«زرافاضة» لراني مصالحة.. نقد الاحتلال بفكاهة سوداء
«زرافاضة» لراني مصالحة.. نقد الاحتلال بفكاهة سوداء
بين سرد حكايات مستلّة من واقع الحال، والسعي السينمائي إلى إشاعة مناخ من السخرية الضاحكة والمريرة في آن واحد، يُبرز «زرافاضة»، الفيلم الروائي الطويل الأول لراني مصالحة، فصولاً من سيرة زياد (أحمد بياطرة)، ابن الأعوام العشرة، «العاشق المتيّم» بزرافتين اثنتين تعيشان في حديقة حيوانات في رعاية طبية لوالده الطبيب البيطري الأرمل ياسين (صالح بكري) في قلقيلية. لكن السخرية الضاحكة والمريرة تبدأ من العنوان المختار لهذا الفيلم، المركّب من كلمتي «زرافة» و«انتفاضة»، في مقاربة درامية لأنماط الحياة اليومية في فلسطين المحتلّة (في قلقيلية تحديداً، الواقعة على مقربة من «الخطّ الأخضر»، وهي مركز «محافظة قلقيلية»)، الموزّعة على «عيش» الحياة بشكل طبيعي وعادي، كما على مواجهة المحتلّ الإسرائيلي بشتّى الوسائل المتاحة، السلمية والعسكرية. وإذا كان العنوان مدخلاً إلى الحبكة الروائية، فإن الموازنة بين الحياة داخل حديقة الحيوانات بتفاصيلها كلّها تقريباً، والحياة في المدينة والبلد المحتلّين، تُصبح إحدى الركائز المعتمدة في البناء العام للفيلم برمّته.
داخل حديقة الحيوانات، تمتدّ فصول الحياة اليومية على مستويات عدّة: علاقة زياد بالزرافتين، وعلاقة والده بمدير الحديقة، والأزمات المختلفة التي يُعانيها المكان، وسلطة مدير الحديقة وكيفية استخدامها. خارج الحديقة، هناك العلاقة القائمة بين الأب وابنه، وبين العم حسن (محمد بكري) وبينهما، كما بين ياسين والصحافية الفرنسية لورا (لور دو كليرمو). هناك أيضاً مظاهر الاحتلال الإسرائيلي، وأنماط المواجهة الدائمة بين الفلسطينيين والجنود الإسرائيليين (مشهدان اثنان يختصران نوعي المواجهة هذه: رشق الحجارة، ومرور مسلّحين فلسطينيين)، بالإضافة إلى علاقة الصداقة التي تجمع ياسين بزميل مهنته الإسرائيلي (رشدي زيم)، وسلوك المحتلّ الإسرائيلي على الحواجز، وآثار الجدار العنصري الفاصل، والمشاكل التي يُعانيها الفلسطينيون، إلخ.
يوازن «زرافاضة» بين العالمين، في محاولة سينمائية لبناء عالم من الحكايات النابعة من جوهر المآسي التي سبّبها الاحتلال، ومن أعماق المآزق التي يعيشها الفلسطينيون بين بعضهم البعض، وبينهم وبين المحتلّ. لكن كل شيء ينقلب رأساً على عقب بالنسبة إلى زياد، الذي يتعرّض لمضايقات من بعض رفاقه في المدرسة بسبب عشقه للزرافتين، عندما تقصف الطائرات الإسرائيلية المدينة، فتُقتل الزرافة الذكر (براوني)، تاركة الزرافة الأنثى (ريتا) وحيدة، وزياد كئيباً. لم تعد ريتا قادرة على استكمال حياتها كسابق عهدها، ولم يعد زياد قابلاً للحياة، خصوصاً بعد رفض ريتا تناول الطعام. كل شيء ينقلب ضده، إلى درجة أنه بات يكره والده الأرمل، ولم يعد يأبه بفرض حظر التجوّل ليلاً. الشعور بالوحدة ألمّ بياسين بسبب رحيل زوجته، لكنه شعور أصاب زياد أيضاً، قبل أن يبتكر والده خطّة «جهنمية» لإنقاذ ريتا (الحامل) من وحدتها هي أيضاً، وزياد من كآبته المستجدّة، وربما لإنقاذ نفسه من الانهيار الذاتيّ المرير. ولأن «الخطة الجهنمية» طريفة، فإن كل كلام عليها يُغيّب شكلها ومعناها وغرابتها. مع هذا، يُمكن اختزالها بالقول إن الزميل الإسرائيلي يساعدهم بإعطائهم زرافة من مزرعته داخل إسرائيل. تنفيذ هذه الخطّة لا تخلو من مغامرة تخترق الحواجز الإسرائيلية كلّها، وتكشف مزيداً من قسوة المحتلّ، وترسم شيئاً من راهن فلسطيني يومي.
المغامرة التي يقوم بها ياسين وزياد ولورا لا تقف عند حدود السعي الإنساني إلى إنقاذ الزرافة ريتا، لأنها تعكس وقائع الجغرافيا، ومرارة الزمن، وقسوة التاريخ. فالمحتلّ يمارس سطوته في كل لحظة، وعلاقة الصداقة بين الطبيبين الفلسطيني والإسرائيلي لا تُلغي وجع الإقامة تحت سلطة الاحتلال، على الرغم من أن هذه العلاقة لا تذهب إلى السياسة، بقدر ما تبقى أسيرة المساعي المطلوبة لعملية الإنقاذ. أما السخرية الضاحكة والمريرة فتُشكّل جزءاً من الفيلم، سواء حملت في طياتها نقداً قاسياً ضد الإسرائيلي، أو تضمّنت فُكاهة مرّة داخل فلسطين المحتلّة.
* السفير