رسالة إلى محمود العالول – معين الطاهر
أخي وصديقي محمود العالول:
بعد التحية: يدفعني للكتابة إليك ما يربطنا من أُخُوة وصداقة ورفقة درب ممتدّة، وبعد تعليقك الذي شاع على مواقع التواصل الاجتماعي، رداً على الانتقادات التي وُجّهت إلى كلمتك التي ألقيتَها في مسيرة نظمها كوادر حركة “فتح” في إقليم رام الله، وقلت فيها إنّ منتقديك قد انتزعوا عبارةً من خطابك ووضعوها خارج سياقها، واعتبروها تهديداً، داعياً إياهم إلى سماع الخطاب برمته. ورأيتُ في ذلك مسألتين؛ الأولى أنّك أدركت بوعي ما تضمنته تلك العبارة التي أثارت جدلاً، حين قلت “نرجوكم ألا يستفز أحدكم فتح، وإذا استفزيتم فتح فإنّها لن ترحم أحداً” ثم عدت ونشرت على صفحتك ما قد يصفه بعضهم تراجعاً، وإنْ كان خجولاً، عن تلك العبارة، أو توضيحاً، وربما اعتذاراً، خصوصاً مع قولك: “إنّنا لسنا أنبياء، فنحن بشر، وواردٌ أن نخطئ، وجاهزون لأن نصلح الخطأ”. أما المسألة الثانية، فهي العبارات التي رددتَها في خطابك، وأعدتَ التذكير بها على صفحتك، داعياً الجميع إلى إعادة قراءتها، مثل “الدعوة إلى الحوار” و”احترام التعدّدية والرأي الآخر” و”أنّ عدونا هو الاحتلال، وتناقضنا الرئيسي معه، وليس لنا عدو غيره” و”أنّ الوحدة الوطنية صمام الأمان”. وهو ما ذكّرني بك، وبأيام جميلة مضت، يوم كنا نقرأ معاً “التناقض والممارسة في الثورة الفلسطينية” فنميّز بين التناقض الرئيس والتناقضات الثانوية، ونتعلّم من “التجارب الثورية في ممارسة القتال” ونسير على خطى الشهداء الذين سبقونا، يوم جمعنا معاً في حركة فتح تيارٌ ثوريٌّ وكتيبة مقاتلة، كنتَ أنت أحد مؤسّسيها وقادتها، وهي التي يفتخر بها كلّ من انتسب إليها، أو مرّ بها، أو ادّعى ذلك.
أخي أبو جهاد: وفي اسمك هذا جمع بين شهيدين؛ أبو جهاد الوزير، أمير الشهداء، وأول رصاص “فتح” وأول حجارتها، وقد عملت معه أعواماً طويلة. وأنت والد الشهيد جهاد، الفتى الجميل، ابننا وابن أخينا وصديقنا الذي تعمّد العدو الصهيوني قنصه في إحدى تظاهرات الانتفاضة الثانية برصاصة، وهو يعلم جيداً من يكون، وكنتَ أنت الهدف، لإرهابك وحمْلك على التراجع عن الطريق الذي سرت فيه منذ كنتَ أصغر معتقلٍ في سجن نابلس، ونفذتَ أول محاولة هروب من الأسر، قبل أن تنجح بعد أعوام في الإشراف على أسر ثمانية جنود صهاينة في لبنان، الأمر الذي أسفر لاحقاً، ونحن معاً وسط حصار طرابلس، عن تحرير آلاف الأسرى والمعتقلين.
