رشاد أبو شاور يتجول في عالم الأدب الفلسطيني – بقلم : أيمن رفعت ،القاهرة
الأدب الفلسطيني، فرع يصب فى نهر الإبداع العربي، فى بحر الأدب العربي الواحد، وهذا الكتاب هو دعوة لقراءة الأدب، الذي يبدعه عرب فلسطينيون، يغنون حركة الأدب العربى المعاصر.. أليس من هؤلاء “سميرة غرام”، و”غسان كنفانى”، و”جبرا ابراهيم جبرا”، و”إبراهيم طوقان”، و”إبراهيم خليل” و…؟! حيث يتحدث عن هذه الكوكبة من المبدعين العرب الفلسطينيين، موجه للقارئ العربي حيثما كان فى بلاد العرب الواسعة.. الضيقة بالحدود المفتعلة، الحدود التى آذت فلسطين، والفلسطيني، وكل عرب محب لأمته، متشوق لرؤيتها موحدة قوية، وكل كاتب ومبدع جاد يطرح أسئلة ويفكر بصوت عال.
وكتاب “قراءات فى الأدب الفلسطيني”، للروائي رشاد أبو شاور، هو مجموعة من المقالات عن أعمال روائية وقصصية، وأدب مذكرات، وأعمال شعرية لمبدعين فلسطينيين، انتماؤهم لفلسطين هو انتماء لأقدس قضايا الأمة، فمن فلسطين ينطلقون إلى أقصى تخوم أرض أمتهم، وأبعد نقطة فى بلاد العرب، تشوقا للحرية، والوحدة، وحرية الإبداع، والعيش بكرامة.
• في القصة والرواية
في الجزء الأول “في القصة والرواية”، يشير المؤلف إلى رواية “ما تبقى لكم؟” لغسان كنفاني، الرواية صغيرة الحجم، سبعون صفحة تقريبا، وصغر حجمها يغوي بالقراءة.. ويوضح معنى الساعة، الزمن، الفعل.. في الرواية.
في رواية “ما تبقى لكم؟” الساعة واحدة من أبطال الرواية، سواء ساعة الحائط التي اشتراها “حامد”، والتي لا تعمل إن علقت على الحائط بشكل مائل، حامد يمضي في الصحراء، يخلع الساعة من حول معصمه ويرميها بعيدا عنه، وهي تذكره بنبضها أنها هناك تمضي “بزمنها”، بينما هو يقف على رمال صحراء النقب الفلسطينية، ويواجه جنديا تائها ضل الطريق عن الدورية التي كان معها.
ويتناول المؤلف قصص محمود شقير القصيرة جدا في “مرور خاطف”، قائلاً: قصص “مرور خاطف” يقصها الكاتب نفسه، وذلك أن اللحظة التي يركز عليها لا تسمح بتقديم شخصيات تتحاور، وتتفاعل مع “حدث” ما، يكشف عن طبيعتها، ويؤدي إلى تغير، أو تحول درامي، وهو ما يشد القارئ ويمتعه، وربما يؤثر في عقله، وسلوكه، بعد أن يدفعه للتأمل. محمود شقير، ولأنه كاتب ابن صنعه، يستعيض عن السرد باللمسات الشعرية، مع حدث ناعم، رشيق، هو ما يجعل هذه القصة القصيرة جدا مستساغة، ومرحب بها.
في قصة “الأرملة” التي تحكي عن امرأة فقدت زوجها الذي تركها مع أربعة أطفال، ثم ها هي بعد عشر سنوات، وهي تنشر الغسيل على سطح البيت تري شابا يصغرها بخمس سنوات فتقع في هواه، ولكنه يموت، كيف مات؟!
نحن لا نعرف، والكاتب لا يخبرنا، لأنه معنيٌ بالحديث عن وحدة المرأة، التي عاشت حتى اكتهلت، ثم ها هي عجوز تري شابين عاشقين على السطح، يدعوانها لشرب القهوة معهما، ولكنها تعود إلى سرير “موتها”، وصوت العاشقين يرن في سمعها: هل بوسعنا أن نقدم لك خدمة ما أيتها الجدة الطيبة؟ محمود شقير في “مرور خاطف” قدم قصصا لا تكفي، ولكنها يمكن أن تحكي، وهذا ما يميز القصة القصيرة جدا عن “الطرفة” و”النكتة” و.. الكاريكاتير.
