روسيا والصين – “فوستوك 2018″، وموقعنا من التكتلات الدولية – الطاهر المعز
من الاتحاد السوفييتي إلى روسيا:
نفّذ الاتحاد السوفييتي السابق، ثم روسيا فيما بعد، مضمون اتفاقيات الحد من انتشار (ثم حَظْر) الأسلحة النّوَوِيّة والأسلحة الإستراتيجية، وأوقف تصنيع واستخدام الصاروخ الباليستي “إس إس – 20” ثم وقع حَلّ “حلف واسو” بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، ولكن الولايات المتحدة (الطرف الآخر الموقِّع على المعاهدات) لم تلتزم أبدًا بأي معاهدة في تاريخها (بُنِيَ تاريخ الولايات المتحدة على إنكار المعاهدات التي وَقَّعَها زعماء المُسْتعمرين المُسْتَوْطِنِين البيض من أصل أوروبي مع السّكان الأصليين )، بل زادت من حجم ونوع الأسلحة، ومن الرقعة الجغرافية التي انتشرت فيها هذه الأسلحة المُصَوَّبَة حاليا نحو روسيا (انطلاقا من أوكرانيا وبولندا ودُويلات البلْطِيق وأذربيجان، وغيرها) ونحو الصين، في تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وفي المضائق المائية التي تَمُرّ منها صادرات وواردات الصين…
يعود تاريخ آخر مناورات واسعة نفذها الإتحاد السوفييتي إلى سنة 1981، تحت إسم “زاباد 1981″، لاختبار أحدث الأسلحة السوفييتية آنذاك، بمشاركة قُوات من حلف “وارسو”، ردًّا على تهديدات إدارة الرئيس الأمريكي المُتعجْرِف “رونالد ريغن”، وكان سيناريو المُناورات آنذاك يفْترض الرد على محاولة عدوانية يُعدها حلف شمال الأطلسي، بهدف غَزْوِ مناطق استراتيجية في أوروبا الشرقية والإتحاد السوفييتي (أعضاء حلف وارْسُو)، واستمرت تلك المناورات ثمانية أيام بمشاركة حوالي 100 ألف جندي. أمّا السيناريو فهو مَبْنِيٌّ على معلومات حقيقية ومُؤَكّدَة، مِمّا استوجب استعراضًا للقوة من قِبَل الإتحاد السوفييتي وحلفائه في حلف وارسو، بهدف الرّدْع والإنْذار…
تغيرت الخارطة السياسية للعالم، بعد 37 سنة من تاريخ تلك المناورات، إذ انهار الإتحاد السوفييتي، وكان الإنهيار قد بدأ منذ توقيع تلك المُعاهدات، وخصوصًا خلال فترة رئاسة “غورباتشوف” و”يلتسين”، اللَّذَيْنِ عمِلا على تفَكيك الإتحاد السوفييتي، وعلى حل حلف واسو في تموز/يوليو 1991، وكان قد تأسس سنة 1955، ردا على حلف شمال الأطلسي الذي تأسس منذ سنة 1949.
لم يُؤَدِّ انهيار الإتحاد السوفييتي، وحل حلف وارسو، إلى حل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، بل حصل العكس تمامًا، فتوسّع حلف “ناتو” إلى حُدُود روسيا، وانتشرت القواعد العسكرية الأمريكية والأطلسية في كافة مناطق العالم، ورفعت الإمبريالية الأمريكية من ميزانية الحرب، وأمرت حُلَفاءها بزيادتها أيضًا (تحت التّهديد)، بالتّوازي مع تعزيز دور صندوق النقد الدّولي والبنك العالمي، ومنظمة التجارة العالمية (تغيّر اسمها عدة مرات) وتعزيز هيمنة الدّولار على المبادلات التجارية والتحويلات المصرفية العالمية، لتكتمل هيمنة الولايات المتحدة على العالم، عسكريا واقتصاديا، وكذلك عقائديّا وسياسيا عبر مختلف المنظمات والدول الصغيرة والهيئات والمنظمات “غير الحكومية”، وزادت عُدْوانية الإمبريالية الأمريكية، وأصبحت لا تتورّع عن شن حُروب ضد أطراف ضعيفة، وعن احتلال البلدان (أفغانستان والعراق والصومال…) وتدميرها، وتغيير أنظمة الحكم (وهذه ليست بجديدة، لكن توسّعت رُقْعَتُها)…
في الأثناء تأسس الإتحاد الأوروبي، على أنقاض “السّوق الأوروبية المُشْتَرَكَة”، وفرضت الولايات المتحدة على الإتحاد قبول أعضاء جدد من أوروبا الشرقية، رغم عدم توَفّر شروط الإنتماء للإتحاد الأوروبي، بعد إدماج هذه الدول في الحلف الأطلسي، وكلما توسّع الإتحاد الأوروبي زادت هيمنة الولايات المتحدة على سياساته الخارجية وعلى مواقفه من قضايا الحرب والسلم والنمو الإقتصادي في العالم، وشاركت جميع دول الإتحاد الأوروبي (وأغلبيتها الساحقة عضو في حلف شمال الأطلسي) في الحروب العدوانية الأمريكية وفي احتلال بلدان وتخريب أخرى، وفي تغيير الأنظمة، وفي تطبيق الحظر على إيران وروسيا والصين، رغم الخسائر التي يتكبدها اقتصاد دول الإتحاد، كما ساهمت دول الإتحاد الأوروبي في الحصار العسكري المفروض على روسيا والصين…
تحالف الضّرورة:
لم تتطور علاقات الشراكة بين الصين وروسيا نتيجة مسار طبيعي (أو عادي) بين دولتين كبيرتين، لهما حدود مُشْتركة، بل دفعت الضّرورة الدولتين لتكثيف الحوار والمُشاورات التي أَفْضَتْ إلى توقيع الإتفاقيات، لأنهما مُهَدّدَتان، وبشكل علني، من نفس المَصْدَر (أمريكا وحلف شمال الأطلسي)، وبعد توقيع الإتفاقيات والعقود الإقتصادية التي تستفيد منها الصين بشكل خاص، نفذت الدولتان مؤخّرًا مناورات عسكرية تحت إسم “فوستوك 2018″، وفوستوك، حيث جرَت المناورة، هي منطقة تقع في أقصى شرق سيبيريا، ولذلك ترجمت وسائل الإعلام الروسية، في نُسْختها العربية، إسم المناورة إلى “شرق 2018″، في تلميح لتحالف “الشرق” في مواجهة “الغرب”، وهي أكبر مناورة لجيش روسيا منذ انهيار الإتحاد السوفييتي، ومنذ “زاباد 1981″، وتهدف إلى اختبار درجة استعداد الجيشين الروسي والصيني، واختبار الأسلحة الجديدة واختبار درجة استعدادات الجيشين لمواجهة مُحْتَمَلَة مع أمريكا التي أعلن قادتها تحويل كل منافس أو خَصْمٍ إلى عَدُوٍّ، وشكّلت حرب سوريا مُخْتَبَرًا لأسلحة وقدرات الجيش الرّوسي، دون مخاطر تُذْكر، وشكلت مناورة “فوستوك 2018” اختبارًا لقُدرة الجيش الروسي على التّصَدّي لعدوان فوق أراضيه، من قِبَل قوات أكثر عَدَدًا وعُدّة، وفي مساحة أوسَع من سوريا.
امتدت فترة المناورات على مدى سبعة أيام (انتهت يوم 17 أيلول/سبتمبر 2018)، بمشاركة نحو 300 ألف جندي من مختلف الأسلحة (البر والبحر والجو) “لاختبار استعدادات الجيش الروسي لمواجهة أي تهديدات جدية” وفق تصريح الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، ومَكّنت هذه المناورات جيش روسيا من اختبار درجة التّنْسِيق مع جيش الصين (وكذلك جيش منغوليا)، انطلاقًا من تجربة التّنسيق الميداني مع الجيش السوري وحلفائه، على أراضي سوريا، وتوسيعها إلى جيش أكبر، وفي ميدان روسيا الذي يُجابه تهديدات بالغزو أو بالقَصْف عن بُعْد (انطلاقًا من أراضي أوكرانيا أو بولندا أو من بحر البلطيق)، من قِبَل حلف شمال الأطلسي، الذي عبّر الناطق باسمه عن قلقه من “مُحاكاة هذه المناورة الرّوسِيّة نزاعاً واسع النطاق، يتوزع على عدّة جبَهات، مُتباعدة جغرافيا، ومن استخدام وحدات الحرب الإلكترونية” التي جَرّبَها الجيش الرّوسي في سوريا، وعبّرت وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية عن هذا القلق الأطلسي من تَطَوّر التعاون بين روسيا والصين، من الميدان الإقتصادي إلى العَسْكَرِي، ويفترض التعاون في المجال العسكري تعاونًا في مجالات البحث العلمي والتقنيات الحديثة، رغم عدم ارتقاء هذا التّعاون إلى “تحالف استراتيجي” لحدّ الآن، بحكم تباين أهداف كل منهما، ولكن السياسات العُدوانية الأمريكية، وتبعية قادة الإتحاد الأوروبي للولايات المتحدة، دفعت حكومات البلدين إلى تكثيف الإتصالات وتوثيق العلاقات بينهما، بعدما فشلت محاولاتهما التقارب مع الإتحاد الأوروبي، رُبّما كمقدّمة لمسار قد يُفْضِي إلى تحالف استراتيجي، لأن كلاًّ منهما يدعو إلى “عالم مُتَعَدِّدِ الأَقْطاب”، وهو ما ترفضه الولايات المتحدة وما تعجز قيادات الإتحاد الأوروبي عن التصريح به، بل انخرط الإتحاد الأوروبي في سياسة التّطويق العسكري والعقوبات الإقتصادية و”شَيْطَنَة” النظام في روسيا، عبر وسائل الإعلام، بينما حاولت الولايات المتحدة منذ أكثر من عشر سنوات نشر