الحسيني من أيام وقعة البروة سنة 1936، وكان عمري 18 سنة، ذهبت عند فخري فأوصلني للإذاعة وهناك التقيت يحيى السعودي. فقال لي إنه سيدفع لي 4 ليرات فلسطيني عن كل ربع ساعة أغنيها في الإذاعة. فقلت له إنني أستطيع أن أغني من أول الجمعة إلى آخر الجمعة، فقال لي: سنعطيك ربع ساعة فقط لكل أسبوع، لأن هناك مغنيين آخرين سيغنون أيضاً كل أسبوع))
((أول ما طلّعت الجفرا كان عمري 25 سنة، بعدين طبعت كتاب الجفرا في مطبعة نعيم فرح في حيفا، وبعدين انطبع في عكا عند أولاد البياع، طبعة عكا كانت صورتي على الجلدة.. أنا انشهرت قبل الإذاعة))
وتاريخ الكتاب يعود إلى ما بين 1940-1941، ونقل عزالدين المناصرة في كتابه (الجفرا والمحاورات) عن الشاعر الفلسطيني سعود الأسدي الذي يعيش في الناصرة: ((…لم أعثر خلال تنقيبي عن كتب الشعر الشعبي عندنا إلا على كتاب لأحمد حسن عبد العزيز من كويكات قضاء عكا، والنسخة بدون تاريخ، وقد طبعت في عكا، إلا أن فترتها تخميناً قد تعود إلى أواخر الثلاثينات)).
وبعد احتلال جزء من الأرض اللبنانية في الجنوب والبقاع، وانطلاق المقاومة اللبنانبة ضد الاحتلال الصهيوني كان لراعي الجفرا عدة أغنيات، وقد اخترنا مطلعا منها نقتبسها مما أورده الحاج عبدالمجيد العلي :
جفرتنا يــالهربـــع نزلت عالمديـنة
صارت تغني وتــقول يحيا الفلسطـيني
تحيا يا إبــن لـبـنان يا ذراعي اليمين
يا شريكي بدرب التحرير ضد الصـهيونية
هات سلاحك والحــقني فردك والســكين
تانزل عافلسـطـــين نعمل عمـــلية
وناخذ معنا الـــقنابل شغل بلاد الصين
ونهجم عاموشي داـيان هجمة عربــية
وقبل أن يبدأ بالعتابا يغني كسرة ميجانا:
ناوي بأرض الخصم يا صاحب أمر
وأسقي لاخصم كاسات من علقم أمر
لمن فدائيينا بتتلقى أمر
بينفذوا ولو كان في آخر دنا
اللازمة : أهلا وسهلا شرفونا احبابنا
أراضي بلادنا لازم أمرها وأسقي الخصم كاسا ما أمرها
فدائينا إذا القائد أمرهــا بتهجم عالخصم هجمة ذياب
ومن المفارقات أن اسم “أبو علي الجفرا” غلب على اسم “أحمد عزيز” بعد فترة ، حتى عرفت زوجته “خديجة الخالد” بـ”أم علي جفرا” مع أنها ليست هي الجفرا!
وقد توفي راعي الجفرا “أحمد عزيز” كما أفادنا الكاتب والصحفي الفلسطيني “ياسر علي” في عام 1987 في منطقة الناعمة، في أثناء حرب “مغدوشة” ،عندما انتقلت حرب المخيامات إلى عين الحلوة، بعد عمر من النضال والإبداع والصبر.
مضت 84 سنة ولحظات، وجفرا تنظر حولها بعيون ناعسة ثم تبتسم…وأعلن الخبر ! لم يعرف برحيلها سوى قلة من أهل القرية الذين فرقتهم الغربة..تناقلوا الخبر بهدوء. وصوت يتحسر : رحمها الله ! كانت تحافظ على أناقتها وتمشي بالـ”كعب العالي” حتى آخر أيامها ! وصغير يسأل : أبي! ومن هي الجفرا ؟! وموظف الأونورا يضيف اسما جديدا لقائمة اللاجئين الأموات. وعامل يكتب على لوح من الرخام :
الفاتحة. بسم الله الرحمن الرحيم. وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا.تستريح المرحومة الحاجة رفيقة نايف حماده.أم كامل الجفرة. مواليد كويكات فلسطين 1923. توفيت في 10-1-2007.الموافق 20 ذو الحجة 1427…
عند قبرك ذرفت دموع الصمت
كنت أتسائل طوال هذه الرحلة الفريدة، لو كانت الجفرا وعاشقها يهوديان، فهل كانت لتبقى هذه القصة طي الكتمان حتى نفجع بخبر وفاة جميع أبطال هذه القصة ؟! يا ترى كم من الأفلام كانت ستخرج في هوليوود ، وكم أغنية ورواية وقصيدة كانت ستتغنى بها…
الجفرا الآن ترقد في مقبرة برج البراجنة في بيروت، ماتت في غربة الأرواح بعيدة عن نكهة الوطن…والمخيم الذي عاشت فيه سنين من عمرها اكتظ باللاجئين وتزداد أوضاعهم سوءا يوما بعد يوم. أما قريتها الصغيرة “كويكات”، فقد أقيمت على أنقاذها مستعمرة “بيت عميق” ليهود بريطانيا وأوروبا !
يا ترى كم شخصية ماتت قبل أن ينتبه إلى وجودها أحد ؟ وهل ستبقى “الصدفة” وحدها التي تقرر تدوين ما تبقى من التراث فلسطيني؟! هل ستموت أغاني الجفرا كما ماتت هي ؟ ربما كانت هذه القصة ببعدها الإنساني وغيرها الكثير فرصتنا للخروج من حالة “التعميم” و”الترقيم” التي باتت تلاحق آلام هذا الشعب وشهدائه!
المصدر: