رشيد الحدّا (أبو الراجح) – أعداد موقع الصفصاف
قبل فترة من الزمن وضمن سلسلة كتاباتنا عن أهالي مخيم عين الحلوة والشخصيات التي تركت أثراً لدينا نحن أبناء وبنات المخيم. خاصة نحن الذين عشنا سنوات الزمن الجميل، حيث كانت كل بيوت المخيم مثل بيت واحد كبير، مطابخها مفتوحة للجميع وباحاتها وحاكوراتها كذلك، حيث كنا نلتقي ونتبادل الزيارات، فإن جعنا نأكل مما توفر من طعام لدى الجيران أو الأقارب. أما إذا عطشنا فنشرب الماء البارد من الجرار والأباريق الفخارية. في وقت لاحق اصبحنا نشربها من أباريق الزجاج. فيما كانت القهوة سواء حلوة أم مُرّة تصلنا بعد أن تسبقها رائحتها ورائحة الهال الى أنوفنا. تأتي كما الشاي بالميرمية أو النعناع من موقد الجمر المتوهج إحمرارا. فقد حرص الأجداد على العادات والتقاليد التي حملوها معهم من فلسطين المحتلة مع العلم أنها لم تكن تختلف كثيراً عن عادات وتقاليد الشعب اللبناني الشقيق وبالذات أهل جنوب لبنان جيران الجليل الفلسطيني.
للعلم فإن الجليل المقابل بجباله وسهوله ووديانه لجبال وسهول ووديان الجنوب يعتبر من أجمل مناطق فلسطين. من هناك من جليل العزة والشموخ انحدرت معظم عائلات مخيمنا عين الحلوة. كما من هناك من بلدة مجد الكروم وصل بطل حكايتنا الراحل أبو الراجح (رشيد الحدّا)، الى مخيم عين الحلوة، وصله مشرداً ولاجئاً كما بقية أهل بلدات وقرى الجليل.
عاش رشيد الحدّا – أبو الراجح – في المخيم كل سنوات حياته ما بعد النكبة والتي وصلت إلى مائة عام. قضاها في بيته القريب من الوادي والملتصق ببيت الحاج أبو رشيد الحكيم. حكيم مخيمنا في سنوات القهر والعذاب، لغاية وصولنا الى زمن الانبعاث وتحطيم القيد والخيمة على إثر هبة نيسان 1969 وتحرر المخيمات الفلسطينية من قمع المكتب الثاني اللبناني (المخابرات).
قبل أن تحوله النكبة الى لاجئ في لبنان اشتهر العم أبو الراجح بقوة أشعاره وبسرعة بديهته مما حدى بالقرى والعشائر في فلسطين أن تستضيفه برفقة زجال (حدّا) آخر، حيث يتخذ كل منهما موقفاً مضاداً لموقف الآخر مما يضفي جواً حماسياً على حفل الزفاف أو الطهور الخ. لازالت تلك العادات متبعة في قرى وبلدات فلسطين وبالذات شمالها وفي الجليل حتى يومنا هذا. إذ يتم دعوة هؤلاء الى الأفراح والحفلات ليحيونها بزجل شعبي فلسطيني، يقومون خلاله بتعداد أسماء البلدات وبتحية العشائر والعائلات والأشخاص، بالإضافة لتبادل الأشعار الحماسية والعاطفية والاجتماعية والتاريخية، كذلك الأشعار الأخرى التي تبرز فيها عملية التحدي والمواجهة الزجلية بين الزجالين أو الشاعرين الشعبيين.
كانت ولازالت بعض البلدات تشتهر يزجاليها وتفتخر وتتباهى بهم. ربما كان محمد أبو السعود الأسدي من بلدة دير الأسد أحد أبرز هذه وتلك الأسماء. اشتهرت في كل فلسطين قصيدته الزجلية الغنائية الشعبية ”ربي ما بخلق مثل قريتنا“. قرأت عن قصيدته الشهيرة في بروفيل أحد الأصدقاء وهو الفلسطيني أكرم عبد الغني، حيث نشر عن القصيدة: ” يدل مضمونها على حب وتمسك الإنسان الفلسطيني بأرضه ووطنه، معتزًا بكرمه وحياته البسيطة الهادئة الوادعة”. أقتبس منها فقط هذه الأبيات:
ربي ما بخلق مثل قريتنا بحبها ع شكل كعبتنا
وجبالها كلها ورود وزهور بالآخرة بتكون جنتنا
عنا عوايد من قديم دهور ومن الصعب تغيير عادتنا
يا ضيفنا طول الوقت مسرور حنا نقدملوا كرامتنا
من هذه المدرسة الشعبية الجليلية الفلسطينية جاء أبو الراجح الحدّا حيث سكن في مخيم عين الحلوة جاراً لشخصيتين مخيمتين شهيرتين أبو رشيد الحكيم وأبو العبد الاغا رحمهم الله أجمعين.
