سماح إدريس… الثوريّ العربيّ في زمن السُّقوط الشامل – خالد بركات
في الذكرى السنويّة الأولى على رحيل المثقف اللبنانيّ العربيّ، الرفيق سماح إدريس، يوم الخامس والعشرين من تشرين الثاني، صار في وسعنا، بعد عامٍ على رحيلِ جسده، التصالح مع حقيقة أن صديقنا رحل وصار نداء الواجب، ربما، هو الذي يدفعنا للسؤال من جديد: كيف تبقى أفكاره وسيرته مُضيئة وحاضرة تتجاوز الموسمي؟ فلا نريد أن تنقطع الحوارات مع هذا المشاكس العنيد، فمنذ رحيله احتجبت مجلة «الآداب» عن الأنظار كما تتوارى مهرة عربية أصيلة غاب فارسها. كأنّ مجلته المتمردة أعلنت هي الأخرى الحداد، وقرّرت الغياب ولو مؤقّتاً.
نعم، كل شيء يقول: رحل سماح إدريس وترك خلفه الأسئلة الثقيلة ذاتها:
كيف نُطوّر حركة المقاطعة العربيّة-الدوليّة للكيان الصهيونيّ ونساهم في عزل الصهيونية؟ كيف نُعزز العلاقة بين المقاومة المسلحة وبين مواجهة التطبيع؟ كيف نفضح مشاريع وخيانات المثقف السلطوي التقليدي المهزوم؟ كيف ننشر الأدب الثوري القادم من زنازين وسجون العدو الصهيوني (طالما أننا عجزنا عن تحرير الأسرى من القيود)؟ كيف نبني مساراً فلسطينياً عربياً ثورياً وجديداً يستعيد أهداف النضال العربي التحرري كما حدّدها الفدائيون الأوائل؟ كيف نحرر فكر رئيف خوري ومهدي عامل وغسان كنفاني من قيود اللغة والغبار ومقبرة الكتب وننثرها في الشوارع والميادين والمصانع؟ كيف نبني مِدماكاً جديداً في مدرسة (الحكيم) جورج حبش؟ ونشرح مقاصد كنفاني، فتولد «غساسين» جديدة كما كان يقول. وماذا عن العروبة الجديدة وشروط تحققها في ظل عالم عربي تأكله الطائفية والحروب الصغيرة والفقر والتخلف والتبعية؟ هل يمكن استعادة حركة التحرر العربية التي تدجّنت في بلاط الأنظمة والقصور؟ أم نحتاج إلى بديل ثوري عربي وحديث؟
وهذا كله جُزءٌ يسير من أسئلة السياسة المباشرة اليومية التي كانت تهلك عقله وقلبه. فإذا ذهبنا إلى أسئلة اللغة والرواية والثقافة الوطنية والترجمة والنشر سنعبر دونما شك إلى دهاليز أصعب، غير أن رفيقنا ومعلمنا كان يرى في وضوحٍ تام تلك العلاقة الوثيقة بين السياسة والثقافة في امتدادٍ واحد، وفي ممارسةٍ صحيحةٍ للنضال والسياسة واللغة والأخلاق.
■ ■ ■
يقول سماح
«بعد أن صرتُ أباً سنة 1995، تحوّل اهتمامي باللغة والأدب إلى هاجسٍ شخصيّ. فابنتايَ (سارية وناي) لم تكونا تُحبّان القصصَ العربيّة، لأنّها في غالبيّتها وعظيّةٌ و»ناشفة»، مقارنةً بالقصص المكتوبة باللغتين الإنكليزيّة والفرنسيّة اللتيْن تتقنانِهما. وهذا شكّل تحدّياً كبيراً لي: فكيف أكونُ رئيساً لتحرير مجلّةٍ عربيّةٍ وقوميّةٍ شهيرة، ومؤلِّفاً معجمياً، وعاملاً في إحدى كُبريات دُور النشر العربيّة، لكنّني أعجزُ مع ذلك عن تحبيب اللغةِ العربيّة إلى طفلتيَّ؟».
ويقول: «اكتشفتُ أنّ نشرَ اللغة العربيّة الرشيقة، ذاتِ المضامينِ التقدميّة والإنسانيّة الراقية، إنّما هو عملٌ نضاليّ، لا نشاطٌ موسميّ، أو مكتبيٌّ نخبويٌّ متعالٍ. فلا يكفي أن نؤلِّفَ الكتبَ بلغةٍ عربيّةٍ جميلةٍ وسليمةٍ وقريبةٍ إلى الأطفال والناشئة، الذين نعوِّلُ عليهم كثيراً في بناء مجتمعٍ عربيٍّ أفضل، بل لا بدّ أيضاً من أن «نَحْملَ» هذه اللغةَ إلى قلب المجتمع الذي نعيش فيه، وأن نروّجَها في صفوفه، وأن نرى بأمّ العين مدى تجاوبِهم معها ومكامنَ نفورِهم منها.