أسلحة استراتيجية في جورجيا وأوكرانيا، وضمهما إلى حلف شمال الأطلسي، ثم تحول الخطاب الرسمي الأمريكي (والأطلسي) من أولوية “مكافحة الإرهاب” بين 2001 و 2008، إلى أولوية مواجهة روسيا والصين، بذريعة محاولاتهما “تقويض النظام الليبرالي العامي”، بينما تحاول حكومات كل من الصين وروسيا الإندماج في النظام الرأسمالي الليبرالي العالمي (أو “العَوْلَمَة”)، لكن مع الحصول على حِصّة وازنة، وهو ما لا ترضى به الإمبريالية الأمريكية، التي تعتبر العالم مِلْكًا لها، ولذلك تركّز انتشار نصف القوة العسكرية الخارجية الأمريكية في مناطق قريبة من الصين (في محاولة للقضاء على المُنافَسَة)، وذلك منذ أكثر من ربع قرن، قبل أن يُعْلن باراك أوباما، وهيلاري كلينتون وزيرة خارجيته سنة 2012 تركيز 60% من القوة العسكرية البحرية الأمريكية (أهم قوة في الجيش الأمريكي) قريبًا من الصين، لكي يكون القرن الواحد والعشرون قَرْنًا أمريكيًّا وليس صينِيًّا (وفق تعبير هيلاري كلينتون)، وأنشأت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية ضخمة شمال أستراليا، وعادت إلى القاعدة العسكرية في ميناء “داننغ” (فيتنام) التي غادرتها مُرغمة بعد هزيمة 1975، وكانت تلك السياسة العدوانية لباراك أوباما (الحاصل اعتباطًا على جائزة “نوبل” للسلم قبل إظْهار أي نية – مُجَرّد النِّيّة – للعمل من أجل استتباب السلم في العالم)، مقدِّمة طبيعية لسياسات “دونالد ترامب”، ومن أبرز عناوينها شنّ الحرب التجارية على العالم، انطلاقا من الحرب التجارية على الصين، في تناقُضٍ صارخ مع مبادئ الليبرالية الإقتصادية الرأسمالية التي تَدّعي تَطْوِير وتنمية الإقتصاد، عبر المنافسة …
خاتمة:
دفعت السياسة العدوانية الأمريكية حكومات روسيا والصّين إلى التّقارب وإلى تكثيف التّعاون، وقد يُفْضِي ذلك إلى التحالف، لكن هل ستستفيد الشعوب المُضْطَهَدة والشعوب الواقعة تحت الإحتلال والطبقة العاملة وفُقراء العالم من التحالف بين الصين وروسيا، إن حَصَل؟
هل سيستفيد الشعب الفلسطيني من هذا التحالف – إن حَصَل- للتخلّص من الإحتلال الصهيوني، ولعودة اللاجئين إلى وطنهم وديارهم؟
إن التعويل على القُوى الخارجية لتحسين أو تَغْيِير الوضع الداخلي يَنْدَرِجُ ضِمْن الأوهام التي لا تتحول إلى واقع أو إلى فِعْلٍ، إذا لم تعتمد الشعوب المُضْطَهدة والطبقات المُسْتَغَلّة أولاً وقبل أي شيء على القوى الذاتية الدّاخلية، ناهيك إذا كانت هذه القوى الخارجية قُوى رأسمالية تَطْمح إلى الهيمنة على موارد وإنتاج وجُهود وعرق شعوب وعمال وفلاّحي العالم، أو زيادة نصيبها من استغلال موارد العالم وجهود مُنْتِجِي الثّرَوات، وهو حال الصين وروسيا، التي تخلّصت أنظمتُها من شعارات الإشتراكية وأصبحت طموحاتها تتلخص في شعار “من أجل عالم متعدّد الأقْطاب”، بينما تتلخص أولوياتُنا كأُجَراء ومُنْتِجِين للثروات وكشعوب مُضْطَهَدَة أو واقعة تحت الإحتلال (العسكري والإقتصادي والإحتلال السياسي الدّاخلي…) في تغْيِير هذا الواقع، عبر أدوات قد تكون نقابات (من أجل تحسين الوضع المادّي) أو أحزاب، من أجل تغيير النظام العالمي والمحلّي، وإقامة نظام يقوم على إعادة توزيع الملكية وثمرة الإنتاج، وقد تكون الأدوات أيضًا منظمات وحركات تحرير من الإستعمار والهيمنة، بهدف إقامة نظام اقتصادي واجتماعي بديل ونقيض للنظام الذي انبثق عنه الإستعمار…
عندما تكون الطبقة أو الشعب في حالة نضال ثوري، يمكن آنذاك البحث عن الحلفاء الظرفيين أو الإستراتيجيين، من أجل تحقيق أهداف الطبقة الثائرة أو الشعب الثائر… أما الجوهر فيتلخص في عبارة “إن عملية التحرّر هي شأن من يريد أن يتحرر، قبل أن تكون شأن الآخرين”، لذا فلنبدأ من البداية، أو لِنواصل ما بدأه السابقون لإنجاز المُهمة أو المَهام !
● ● ●