رحيل الكاتب والقاص الكبير سعيد الكفراوي
نعيد نشر هذه المقابلة مع الاديب المصري الراحل سعيد الكفراوي الذي توفي هذا اليوم.
القاص الكبير.. سعيد الكفراوى: أستطيع ملء الدنيا كتابة لكن حرصى على الجودة العالية عطلنى كثيرًا
يحيى الطاهر هو شاعر القصة القصيرة الذى حول واقعه الصعب إلى فن
أمل دنقل ظل فى غرفته 3 أيام متواصلة لقراءة رواية
يرفض القاص الكبير سعيد الكفراوى، أحد أبناء جيل الستينيات، وصف أى عصر بلون واحد من ألوان الفن، ويرى أن الفن الجيد يصلح لكل الأزمنة، وأن الانحياز إلى لون على حساب الآخر نقيصة لا تليق بالإبداع، وذلك فى معرض تعليقه على القول بأننا نعيش «زمن الرواية». ويؤمن «الكفراوى»، صاحب المجموعات القصصية مثل: «مدينة الموت الجميل»، و«ستر العورة»، و«سدرة المنتهى»، و«دوائر من حنين»، و«البغدادية»، بقدرة القصة على تجسيد معاناة البشر وأزماتهم، ويعتبر أن شيوخه الذين تعلم منهم أصول وأسرار هذا الفن، هم «الخواجات» من أمثال: دستوفكسى، وكافكا، وهيمنجواى، وفوكنر، وتولستوى، وبورخيس، وماركيز، وخوان رولفو. لسعيد الكفراوى قصة إبداعية تستحق أن تروى، نقرأها معًا فى الحوار التالى.. عن القصة القصيرة فى حياته، وأصدقائه عن سنوات العمر الأولى، وحكاياته مع كبار المبدعين.
■ بداية.. تتقاطع القصة القصيرة مع حياتك كأنها قدرك.. لماذا اخترتها دون غيرها من فنون الكتابة؟
– فى لحظة ما اكتشفت أنها الشكل الأمثل لكتابة تجربتى، ولتأمل واقع ما أكتب عنه، وفى آخر المطاف تحقق شغفى بتلك المنطقة الغامضة من الواقع المصرى، فضلًا عن كونها الفن الذى قال عنه الأديب الفرنسى باسكال: «هى الصوت الذى يأتى من الآماد البعيدة فيرعبنى».
هذا الشكل من الأدب يحقق لى علاقة أتلمس من خلالها معرفة من أكتب عنهم، فى محاولة مضنية لإخراج شخصياتها من القلب والعقل بأمنية أن يستمروا طويلًا فى الحياة، ويستمروا طويلًا على الورق، وعبره جسدت ثنائيات عاشت معى عبر جدلية الحياة والموت، والكهولة والطفولة، والمكان والزمان، والواقع والأسطورة.
■ هل نحن فى «زمن الرواية» مثلما قال الدكتور جابر عصفور.. وكيف ترى واقع القصة القصيرة الآن؟
– من غير شك أن الرواية تمثل شغف الإنسان بالحقائق، وجنونه القديم بالخيال- كما قال يومًا أستاذنا نجيب محفوظ- وأن ما يجرى فى الدنيا من صراعات ومتغيرات عنيفة فى حاجة لشكل من أشكال الكتابة يعبر عنها، فكانت الرواية بسبب شكلها الملائم للتعبير عن تلك المتغيرات.
لكن نحن لسنا فى زمن فن رائج بعينه، الفن الجيد ابن كل الأزمان، هؤلاء الكتاب الأماجد الذين أبدعوا فى الماضى ما زالوا فاعلين فى الحاضر، كأنهم يعيشون بيننا بلمعان الكتابة، وإشراقة الإبداع، أمثال تشيكوف وكافكا وفوكنر وتولستوى ودستوفسكى.
فأنا من المؤمنين بأن أى كتابة جيدة، رواية أو قصة أو قصيدة من الشعر، أو مسرحية ذات آفاق رحبة، هى ابنة للعصر، ودلالة عن الزمن، أما احتقار الزمن لفن من الفنون فأعتقد أنها حالة تمثل تناقضًا مع جوهر الفن فى كل الأزمنة.
