رحل الصديق الغالي يوسف درويش في جنين – ماهر رجا
صورته هذا الصباح أيضاً مازالت هي ذاتها وبابتسامته المحببة، وما من شيء يشي بأنها ستكون صورته الأخيرة وبأنه سيكون منذ أمس غائباً عنها بكل قسوة الغياب ولن يدخل إليها ليطل على كلماته الدافئة ويتفقد حديقته الصغيرة المحيطة بالبيت في جنين.
جاء يوسف الى دمشق قادماً من أسفار متعددة، ولكن في غربة واحدة عن فلسطين. كان قد درس الإعلام في بلد أوروبي.. وفي سوريا عمل في الصحافة الفلسطينية لفترة.. قبل أن يقرر العودة الى فلسطين بعد سنوات.
حين التقيته أول مرة قبل وقت بعيد، تحدث إليّ كصديق قديم فلم أشعر أنني ألتقي شخصاً لا أعرفه من قبل.. كان قلبه في صفاته وكلماته، يقبل على الناس بلا تحفظ إن حدس فيهم شيئاً من طيبته هو.. نقي السريرة بما يستطيع ماء النبع، وفي إيقاع حديثه شيء من المرارة الساخرة، وكانت لهجته الفلسطينية التي تستبدل القاف بالكاف القمحية لم تزل على حالها رغم الشتات بالمقارنة مع لهجتي التي أضحت بلا وطن بعد أن لفحتها ألوان لهجات المدائن وأهلها.
بما يشبه تقاليد الذكريات المقدسة، عادة ما يتعرف الفلسطينيون على بعضهم في اللقاءات الأولى بأسماء قراهم ومدنهم، وقد رأيت زهور الكرمل النادرة في عيني يوسف وهو يخبرني في أول معرفتي به أن قرية أهلي في فلسطين “إجزم” لا تبعد عن بيته في جنين سوى رمية حجر.. تحليق عصفور بين بستانين ومسافة العبور الخاطف للسهول والجبال على الطريق في خيال حصان أو سحابة.
وأذكر أنني قلت له وقتها إن في ذكرياتك عن فلسطين الكثير من الأماكن، من البيوت والأشجار والحكايات بالصور الناصعة والحالمة التي لم نرها بكل هذا الحنين سوى في حكايات الأمهات… وفي رحلة السنوات الطوال التالية بعد ان عاد يوسف الى فلسطين، صعد ذات يوم الدرب من حيفا الى جبل الكرمل، وهناك فتح كاميرا هاتفه على الصورة المفجعة لقرية اجزم.. كان في الصورة امتداد مستوحش من السهول والبساتين ضائعاً في الزمن كالقلاع القديمة.. لم يبق سوى المسجد وبيت من طابقين حجريين لم يهدمه المحتلون كي يجعلوه متحفاً.. فيما وقفت بقية من الجدران المتناثرة بين الحشائش العملاقة التي تشبه حزم رياح هائلة تصعد من الأرض بجانب تجمعات الصبار المتوزعة في الأمكنة والواقفة كأيد متشققة تحت الشمس..
ومن هناك جاء صوت يوسف كنداء ليلي ينبهك الى نجمة خالدة:
- “هذه إجزم ماهر.. قريتك.. أكيد انت رأيتها من قبل في صور أخرى.. لكنني أردت أن تراها بعيني..”
وكنت أراها بعينيه، وأسمع رعشة صوته التي تشرف على البكاء، وأسمع دقات قلبه وهو يهبط الكرمل.
يوسف صديقي الذي رحل أمس، أجمل من الكلمات هذه التي أكتبها عنه.. لن يكفي أن أقول عنه أنه كان جميل الصحبة مؤنس الحضور طريف القول وأن قلبه كان كابتسامته القروية غير المتكلفة التي تشبه زهر النرجس البري تلك التي تطلع في السهول بلا مزارعين ولا مواعيد..
مبكراً رحل يوسف كما تفعل تلك الزهور.. مثل كثيرين نحبهم وقد أخذوا معهم نصف ذكرياتنا، نصف قلوبنا ونصف آمالنا وغادروا مبكرين.. مبكرين على الأقل بالنسبة لي أو لنا نحن أصدقاءه الذين مازلنا نتوهم أننا لم نزل في عمر لم ينهدم الجسد على حافته بعد..
أخي يوسف اسمح لي ألا أودعك.. لقد عدت إلى جنين قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً.. بعدها كنت تسافر رحلتك اليومية بين جنين وحيفا.. وقد تركت لي هذه الصورة..- صورة الطريق بين بيتك والكرمل.. سأراك دائماً هكذا، مسافراً في الوطن السليب بين حيفا وجنين، تريح رأسك على نافذة الحافلة وتتأمل مشهد حياة الطبيعة وهي تنظر الى الغزاة ولا تراهم، فيما تستعيد زمنها الأول وسيرتها الأولى.
ماهر رجا