رحلت إيمان سنّو – عماد الدين رائف
رحلت إيمان سنّو، الصديقة المشاكسة، اللطيفة الضاحكة، التي كانت تصبغ بنكاتها العفوية وانتقاداتها الساخرة جلسات فرع بيروت في “اتحاد المقعدين اللبنانيين” بألوان الأمل وحبّ الحياة. أغمضت المناضلة المعوقة البيروتية الصبورة عينيها في زمن مثقل بشتى أعباء الألم، فضمّها ثرى جبانة الشهداء.
ظلمت الدولة اللبنانية جيل إيمان من الأشخاص المعوقين الذين تجمعوا ونهضوا ليطالبوا ببعض حقوقهم، بل بأدنى الحقوق الإنسانية. كان الاتحاد ملاذ إيمان وزميلاتها وزملائها، المنتقلين/ات من عتمة المؤسسات العازلة إلى وضوح الطريق المطلبي سعيًا إلى نيل الحقوق. لقن الرعيل الأول من الاتحاديين في خضمّ الحرب الأهلية جيلَ إيمان أبجدية الدمج، لكن بعد انتهاء الحرب لم تبصر الدولة الراعية للحقوق النور.. خنقتها محاصصات الطوائف وغنائمية زعمائها، فاختنقت آمال ذلك الجيل شيئًا فشيئًا ولا تزال.
أذكر إيمان في لقاءات ونشاطات واعتصامات، في توزيع المناشير التوعوية على الطرق، في الحراك الحقوقي المطلبي وسط بيروت، في اعتصامات نصرة الشعب الفلسطيني الذبيح… لكن أهم ما ينطبع في الذاكرة اللقاءات الاتحادية الداخلية.
لسبب ما كانت تؤمن بشدة بقوة الكلمة المطبوعة. كلما التقينا كان لديها سبب ما للومي، لا أعرف من أين أتى كل ذلك اللوم، ثم أدركت بعد حين أنه نابع من احترامها للكلمة، بعدما تخطت دورات محو الأمية المكثفة في الاتحاد… كانت تشير إلى مسألة ما ثم تنظر إلي مستخدمة لهجة آمرة “اكتب عنها بالمجلة.. اكتب عنها بالجريدة”. ربما كانت تؤمن بأن ما يُكتب عن حركة الإعاقة ومظالم الأشخاص المعوقين يمكن أن يحرّك في المسؤولين شيئًا! كنتُ أكتب حينًا وأنسى أحيانًا، إلى أن أتى يوم لم تبق فيه مجلة أو جريدة! “سكّرت الجريدة يا إيمان”. لم تفهم كيف يمكن لجريدة أن تقفل. أطلقت ضحكة ساخرة ثم صمتت. في المرات اللاحقة التي جمعتنا اختفى اللوم، كانت تنظر إليّ مبتسمة، لكنّ الأسى غضّن وجهها الذي أرهقته السنون.
مرّة، حين أعيد طلاء جدار ملعب بيروت البلدي، وزين بجداريات مختلفة وكانت إحداها للمطالبة بالدمج الاجتماعي للأشخاص المعوقين، التقينا. لم أعرف مدى مساهمة إيمان في ذلك النشاط، لكن وجهها كان مشرقًا وقد لمعت عيناها ببريق عذب. فهذه القطعة من جدار في طريق الجديدة تتحدث بلغتها، لغة حقوقية مطلبية. وهي ابنة الحي، وهذا الحي قلب بيروت الشعبي النابض. ثم مرّ الزمن بطيئًا مليئًا بالنكبات، واهترأ جزء من الجدار واختفى جزء آخر خلف أكشاك مرتجلة، تمامًا كما هي الحقوق في بلد اللاحقوق… لكن إيمان بقيت صابرة حتى النفس الأخير، شأنها شأن حيّها ومدينتها الصابرة على مآسي الدهر.
رحم الله إيمان محمد سنّو، التي ناضلت في سبيل الوصول إلى النور في آخر النفق، لكن دولتها خانتها والأيام خذلتها.
عماد الدين رائف
لبنان ١٥ تموز ٢٠٢٤
نقلاُ عن بروفيل الكاتب، الصديق عماد الدين رائف في فيسبوك