وتجاهد القصة القصيرة وتكافح وسط رواج الشكل الروائى، وسط مهرجان الجوائز المادية فى كل الأنحاء، تبدو للأسف «يتيمة»، ووحيدة على نحو خاص، تدعمها جائزة تسعى بهذا الفن إلى مكان يليق به، هى جائزة «الملتقى» التى تنظمها الجامعة الأمريكية بالكويت، ويشرف عليها الروائى الصديق طالب الرفاعى.
وتثبت القصة كل يوم مدى أصالتها عند كتابها الأماجد فى مصر مثل محمد المخزنجى، والمغربى أحمد بوزفور، والعراقى محمد خضير، وآخرين، ومأساتها، فى وجهة نظرى، أن يكتبها الروائيون الذين تعاطوها يومًا فى استراحة الكتابة بين إبداع رواية وأخرى، لذلك دائمًا ما تصرخ فى واقع تختلط فيه الأصوات، وتواجه إعلامًا مغيبًا للوعى والحقيقة، وتتأمل واقعًا يتسم فى كل أحواله بـ«قلة القيمة».
■ فى عصر يتميز بسرعة إيقاعه.. لماذا لم تتصدر القصة القصيرة فنون الأدب؟
– حدث ذلك فى الأربعينيات والخمسينيات، ومع جيلى من القصاصين فى الستينيات، كانت هى الشكل الذى يعبر عن التوتر الاجتماعى، والنتائج المرعبة للحرب العالمية الثانية، ومع فاعلية وظهور تيارات السريالية والوجودية فى مصر، ومع شروق عوالم جديدة فى الكتابة عند نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، استكمالًا لتيار الكتابة مع المدرسة الحديثة برئاسة العظيم يحيى حقى، ثم إسهام من جاءوا بعد ذلك، بدر الديب، وإدوارد الخراط، والرائد يوسف الشارونى وغيرهم.
الإنجاز الستينى بعد يوسف إدريس، منح القصة القصيرة فرادة خاصة، وظلت تستفز بمواهبها فضاءً قصصيًا يعبر عن الشخصية المصرية.
كانت الستينيات حقبة حاسمة فى كتابة القصة، وقال عن روادها يومًا الدكتور جابر عصفور فى دراسة له: «جيل فتح عينيه على وعود الحلم القومى، وصعوده الواعد، لكنه صدم بالسقوط المدوى لهزيمة عام ١٩٦٧، فأعلن تمرده على من صنعوا الهزيمة، وثورته على جيل الآباء.. شق لنفسه طريقًا جديدًا أفضى إلى أساليب مغايرة فى الكتابة». هذا زمن كانت القصة فيه هى الشكل المفضل للتعبير عما يجرى فيه من أهوال وحوادث، وكانت مواكبة ومواجهة للعنف الذى تتسم به المرحلة.
الآن اختلطت الأمور، وتكرست المغريات فى جوائز وإعلام وشعارات مطروحة على قارعة الطريق، وبقى للقصة القصيرة أن تكسب بـ«القاضية»، وغيرها من الفنون يكسب بالنقاط. صدقنى قصة قصيرة جيدة تساوى رواية جيدة.
■ ما السر وراء هجومك على «القصة الشاعرة».. وفى رأيك ألا تنتمى للقصة القصيرة؟
– أنا لم أهاجم «القصة الشاعرة». على القصة، سواءً كانت نثرية أو تتميز بشعرية اللغة والمعنى، أن تكون أولًا قصة جيدة. أنا قلت مرة إن القصة القصيرة شقيقة للشعر. صدقنى هى فى اكتشافاتها الفنية والإنسانية يسحق طموحها حتى الشعر نفسه. كنت أتكلم عن القصة ذات الثلاثة أو الأربعة سطور، تلك التى تبدأ وتنتهى شكلًا ومعنى فى نفس اللحظة، بنسيجها العقلى، وحبكتها المصنوعة.
ويحيى الطاهر عبدالله، أحد فرسان هذا الشكل، ومن أبدعوه باقتدار. قدم الصعيد عبر رؤية حداثية، فيها الأسطورة والواقع الآخر، وامتلك جرأة اكتشاف واقعه ونقده، وكان الراحل مهيأ لكتابة مصرية تضيف، كان صديق تلك الأيام بموهبته الفطرية، وجنونه الفنى غير المحدود.
