ستة أيام في نيوجرسي و..نيويورك – رشاد أبوشاور
خمس ساعات ونصف تحتاجها الطائرة لعبور المسافة من سيكرامنتو إلى مطار كندي في نيويورك.
جلست بجوار امرأة وطفلها، وقد لبثا نائمين طيلة الوقت، وكانا يتململان بين وقت وآخر، وكانت الأم الشابة تمد أصابعها، وهي نائمة، وتلم الغطاء على جسد ابنها النائم بشكل مائل في المقعد.
ستكون المرّة الأولى التي التقي فيها بالدكتور عبد الحميد صيام، الأكاديمي، والكاتب الصحفي، ومدير مكتب القدس العربي في نيويورك، والذي عمل لسنوات في الأمم المتحدة.
تواصلت مع الدكتور عبد الحميد قبل سفري لأمريكا، وكنت أقرأ كتاباته، وأراه أحيانا في المؤتمرات الصحفية في مبنى الأمم المتحدة.
منذ أربعين سنة لم ألتق بصديقي القديم، وزميلي في حقبة الإعلام الفلسطيني ببيروت، وليد رباح، القاص، والروائي، والصحفي، والكاتب الساخر، وهو مقيم في نيوجرسي.
هبطت بنا الطائرة، واستقرت تماما، فغادرناها، واتجهنا، نحن المسافرين على متنها، أو في جوفها، لتسلم الحقائب.
الرحلة داخلية، لذا لا تدقيق في الجوازات، وهكذا تسلمت حقيبتي، وتوقفت قليلاً في إحدى البوابات، فلم أر الدكتور عبد الحميد، وحين فتحت هاتفي فوجئت بأنه لا يعمل، وهنا بت في ورطة.
توجهت إلى ركن تباع فيه بعض الحاجيات، بما فيها المشروبات الساخنة والباردة والساندويشات، واخترت فتاة سمراء، وطلبت منها المساعدة في الاتصال بصديقي، لأن هاتفي تعطّل، فنادت على زميل لها، قدّرت أنه المشرف، فتناول الورقة من يدي، وطلب رقم صديقي، فجاءني صوته سائلاً _ أين أنت؟ و..طلب مني التوجه إلى البوابة رقم 5 ففعلت.
توقفت قليلاً تحت المطر، وفي مجرى هواء بارد يلسع الوجه ببرودته، وانتظرت إلى أن حضر في سيارته، وتوقف أمامي، فدخلت السيارة بسرعة، بعد العناق.
لاحظت أنه بقميص بدون جاكتة:
_ خدعني الطقس، فقد ظننت أن الجو معتدل،
ثم أضاف:
_ نصف ساعة تقريبا ، أو أكثر قليلاً، ونكون في نيوجرسي. نيويورك ونيوجرسي المسافة بينهما قريبة جدا، هناك عدة ولايات متقاربة ومتداخلة…
أشار لي:
_ ذاك نهر الهدسون، وهناك المحيط، نحن نمر الآن بمحاذاة حي ( هارلم) الشهير..حي السود.
تساءلت عن سر البنايات الهائلة التي نمر بها:
_ هذه بنايات يشتري فيها كثير من السود شققا، بعد بيع ممتلكاتهم بأسعار عالية جدا..لكن من يشتريها منهم؟! هارلم لم يعد حيا للسود. هل تعلم أن بيل كلينتون، بعد انتهاء رئاسته، اختار أن يكون له مكتب في هارلم؟ ربما هذا أسهم في ارتفاع أسعار الأبنية القديمة التي يمتلكها السود.
_ اذكر أن الرئيس كاسترو نزل في فندق متواضع في هارلم، وكان يحضر عام 60 لقاء في الأمم المتحدة ضم الكثير من رؤساء دول العالم، بما فيهم الرئيس جمال عبد الناصر…
قال الدكتور عبد الحميد:
_ قبل سنوات، في عيد الأمم المتحدة ، حضر كاسترو من جديد، وتوجه إلى هارلم، وإلى الفندق الذي استضافه، بعد رفض كل فنادق نيويورك الفخمة استقباله بتحريض من السلطات الأمريكية، وقد استقبل استقبالاً حافلاً وألقى خطابا استمر أربع ساعات ونصف الساعة . أنت تعرف أنه مولع بالخطابات الطويلة؟
ضحكت وعلّقت:
_ كان يطلب من الجماهير أن تحضر طعامها معها، فهو كان يقوم بعملية تثقيف الجماهير سياسيا، واقتصاديا، وثقافيا…
_ دخلنا الآن في حدود نيوجرسي..المسافة كما ترى قصيرة، ولكنها تصعب عندما تزدحم في ساعات معينة.
نهار ماطر، عاصف، غيومه معتمة.