وفي جزء “المذكرات” يشير المؤلف إلى أنيس صايغ: “الطفولة والانتماء والعطاء”، يمكن القول إن الفلسطينيين بدأوا فعلا يكتبون شهاداتهم، صوتا للذاكرة، وديمومة لما يجدر تذكره، ففي السنوات العشر الأخيرة صدر عدد لا بأس به من كتب المذكرات لشخصيات لعبت دورا بارزا في الحياة الفلسطينية، “أنيس صايغ”، وكتب اسمه هكذا بدون لقبه العلمي “الدكتور”، لأنه ينفر من المباهاة بالشهادة الجامعية، واحد من الرموز الفلسطينية العربية الكبيرة، لذا فصدور “سيرته” حدث كبير، يتعلم منه من يتعلم، يبقى ذخرا لأجيال قادمة لتعرف ما حدث في زمننا.
في مذكراته يقدم د. أنيس شهادته في أخواته، نراهم كبشر في الحياة، لا كشخصيات متميزة فكريا، سياسيا، ثقافيا، اقتصاديا. عن الحياة العائلية يكتب د. أنيس، بعد أن يمر على سيرة أشقائه الاجتماعية، “وفي العام 1952 تعرفت إلى إحدى زميلاتي في الجامعة الأميركية، هيلدا جليل شعبان، الأردنية الأصل المولودة في السلط.. وتزوجنا في عمان صيف 1959..”
مال أنيس الطفل في بواكير حياته للخروج على الجو الجدي فى البيت، فهو عندما كان يصلي ـ كما يعترف ـ كان يردد كلمة “بطاطا” مائة مرة، بصوت غير مسموع، لأنه كان يمل من الصلاة وطقوسها، حتى إنه لم يعد يصلي عندما كبر، وهذا ما يفعله منذ خمسين سنة، على عكس زوجته التي تحافظ على طقوس الصلاة في كنيستها “الأرذوسكسية”.
ويشير إلى رسائل “جبرا إبراهيم جبرا”، كان قد بعث بها لتلميذه السابق، صديقه لاحقا، د. عيسي بلاطه، وضمها في كاتب، وهو بعنوان “التجربة الجميلة”.. وفي مقدمة “التجربة الجميلة” يكتب د. عيسي بلاطه: هذه الرسائل التي تجمعت لدي منه رسائل خاصة، ولكن بينها ما يهم القارئ العام، وكذلك الباحث في أدب جبرا، والدرامي لحياته لما فيها من إشارات إلى مؤلفاته ومراحل من سيرته، ولما ورد فيها من ذكر لشعراء مثل “بدر شاكر السياب”، وأدباء مثل “حليم بركات”، وفنانين مثل مغنية الأوبرا “تانيا غاري ناصر”، وغيرهم.
الرسالة الأولى في الكتاب مؤرخة بتاريخ، دائما كان جبرا يثبت التاريخ في أعلى رسالته، وهذا الحرص يدل على أنه كان يقدر أن آتين يوما سيتغنون بهذه الرسالة .. 4 تموز 1966 وفوق التاريخ كتب: شركة نفط العراق، وهذا يدل على أن الرسالة كتبت عندما كان يعمل في تلك الشركة، أما الرسالة الأخيرة فتحمل تاريخ 15/11/1994، أي قبل وفاته بأقل من شهر.. في كل رسائل جبرا لا تنفر من عبارة نابية، فلا ثلب بغيره من المبدعين، ولا غمز بمواهب الآخرين، ولا تقليل من شأن أحد، الرسائل التي ضمها كتاب “التجربة الجميلة” يمكن أن تدرس نفسيا واجتماعيا، للتعمق لا في نفس مبدع وفنان كبير، كما أن النقاد والباحثين يمكن أن يجدوا فيها ما يفيدهم، ويقود خطاهم للتعرف على جوانب، قد تضيف لهم شيئا عن جبرا وتفكيره، ويشير إلى موت كاتب فلسطيني، فيقول: مات أحمد عمر شاهين، الكاتب والمترجم الفلسطيني، المقيم في القاهرة قسرا وحبا! في مستشفى فلسطين مات وفي القاهرة دفن بعيدا عن غزة ويافا، عاش قسرا في القاهرة بعد أن لجأ إليها أثر احتلال “إسرائيل” لقطاع غزة 67 في يونيو/حزيران، عاش في القاهرة حبا لها، وبمصر، التي أعطاها، وأخذ منها، واندمج في حركتها الثقافية والأدبية، وتكرس مبدعا كبيرا، وروائيا وقاصا ومترجما شخصيا، فجعت برحيل صديق وأخي أحمد عمر شاهين “أبو عمر”.. نسبة لاسم والده، وتحببا كما كنا نناديه في لحظات الصفاء، والأنس، حين نلتقي في القاهرة، أو في المكالمات عبر الهاتف.. وقد قرأت الخبر المفجع في صحيفة “الدستور” الأردنية بعد يومين من رحيل أبو عمر.