■ هل لك أن تحدثنا أكثر عن يحيى الطاهر عبدالله كما عرفته على المستوى الإنسانى؟
– على المستوى الإبداعى كان كاتبًا مرعبًا، كاتبًا كبيرًا صاحب موهبة، وواحدًا ممن اخترقوا الصعيد وعاشوا روحه، وكتبوه بلغة ناسه وأهله، وأساطيره وتواريخ الحياة والموت. هو شاعر القصة القصيرة، واستطاع أن يجعل من واقعه الصعب فنًا، لكن فى بداية إبداعه خطفه الموت، بسبب قلقه وحركته الكثيرة، فمن يشارك «يحيى» النوم فى غرفة واحدة ليلة واحدة قد يُجن، لأنه طوال الليل تراه جالسًا يسرح شعره بمشط ليست له أسنان.
هو من جيل لم تشهد الثقافة المصرية مثله. جيل أثرى الكتابة الواقعية، مثل «محفوظ» و«إدريس» وصنع بها ثورة أدبية. هو الجيل الذى صنع أدبًا مصريًا حقيقيًا مثل: خيرى شلبى، وعبدالحكيم قاسم، ومحمد رميش، ومحمد البساطى، وصنع الله إبراهيم. هو جيل أسهم إسهامًا حقيقيًا فى إضافة وعى جديد للكتابة المصرية.
■ ماذا عن أمل دنقل الذى عاش مع يحيى الطاهر عبدالله فى القاهرة كوجهى عملة لا يفترقان؟
– كان أمل دنقل صديقى، وكان يقيم عندى بشقة فى «عزبة النخل»، ومن المواقف التى لا أنساها، عندما أخبرته بأنى تعبت من العمل فى «بنك التسليف»، فأشار «دنقل» إلى أن أطلب من الأستاذ نجيب محفوظ تزكيتى لدى وزارة الثقافة لأحصل على «منحة التفرغ»، وهى منحة مادية كانت تخصصها الوزارة للكتاب لإنجاز أعمالهم الأدبية، بشرط وجود تزكية من أحد كبار الأدباء. وبالفعل توجهت لـ«محفوظ» فاقترح علىّ أن يكتب صديقى سليمان فياض، صيغة طلب المنحة، وأن أقدمها له ليوقعها، وبالفعل حصلت على منحة التفرغ، ويبدو أنها كانت المنحة الوحيدة التى حصل عليها جيلى من الشباب وقتها، أما بقية المنح فقد كانت من نصيب الكبار والمشاهير.
كان أمل دنقل رفيق ليل، لم يكن له سكن فى حياته، وكانت بيوت أصحابه بيوته، وكان مزعجًا لا ينام الليل، وكان قارئًا نهمًا، فإذا ما دخل إلى بيت ووجد مجلة أو كتابًا قرأه، وقضى ليلته معه.
فى إحدى المرات جاء إلىّ، ووجد عندى رواية «لمن تدق الأجراس» لـ«هيمنجواى»، ولم يخرج من غرفته لمدة ٣ أيام حتى أنهى قراءتها كاملة، فقد كان صاحب ثقافة واسعة، بجانب أن أشعاره التى كانت تنتقد وتشرح المواقف السياسية، ساعدت على ذيوع صيته، على العكس من عفيفى مطر، الشاعر صاحب الميول الفلسفية والأشعار التى تبحث عن إجابات عن المصير وجدلية الحياة والموت.
كان «أمل» مشاغبًا وعدوانيًا، ولا يسمح بجلوس شخص غير موهوب على «ترابيزته». كان يصرخ فى أى شخص لا يؤمن بموهبته ويقول له: «لماذا تجلس معنا؟»، فأتدخل لإنقاذ الموقف، وأقول له: «يا أمل يكفيه أن يسعى للكتابة وإن لم يكن موهوبًا»، فيقول لى: «لا. لا يجلس معنا».
كان «دنقل» عدوانيًا، ومارس هذه العدوانية ضدنا فى بداية مجيئنا إلى القاهرة، أنا وغيرى من أبناء جيلنا، وكان قد سبقنا إليها بـ٣ سنوات. ظل يعاملنى بهذا العنف، إلى أن نشرت لى مجلة «الطليعة» قصة «سنوات الفصول الأربعة»، وفى هذا الوقت كان النشر من خلال هذه المجلة شهادة كبيرة على موهبة الكاتب، فقد كان رئيس تحريرها لطفى الخولى، ويدعمها محمد حسنين هيكل، وكانت منبرًا لليسار المصرى.