قال لي الصديق دياب العلي الذي لديه اطلاع واسع على أحاديث كبار المخيم وقصص أهل المخيم بشكل عام. فقد كان في طفولته وصباه يلتقي بهؤلاء الكبار من خلال الحارة ومن خلال مقهى والده. الذي يعتبر أول مقهى أفتتح في مخيم عين الحلوة. على كل حال سوف نأتي على قصة المقهى قريباً بالتفصيل الدقيق.
قص لي دياب العلي هذه القصة عن فصاحة وشجاعة أبي الراجح:
” وصلت مجموعات من أبناء شعبنا اللاجئين على إثر النكبة الى قرية قانا في جنوب لبنان و كان من ضمنهم رشيد الحدّا -أبو الراجح-. لاحظ الجميع أن عدداً لا يستهان به من أهالي بلدة قانا قد أبدوا تبرماً وضيقاً من وجود اللاجئين. في تلك اللحظات العصيبة إقترح أحدهم على أبي الراجح أن يتصرف بفصحاته شعراً أو زجلاً لانقاذ الموقف.
هنا إنبرى المفوه الجليلي رشيد أبو الراجح قائلاً أمام مختار قانا:
(جينا على قانا وكل مَن في قانا لاقانا). .
فكانت كلماته القليلة تلك كافية وقلبت الموقف رأساً على عقب. إذ سرعان ما رحب المختار بهم. هم طبعا لم يمكثوا طويلا هناك وكانت محطتهم التالية في مخيم عين الحلوة والتي استمرت حتى وفاتهم واحداً تلو الآخر دون تحقيق حلم وأمل العودة الى فلسطين”.
يقول الأخ محمد الآغا جار دار الراحل أبو الراجح في مخيم عين الحلوة: “كان عصبيّ المزاج شارد الذهن وشديد في تربية أولاده. ابنه منير من جيلي وترعرعنا معًا في سن الطفولة. كُنا نهاب أن نمر من أمام بيت أبو راجح فيما لو صادفناه مع أنه لم يكن يتعرض لنا. وأذكره أنه كان دائمًا بالبيجاما والفانيلا.
ابنه راجح لم نكن نعلم عنه شيئًا ولم يكن يسكن عنده، ولعله من زوجةٍ أخرى!! أما أولاده كامل والعبد وسعد ومنير وهناك واحد بعد العبد لم أعد أذكر اسمه… المهم من بين أولاده كان هناك كامل، مطرب المنطقة وذو صوتٍ شجي ويؤلف من عنده// ربما كامل (أبو رشيد) يستحق موضوعًا لوحده. كان يغني في الأعراس وأذكر أنه غنى ذات مرة عن مطعم المرحوم جمال زيدان – أبو جميل – رحمه الله بعد أن أسماه (المطعم الوطني)! فجاء في أغنيته:
المطعم الوطني المشهور
فيّو حُمص فيّو فول
فيّو فلافل وادي النيل
من عند عمك أبو جميل.”.
من الشخصيات التي ارتبطت بالزجل والحكواتية في المخيم كان هناك أبو حسن اليافاوي. هذا الرجل كان يعمل حكواتياً في مقاهي يافا قبل النكبة، أما في المخيم فعمل كصاحب مقهى وفي أحيان أخرى فوال باع الفول المدمس الأكلة الشعبية الأكثر شعبية في المخيمات الفلسطينية لغاية يومنا هذا.
في حين نجد في مخيم عين الحلوة أن أبا فيصل شبايطة الذي عمل في مهنة التنجيد وكان يعرف بال (المُنجِد) فقد كان يحفظ الأمثال والحكم والأشعار الشعبية . كما كان هناك الى جانب أبي الراجح عدد من الأشخاص الذين ارتبطوا بالفن والتراث الشعبي والدبكة الشعبية. من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر عازفي المجوز (اليرغول) والشبابه (الناي) مثل أبو ظلام من بلدة المنشية وآخر من آل شريدي من الصفصاف وكذلك عوض من عرب زبيد وغيرهم. كما كان هناك عازف العود “الكَوى” خالد عطية من يافا. هذا قبل أن يبرز فيما بعد ويسطع نجم الأستاذ أسعد كعوش وعوده الشهير وأغنياته الجميلة برفقة فرقته المخيماتية، ثم فرقة الصديق نصر أبو النصر والخ.
إعداد نضال حمد لموقع الصفصاف
04-11-2021
الصورة المرفقة لمحمد أبو السعود الأسدي