وهكذا حَمَلتُ كتبي إلى المدارس، والمخيَّماتِ الصيفيّة الشبابيّة، والنوادي، والمكتباتِ العامّة، أثناء الصيفِ وأثناء أسبوع المطالعة العالميّ بشكلٍ خاصّ، وفي مناسباتٍ كثيرةٍ أخرى. ومنذ شهور، ألزمتُ نفسي – عن حبٍّ وإيمانٍ وطواعِيَة – أن أقرأ قصصاً ورواياتٍ عربيّةً قصيرةً أمام مجموعةٍ من فتيانِ مخيّم شاتيلا وفتياتِها كلَّ يوم أحدٍ عند الظهر. وطبعاً لم يكن تقريبُ اللغة العربيّة إليهم هو هدفي الأوحد، وإنّما رسمَ البسمةِ على شفاههم أيضاً وبثَّ شيءٍ من الأمل والفرح في قلوبهم الصغيرة التي أدمنت الشقاءَ والتهجير».
■ ■ ■
انتمى سماح إدريس إلى فلسطين -القضيّة- طوعاً وحباً، من فضاء الدّفاع عن الفكرة الكبيرة والذود عن القضيّة العادلة وليس من باب الإعلام الرخيص ولا سياسة الأحزاب ودهاليزها وزواريبها الضيقة. كان ينتمي إلى قواعد الأحزاب المناضلة التي تقاتل إسرائيل لا إلى قيادة باعت العهد والذاكرة وصارت تلهث خلف فتات السلطة في رام الله وعمّان وبيروت وعواصم العرب المحتلة.
لم تسحره مرتبة حزبية، ولم يرَ وظيفته في تبرير خطى السياسي ومواقفه، فظل وفياً للجوهر، يشحذ قلمه، ممثلاً أصيلاً لسلطة الرقابة الشعبية على «القيادة» العاجزة والسياسي التقليدي البائس الذي برّر التطبيع باسم «الواقعية السياسية»، وهكذا دخل سماح إدريس إلى محراب رئيف خوري وغسّان كنفاني وناجي العلي ونجيب سرور وماهر اليماني، طالباً نجيباً في مدرسة الواقعية الثورية، وهكذا ظل ينتمي للثورة على اتساع الحلم العربي دون أن يفقد الرؤية والطريق والهدف أو ينسى التفاصيل الصغيرة.
وكان سماح إدريس ينتمي إلى الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية لا إلى «المنظمة» ولا إلى «السلطة العميلة في رام الله أو النظام الطائفي المسخ». وصار جندياً عربياً نبيلاً في مشروعٍ تحرريٍّ ثوريٍّ بوصلته فلسطين، ولذلك أيضاً بقي فارساً يقظاً لا يخدعه الدليل الكاذب، ورفيقاً وفياً للذين يناضلون في السر والعلن وفي السجون. وفي وسعه دائماً رؤية الفرق بين من يعمل ومن «يطق الحنك».
وظلت روحه ترنو وتتوق إلى شخصيات مناضلة عربية حفرت سطورها في أعماقه، ينهل منها ويشرب من نبعها الصافي. فيكتب رسالة للحكيم جورج حبش في ذكرى رحيله ويناجيه، ويكتب عن وديع حداد ورفاقه الشهداء ويبشر بولادة فدائي جديد، يخبرهم عن مآلات «الربيع العربي» وأين وصلت أحوال اليسار وانتفاضات الجماهير العربية، والثورات المضادة، فيكتب لأنيس صايغ وأبي ماهر اليماني عن غياب البوصلة وسقوط السياسة والأخلاق معاً. غير أنه لا ينسى من يواصلون المقاومة فيقول: «شعبك في أمّ الحيران ينتفض. يومُ الأرض يتكرّر. السكاكينُ تتكاثر. العمليّات العسكريّة لم تتوقّف في القدس وتل أبيب وفي المستعمرات الصهيونيّة. الشعور الفلسطيني يتعاظم بأن لا سلام ممكناً مع العدوّ، وأن لا تعامل ممكناً معه إلّا بالسلاح والعزل».
إنّ المُبادرة النبيلة التي أطلقها رفاق وأصدقاء سماح إدريس من أجل تكريمه وإحياء سيرته النضاليّة في ذكرى رحيله الأولى إنما تعني الوفاء لمثقف عربي ثوري لا يزال في مقدوره أن يحيا ويتجدد ويُقدّم طاقة فكرية وثورية لا تفنى ولا تنضب، طاقة من الفعل الواعي والانتصارت الصغيرة التي تتراكم وتكبر وتنفجر في مواجهة العدو الصهيوني وحُلفائه.يدفعنا سماح إدريس اليوم إلى المزيد من القول والفعل والحوار المنتج من أجلِ وطنٍ عربي خالٍ من الاستعمار والأنظمة العميلة والطبقات المهزومة، ويُحرّضنا للدّفاع عن حقوق وكرامة الناس، وعن القضية العربية الكبرى التي نذر حياته من أجلها: تحرير كل الأرض العربية من المحيط إلى الخليج من الاستعمار والصهيونية والرجعية، وبالتوازي مع ذلك النضال الدؤوب من أجل محو الأمية والفقر والتخلف والمرض ورفض هذه العروش الساقطة حتماً، ظل يبشر بالثورة وبأن الوطن العربي الحر ممكن من خلال التمسك بجذور البديل الثوري الأصيل والمتجدد دائماً