*عاد البحث عن سراب التسوية والمفاوضات، في ظل تغييبٍ متعمّد للمؤسسات كلها، وهروبٍ من لمّ الشمل الفلسطيني عبر إعادة بناء منظمة التحرير التي تغوّلت السلطة عليها*
نعم… في كلمتك أمام تنظيم “فتح” وشبيبتها استحضرتُ جميع المعاني الجميلة التي تربّينا عليها، وإن كنتُ لا أعلم إذا كان أمين سر الشبيبة الفتحاوية في جامعة بيرزيت، والذي صدر قرار بتجميده بسبب إصداره بياناً باسم الشبيبة ينتقد اغتيال نزار بنات، قد استمع إليها. لكن، ألا تتفق معي أنّ من حق من انزعج من جملتك التي خرجت عن سياق الخطاب، كما تقول، أن ينزعج، وأن يعتب، وحتى أن يغضب؟! إذ إنّ السياق هنا لا ينحصر في خطابك بقدر ما يعود إلى الأجواء التي سادت في أنحاء الضفة الغربية، فزملاؤك في اللجنة المركزية لحركة “فتح” تفوّهوا بعباراتٍ مشابهةٍ للتي خرجت عن السياق، وتوعّدوا مخالفيهم بالويل والثبور، وعظائم الأمور. وحفلت مواقع التواصل بالتهديدات باسم أقاليم الحركة، وحُشد تنظيم “فتح” للدفاع عن السلطة وممارساتها، واستُخدمت عناصر من التنظيم أو الأمن بلباسٍ مدني لقمع التظاهرات، ليُصوّر الأمر على أنّه اشتباك بين تظاهرتين، وهو ما حدا بعهد التميمي، على سبيل المثال، كنموذج للشباب المقاوم، أن توجّه خطاباً إلى أخيها عضو التنظيم الذي حُشد وزملاؤه لقمع تظاهرة احتجاجية شارك فيها والداه، وتبلغه قرار أمه عدم استقباله في البيت قبل أن يعتذر، فأيّ معتوهٍ هذا الذي قرر حشد أبناء القرية والمخيم والمدينة والعائلة الواحدة في مواجهة بعضهم بعضاً؟! وأيّ مسعى إلى الانقسام والفتنة الأهلية تشكّل هذه الممارسات؟!
أما ممارسات الأمن وقمعه صحافيين وأكاديميين وأعضاء منتخبين في مجلس بلدية رام الله، التي ألقيتَ خطابك قرب دوّارها، فقد ملأت صفحات الأخبار في الصحافة العربية والدولية، وحفلت بها تقارير منظمات حقوق الإنسان. ومن هنا، فإنّ جملتك تلك قد وضعها منتقدوها والساخطون عليها في سياق ذلك كله، وإن كان ألمهم مضاعفاً لأنّها صدرت عنك، وهم يعرفون أنّك ابن “فتح” التي كان يسودها قانونٌ تفوّق على جميع اللوائح التنظيمية التقليدية للمنظمات الحزبية، وهو قانون المحبة، ويعرفون أنّها رحيمةٌ بأبناء شعبها، لكنّها لا ترحم عدوها الذي اغتصب فلسطين وشرد أهلها.
أخي محمود: لعلّ من واجبك، باعتبارك نائباً لرئيس حركة “فتح” أن تمنع توظيف أجهزة الأمن شبيبة “فتح” بحشدها في مواجهة المتظاهرين، فليس من مهمة الشبيبة التي نزهو بها وبهبّتها في معركة القدس، ووقفتها المستمرة في بيتا، وإرباكها الليلي المستوطنين على تلال هذه البلدة، وقد شاركت أنت في إيقاد شعلتها، أن تُسخّر لحماية الأجهزة الأمنية، أو الدفاع عن السلطة وممارساتها، وأنت خيرُ من يدرك أنّ ارتباط “فتح” بالسلطة قد ساهم في تأخرها وتراجع شعبيتها. وللإنصاف، ينبغي هنا أن نذكر بفخر إخوتنا من الأسرى المحرّرين وكوادر حركة “فتح” ممن أقاموا سلسلة بشرية لحماية إخوانهم وأخواتهم المتظاهرين من قمع الأجهزة الأمنية وأعوانها. إذا أرادت “فتح” أن تتقدّم الصفوف، وأن تعود أول الرصاص وأول الحجارة، فإنّ أولى المهمات التي تقع على عاتقك، وعلى عاتق جميع المناضلين فيها، فكّ ذلك الارتباط بينها وبين السلطة وأجهزتها.