أوقف صديقي السيّارة، ثم هبطنا في ساحة الفندق، وأسرعنا في عبور المسافة القصيرة، ودخلنا، فشعرنا بالدفء.
أنهى الدكتور الإجراءات، وكان حجز لي مسبقا، صعدت وإياه، ووضعنا الحقيبة.
_ فلنتوجه إلى مطعم عربي لتناول طعام الإفطار. سيأتينا الصديق وليد رباح هناك.
* * *
يقع المطعم العربي في شارع ترتفع على واجهات محاله قارمات عربية، مما أشعرني وكأنني في مدينة عربية.
طلب الدكتور طعاما عربيا: حمص، فول، فلافل، لبنة، وأضاف الزيت والزعتر بناء على رغبتي.
دخل وليد ففتحت ذراعي، وتعانقنا، بعد فراق 40 عاما تقريبا. رأيته أنحف، وشعره شائب، وظهره ينحني، وهو يتوكأ على عصا بسبب متاعب الديسك الطارئة. ( ترى كيف يراني بعد كل هذه السنوات..وكنا شبابا آنذاك؟!)
_ ختيرنا يا صديقي…
_ إذا هذا ما فعله بنا الزمن!
ضحكنا، وحزنا، وتذكرنا أيامنا في بيروت، و..غادرنا المطعم، على أن نلتقي مساء.
* * *
مساء الأحد، اليوم التالي لوصولي إلى نيوجرسي، اصطحبني الدكتور صيام إلى مدينة كليفتون المتداخلة مع مدينة باترسون، حيث مقر الجالية الفلسطينية، وهو يقع على جانب الشارع العام، ويتكون من طابقين، مرتّب، مزيّن بعلم فلسطين، وتطريزات فلسطينية.
اخبرني الدكتور صيام أن هذا المقر تأسس قبل سنتين بأموال هي تبرعات من بعض أفراد الجالية.
حضر جمهور ملأ القاعة، رغم أن بعض الصحف أشارت إلى موعد مختلف عن الموعد المقرر.
لم أتحدث عن تجربتي الأدبية، ولكنني على امتداد قرابة الساعتين والنصف، توقفت أمام مسيرة الحركة الثقافية الفلسطينية، ومنذ مطلع القرن العشرين، وكان لا بد أن أمر على منجزات الشعراء، والصحفيين والمثقفين الفلسطينيين، وما تحلّوا به من وعي في مواجهة التسلل الصهيوني أثناء هيمنة الاحتلال البريطاني على فلسطين..وصولاً إلى زمننا الحالي، مع التذكير بشهداء الثقافة الفلسطينية، من نوح إبراهيم ، وعبد الرحيم محمود، إلى غسان كنفاني وناجي العلي، وماجد أبوشرار،وعلي فودة، و أستاذ الصحافة الفلسطينية حنا مقبل…
لقد سعدت بالأسئلة التي تعبّر عن تعطش أهلنا لمعرفة كل شيء عن مثقفينا، ودور الثقافة في تحصين شعبنا، وإبراز قضيتنا، ومواجهة التجهيل والانحراف، وتعميق الوعي…
حضر من واشنطن الصديقان: الدكتورة آمنة عريقات والصحفي سعيد عريقات، وقد أسعدني حضورهما.
في نيوجرسي سعدت باللقاء بالدكتور محمود عقل_ وهو بلدياتي_ ولم أكن قد التقيت به من قبل، وإبراهيم أبوشاور، الذي فاجأني حضوره، وهو ابن ابن عمي.
لقد أدهشني بعض الحضور، بعد انتهاء الندوة، بأنهم أحضروا ملفات تضم مختارات من مقالاتي التي كنت أنشرها في القدس العربي، وهذا ما جعلني أتيقن من أهمية الكلمة، وضرورة وصولها إلى أبناء شعبنا في الشتات.
نعم: كانت أمسية رائعة، وتواصل الحوار على مائدة العشاء التي دعت لها الجالية ممثلة برئيسها السيد ذياب مصطفى.. وفي مطعم عربي.
لفت انتباهي ابتعاد أفراد الجالية عن العصبية التنظيمية، وهو ما يعمّق العلاقات بينهم، ويسهم في إنجاح نشاطاتهم التي تمتد إلى داخل فلسطين، حيث يسهم كثيرون منهم، سيما الأطباء، بالتبرعات لمستشفيات في ( الضفة)، ويتوجهون في كل سيف لإجراء عمليات جراحية لمحتاجين من أبناء شعبنا الصامدين في مواجهة الاحتلال وقمعه وجرائمه.
طاقات شعبنا كبيرة، واستعداهم للعطاء لا حدود له، وهم بعد تجارب غير مشجعة، باتوا يقدمون كل ما يستطيعون مباشرة، وبدون وسطاء، لشعبنا…
للحديث تتمة
* ستة أيام في نيوجرسي و..نيويورك – رشاد أبوشاور