نشرت المجلة لى قصتى، من مجموعة «مدينة الموت الجميل»، فى تلك الليلة كان «أمل» يسير برفقتى فى طريقنا إلى شقة عزبة النخل بالمرج. كنا نمشى من مقهى «ريش» فى وسط البلد، إلى محطة كوبرى الليمون فى رمسيس، وكان القطار يذهب من هناك إلى المرج، حيث أسكن.
فى الطريق قلت له: «بدلًا من صوتك العالى فلتقرأ هذه القصة»، وفى الطريق قرأها، وما إن أنهاها حتى قال لى: «يا ابن الكلب. أنت قصاص كويس»، ومن بعدها تغيرت معاملته لى تمامًا، وزاد احترامه لى، إلى أن سافرت سنة ١٩٧٥، فى رحلة للبحث عن عمل، وكان «دنقل» من شجعنى على هذه الخطوة، وقال لى: «سافر اعمل قرشين. أنت قاعد تعمل إيه؟».
■ قلت فى تصريحات سابقة إن لك عملًا روائيًا غير مكتمل. ما تفاصيله؟
– هذا حقيقى، بالفعل عشت وهم كتابة رواية، لكننى لم أنهها، وباختصار شديد كان يتوجب علىّ لكى أكتب رواية أن أتواضع قليلًا أمام الكتابة، فالكتابة، كما يقول البعض، «أرزاق». هذه الرواية اسمها «بطرس الصياد»، وقد كتبت منها ١٢٠ صفحة، وقرأها إدوارد الخراط، وبسبب نوع من حرصى الشديد على أن أكتب بدرجة عالية من الإتقان، لم أكملها حتى الآن. هل سأكتب رواية؟ الله أعلم. دع الأمور للزمن، فالكتابة سر من أسرار الروح لا نعلم عنها الكثير، وما دام هناك عمر باقٍ فثمة فرصة باقية.
■ قلت إنك لم تتعلم من الكتاب المصريين، فمن هم شيوخك فى الأدب؟
– شيوخى الحقيقيون هم «الخواجات»، من أمثال: دستوفكسى، وكافكا، وهيمنجواى، وفوكنر بالتحديد، والفرنسيون، وتولستوى، والكتاب اللاتينيين من أمثال: بورخيس، وماركيز، وخوان رولفو، هؤلاء هم من أخذونى لموجة أخرى، فقد كان باستطاعتى أن أملأ الدنيا كتابة، لكن حرصى الشديد على تقديم كتابة ذات جودة عالية عطلنى كثيرًا.
■ قلت إن كتاب مصر النجباء الذين أثروا الثقافة جاءوا من القرى، فما الذى تقصده بهذا؟
– أنا أقصد أن ضمير الإبداع القصصى والروائى المصرى شكلته القرية المصرية، وأستطيع أن أحصى لك هؤلاء القرويين الذين شكلوا مجد الأدب وضميره، لكن لن يسعفنا الوقت. هل نسيت أن يوسف إدريس قروى، وهو الذى بحث عن إجابة جديدة لكتابة تشكل القرية أهم تجلياتها القرويون من الكتاب أغنياء بتجاربهم، وكثافة أحلامهم، وطبيعة ما دربتهم الحياة على أنواع الحكى والرواية.
■ ماذا عن رفاقك من مبدعى مدينة المحلة وذكرياتك معهم وكيف أثروا فى تجربتك؟
– هو زمن من لؤلؤ. زمن التكوين والبراءة. زمن الحكى والمجالدة للحصول على لؤلؤة المستحيل. مدينة بشوارع فقيرة وشبان فى أول العمر يأتون من قراهم ويخرجون من الضواحى يملؤهم الحلم. يكفى القليل من استرجاع ذكريات ذلك الزمن لتتذكر من رحل، ومن لا يزال يمارس عيشه، لتكتشف مدى اتساع رؤية هؤلاء، وتكتشف مدى الجهد الذى بذلوه لكى يحصلوا على وردة المستحيل، منهم: جارالنبى الحلو، ومحمد فريد أبوسعدة، وجابر عصفور، ومحمد المنسى قنديل، والراحلين: نصر حامد أبوزيد، ومحمد صالح، ورمضان جميل.
■كيف تعرفت على نجيب محفوظ؟
– قابلت الأديب الراحل جمال الغيطانى صدفة فى ميدان الأزبكية خلال الستينيات، فاصطحبنى معه لمكان تجمع كبار الأدباء، وهناك قابلت أستاذنا نجيب محفوظ.