يا “أبو عمر” أنا حزين، حزين إلى درجة أنني ألغيت حضوري إلى القاهرة.. وكنت اتفقت معك أن أحضر أثناء معرض الكتاب في الشهر الأول من العام القادم.. فليس لي فى القاهرة غير الحزن، والوحشة، بعد رحيلك أيها الصديق.
• في الشعر
وأما في الجزء الثالث والأخير من الكتاب “في الشعر” فيشير إلى “معين بسيسو”: يستمد شعر “معين” قيمته من أنه يكتنز معنى الحياة، كرامتها، قيمتها، في كلمات قليلة، يقولها شاعر أصيل الموهبة، عميق الثقافة، صاحب مبادئ، “معين” ابن الشعب، وصوت الضحايا، كما وصفه الشاعر الشعبي المصري صلاح جاهين:
يا معين يا صوت الضحايا ** صوتك بيرعد معايا.
ظل “معين بسيسو” شيوعيا حتى رحيله، ولكنه لم يكن متعصبا، فهو كتب شعرا جميلا في جمال عبدالناصر، رغم أنه سجن في مصر مع مئات الشيوعيين. الشعر عند “معين” هو دعم لوجستي، كالذخيرة، كالتموين، به يصمد المحاربون، فالروح بحاجة للغذاء، والشعر غذاء الروح، به تتقوى وتنتصر. عام 1982 كان يشارك في مؤتمر أدبي في “طشقند”، وعندما سمع ببدء العدوان على الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، بادر بالعودة سريعا إلى “بيروت” فاخترق الحصار، ليكون مع الفلسطينيين واللبنانيين في المعركة، ومنذ لحظة وصوله انخرط “معين” في المعركة شعرا، ونثرا، وبدأ يكتب روايته “متاريس” حاضا على الاستبسال:
ولدي محمد: في ظلي الدامي تمدد
أو فوق ركبة أمك العطش تمدد
وإذا عطشت وجعت فأصعد.
“معين بسيسو” كمبدع يتمتع بموهبة فذة، وثقافة إنسانية فسيحة، وهو لا يكتفي بالتعبير عن رؤيته بالشعر، فقد كتب للمسرح، وقدمت مسرحياته في القاهرة، ودمشق، وبعض الأقطار العربية.
ويختتم المؤلف كتابه بالحديث عن هذا الشاعر الكبير صوت أرضنا وشعبنا وهو الشاعر “أحمد حسين”، فيقول: كلما قرأت جديدا لأحمد حسين ازددت دهشة، وإعجابا، وفخرا، ودهشة بكل هذا الشعر الذي يتدفق بغزارة مخصبا ذاكرتنا، منعشا أرواحنا، شاحذا عزائمنا.. وإعجابا بشاعرية خصبة تمنح من عمق تراثنا الكنعاني الضارب الجذور في ثرى هذه الأرض العريقة.. شاعر تغتني شاعريته بموهبة أصيلة طالعة من تراثنا، وألمنا، وثقافتنا، وقهرنا.
أحمد حسين يشيد مداميك عالية للشعر الفلسطيني، بله العرب، لا بالغنائية المائعة، ولا بالتعمية المدعية العمق، ولكن بالشعر الذي يقدم “معرفة” مفعمة بالإنسانية و”الرؤية” والتشوق إلى الآتى، وهو حتما آت. اقرأوا أحمد حسين، أيها الفلسطينيون، حيثما كنتم واسمعوا صوت التاريخ، والأرض، والشعب.. شعب كنعان العريق، فهذا الصوت الشعري الكبير هو صوتنا العربي الأصيل الكبير الذي لا يحجبه الغيوم الحاكمة العابرة، ولا التزييف.
بديوانه الجديد “قراءات في ساحة الإعدام”، يضيف أحمد حسين جديدا للشعر العربي المعاصر، ويأخذ مكانة كواحد من الكبار المتميزين بين شاعرية، ورؤية، وقدرة دائمة على العطاء، وكل هذا لأنه حامل رسالة.
كتاب “قراءات في الأدب الفلسطيني” للكاتب رشاد أبو شاور. صدر عن دار الشروق للنشر والتوزيع (عمان) ويقع في نحو 400 صفحة من القطع المتوسط.
المصدر :ميدل إيست أون لاين