*أطلب إليك، وإلى إخوانك أبناء “فتح” وقفة قصيرة للتأمل والتفكير في أين كنا وكيف صرنا، والتدبر في عوامل قوتنا ونهضتنا*
أخي أبو جهاد: لقد وقف شعبنا كلّه وفصائله وقواه خلف الرئيس محمود عبّاس عندما تصدّى لمشروع ترامب – نتنياهو المسمى صفقة القرن، واتحد خلف توصيات المجلس المركزي والأمناء العامين وقراراتهم بسحب الاعتراف من “إسرائيل”، وإعادة النظر في الاتفاقيات الموقعة معها، ووقف التنسيق الأمني مع العدو، وإجراء الانتخابات للمجلسين، التشريعي والوطني، وإعادة بناء منظمة التحرير المجمّدة منذ اتفاق أوسلو. وأظنك تذكر أنّه، بحسب النظام الداخلي للمنظمة، يجب عقد اجتماع لمجلسها الوطني مرة في كلّ عام، وهو لم يُعقد منذ 32 عاماً سوى ثلاث مرات، وأنت خير من يعرف ظروف انعقاد هذه الاجتماعات، فما الذي تغيّر؟ ومن الذي قرر؟ حين فاجأ حسين الشيخ، الكلّ الفلسطيني بعودة التنسيق الأمني، وأنّ جميع الأمور عادت إلى ما قبل قرار وقف الاتصالات مع “إسرائيل”؟ وأُلغيت الانتخابات الفلسطينية، وانفرط عقد اجتماعات الأمناء العامين، وتراجعت إمكانات تشكيل قيادة ٍموحدةٍ أو إعادة بناء منظمة التحرير، وعاد البحث عن سراب التسوية والمفاوضات، في ظل تغييبٍ متعمّد للمؤسسات كلها، وهروبٍ من لمّ الشمل الفلسطيني عبر إعادة بناء منظمة التحرير التي تغوّلت السلطة عليها، وسعى إلى تشكيل حكومةٍ ترضي شروط المجتمع الدولي، وتكرّس الانقسام مكرّرة بعضاً من أسبابه. ويحدث ذلك في الوقت الذي يتواصل فيه الاستيطان، وتقرّر الحكومة “الإسرائيلية” مصادرة أموال الأسرى والشهداء. ألا يتوجب أن نقف قليلاً لنلتقط أنفاسنا ونفكّر من المسؤول عن تغيير المشهد الفلسطيني من الوحدة والتلاحم في مواجهة “صفقة القرن” ومن مواجهات الشيخ جرّاح ومعركة القدس وسيفها، التي امتدت لتشمل فلسطين كلها، من أقصاها إلى أقصاها، معلنة وحدة الشعب والأرض والقضية، من تلك الصورة الزاهية إلى عودة المشهد الباهت بتفاصيله كلها.
أخي محمود: بصفتك مناضلاً، وبوصفك نائباً لرئيس حركة “فتح” ومفوّضاً للتعبئة والتنظيم فيها، أطلب إليك، وإلى إخوانك أبناء هذه الحركة، وقفة قصيرة للتأمل والتفكير في أين كنا وكيف صرنا، والتدبر في عوامل قوتنا ونهضتنا. تذكّر كيف قاتل الفيتناميون وفاوضوا قديماً، وكيف احتفلنا بانتصارهم، وكيف قاتلت وفاوضت حركة طالبان حديثاً، وشعبنا لا يقلّ جرأة وبسالة، ولم يبخلْ يوماً بتقديم التضحيات، وعدونا ضعيف، لكن علينا أن نمتلك إرادة التغيير كي تعود “فتح” كتلك التي تربينا فيها ونعرفها، ولنتذكّر أن أمتنا ولّادة والتاريخ لا يرحم “وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم”.