سؤال حامض بطعم حنظلة: لا تصالح! – عادل سمارة
لن يرتوي التطبيع من دمنا…فلا ترتووا أنتم فالسيف جيد الصقل لا يرتوي ابداً.
هذا ما حل في كامل وعيي منذ الأربعاء 22 تموز 1987 وقد اتصلت بي ليال ناجي العلي وقالت جملة واحدة ” عمُّو قتلوا ابوي”. لم اسمع منها غير هذه الكلمات وكنت أتوقع ذلك كما توقعه ناجي نفسه قبل ذلك بيومين حيث قالها لي في مطبخ بيتهم، مع قهوة مُرًّة الطعمم ذقتها ولم تبرح فمي، وظللت أعشق مُرَّ القهوة كل صباح ليس لنا. كان ذلك في ضاحية ويمبلدون من لندن، باكرا صباح يوم الإثنين 20 تموز 1987 .
قال: عادل رح يطخوني.
ليش: إتصل بي … وقال إذا لم تمدح … رح تنطخ.
كان قرار تنفيذ قتل ناجي العلي قد بدأ في الكويت، أنظروا اللوحة التي كتب عليها العربي من الكويت عبد السلام مقبول عن معرض لوحات ناجي العلي في 2-2-1985 والتي تعلوها كلمة “مطلوب Wanted” أي مطلوب للموت .
لذا، تقرر إبعاد ناجي من الكويت بعد أن أبلغه ضابط شرطة كويتي بأن عليه أن يغادر.
كان الضابط كما قال ناجي، خجلا مرتبكا متلعثما، ولكن كان لا بد له أن ينفذ القرار. وما كان لقرار كهذا أن يُؤْخذ من حكومة الكويت وحدها، بل علم ناجي أن القرار أُخذ اساساً في السعودية بطلب من ….!!!!! وهي التي فرضت على إمارة الكويت ذلك، فما ضرورة هكذا كيانات، بل ليأخذها الشيطان.
فما بالكم لو كان الأمر من الولايات المتحدة؟
ولكن، لماذا لا يكون كذلك؟ أليست هي راعية التطبيع والآمرة بالالتزام به وراعيته؟ وما الكويت والسعودية ومن درَّب وسلًح وغطى القاتل والقاتل نفسه جميعا في يد الأمريكي، ألا ترونهم الآن كفراخ البوم تحت أقدامها، وفي النهاية لأجل الكيان.
لذا اخترت للموقف ما قاله المتنبي، وكأنه تنبأ حقاً:
وسوى الروُم خلف ظهرك رومٌ ….فعلى أيِّ جانبيك تميلُ
أُغتيل ناجي العلي، وحينها ، على الأقل حينها، كان الفرز على المستوى الثقافي الفلسطيني والعربي. وكانت الصحافة العربية من حيفا إلى لندن فالقاهرة فالإمارات البريطانية المتحدة ميدان قتال بيننا وبين مثقفي التطبيع. (راجعوا الأرشيفات لتروا أوغاد الشعر والنثر ماذا كتبوا) لعلكم تتقيؤون.
لن أذكر لكم أسماء من سهَّلوا وحرضوا ومن اغتبطوا لاغتيال ناجي العلي، أولا لأن اسماءهم إلى هذه الدرجة لا تستحق أن تُكتب حتى لو صلى في معابدهم قطعان وغربان مثقفي الطابور السادس والمنشبكين، ولو عُلِّقت اسماؤهم وصورهم وأعمالهم على ميادين الثقافة فهي جدران جبلت من دمنا. ولن اذكر ايضاً لأن التطبيع اليوم يعم الوطن العربي، ما خلا بعض جيوب المقاومة والتصدي. قالت لي تارا ذات يوم! ألا ترى أن تطولُك يد التطبيع يوماً؟ قلت بلى وألف بلى.
كان لا بد من اغتيال ناجي العلي، واغتيال كل من يمكن أن تُطاله أيديهم دون أن تُمسك أو تُقطع.
واسمحوا لي بالقول بأن اغتيال ناجي من حينها حتى اليوم وحتى التحرير إغتيال يتكرر ملايين المرات على أيدي أدوات الاغتيال من المثقفين والمطبعين والساسة والمَسُوسين. فمن منهم لم يكتب ولا يكتب قبل اليوم واليوم عن ناجي العلي، بل ويبكيه! بعضهم يبكيه نفطاً وبعضهم يبكيه نقداً ذهبا أو أخضراً، وبعضهم يبكيه فنّاً وبعضهم يبكيه من فرط سعادته بقتله، وبعضهنَّ يبكينه حِلْياً.
صار طفل حنظلة فلسطين ووالد حنظلة ناجي العلي وفلسطين نفسها سلعة تمرير الربحين السياسي والثقافي، صاروا جميعاً مجرد ذكرى احتفالية يرقص فيها القتلة سكرى حقدا وثأراً.
لن يرتوي التطبيع من دمنا، بل يُبدّل كل يوم كأسا. هذه يحملها فلسطيني شارك في القتل، وتلك يحملها طائفي “سني، شيعي، ماروني، حريدي، لا فرق” يشارك في استدامة القتل وأخرى يحملها قَطَري يمول القتل وأخرى سعودي يقتل حتى النبي!
ذلك لأن ناجي العلي هو فلسطين وفلسطين هي الوطن الممدد للذبح من طنجة، من الدار البيضاء وحتى منطقة بغداد الخضراء. فهل هناك أطول من هذا الموت غير الموت نفسه.
إنتقل التطبيع من الاغتيال إلى الاعتقال إلى سِدَّة القضاء والمحاكم. برلمانات بطولها وعرضها تجبن عن كتابة سطر يرفض التطبيع، ولا يقاتله، بل يرفض حتى مجرد رفضه، وبرلمانات تذكر اسم الكيان في افتتاح جلساتها قبل الله والوطن.
وباختصار، كل هذا يقول لكم: إن الحقيقة الوحيدة هي “إما أن تقتُل أو تموت“.
فكروا في هذا واحذروا الكثير مما يُراق من الكلام الملجوم بزعم إدانة قتل ناجي.
قالت له الملائكة يومها: ” وستُطرد إلى مكان يكون فيه موتك رقما في بلاد لا تعرفها ولن تعرفك إلا لتقتلك، وستبقى روحك دهراً تحوم تصيح: “خذ بثاري، لا تصالح“!
هذا ما قرأته روحي بل عيني في عينيك وأنت مُسجىً في المشفى لثنانية وثلاثون يوما، صورة مطلق النار هناك في عينيك، فأنت الذي بلا سلاح سوى قلم الرصاص، لذا كان الرصاص، بل الرصاصة الواحدة التي ساقها إلى عنقك وغد من الخلفِ لتخرج من صفحة خدك“
قال مسؤول شرطة لندن لرئيس تحرير جريدة العرب مساء الاغتيال: “رجُلكم ميِّت فورا، فالقاتل محترف ولا يحتاج أي امرىء لغير رصاصة واحدة” .
أخذت شرطة دولة الاستعمار والقتل والدم من بيت ناجي اربعين ألف لوحة، وأعادتها بعد شهور مرفقة بقليل الكلام المخابراتي: “لم نجد فيها ما يوجب القتل” . ولكن وجدنا فيكم ما يُخفي القاتل.