سوريا والمقاومة أعادانا للتاريخ – د راضي الشعيبي
لا يمكن كتابة تاريخ ثورات الشعوب وانتصاراتها على غزاتها ومستعمريها وديكتاتورييها ومستغليها دون تناول الخيانات والانهزامات وذكرها بجميع أشكالها وألوانها ومآسيها.
إن من يصنع التاريخ هم الرجال القادة الشرفاء والخبراء الأعفّاء الذين يقدسون وطنهم ويدافعون عنه ويفدونه بأرواحهم، ويحترمون ويقدرون شعوبهم، ويصونون كرامتهم وعزتهم، هم الذين يفعلون ما يقولون ويوفوا شعوبهم بما يعدون. لهذا يخلد التاريخ ذكراهم وأسماءهم في صفحات الشرف والمجد. أما شرف الخونة والعملاء الذين يتناغمون مع أعداء الوطن والأمة من أجل مصالح دنيوية عفنة ومنافع ذاتية، يُلقى بهم وبذرياتهم في سلات القمامة ومزابل التاريخ.
لقد خرج العرب من التاريخ لقرون طويلة وانسحبوا من مواقع القيادة والسيادة ليدخلوا في الأنفاق المظلمة منذ أن احتل الصليبيون القدس الشريف وسقوط بغداد في يد هولاكو ووقوع غرناطة في يد القشتاليين، حاصدين ثمار ما زرعوا من بذور الفرقة والتفكك وإخفاقهم الذريع في التضامن والتآخي، وإفراطهم في البذخ والترف والانتحار الخلقي ودوسهم على القيم، والشيم ورفعم شعار “اليوم خمر وغداً أمر”، تاركين السلطة وإدارة شؤون البلاد الاقتصادية والاجتماعية وحتى العسكرية في يد المحتل الأجنبي، ليستمر غيابهم من مسارح التاريخ مع وصول السلطان العثماني وهزيمة المماليك، مما زاد من معاناتهم على مدى أكثر من أربعة قرون من حكم الأتراك الجائر الظالم ودخوله في سبات عميق.
لم يتم التحرر من حكم الأتراك العثمانيين الظلامي حتى انهيار الامبراطورية العثمانية وهزيمتهم شر هزيمة في الحرب العالمية الأولى، وهنا وجد العرب فرصتهم للنهوض ولكنهم سرعان ما وقعوا في مصيدة سايكس بيكو وفوجئوا بالواقع الجديد المرير بأن مصيرهم أصبح في يد الدولتين الاستعماريتين الامبرياليتين الحاقدتين والكارهتيين لكل ما هو عربي وإسلامي، واللتين قامتا برسم خريطة جغرافية لتقطيع بلاد الشام المحتلة إلى دويلات وجنسيات انطلاقاً من ثقافة بريطانيا “فرّق تسد”، وقامت بتقسيم غنيمة الحرب بينهما وأصرت بريطانيا على حكم شرق الأردن وفلسطين، تاركة لفرنسا العنصرية أرض سوريا الحالية ولبنان. وبهذا تم تنفيذ الحلقة الأولى من سلسلة المؤامرات التي حاكها الغرب والتي واجهها شعبنا العربي الأبي في سوريا بالرفض القاطع والمقاومة العتية للحكم الاستعماري الفرنسي العنصري، أبغض أشكال الاستعمار. وكان ذلك عاملاً رئيسياً في إثارة الشعور الوطني القومي العربي في الروح المعنوية لأبناء فلسطين العربية لرفع راية المقاومة لحكم الانتداب البريطاني الأسود ومقاومته رغم القبضةالحديدية للجيش البريطاني والحكم الديكتاتوري، مما أدت هذه المواقف الوطنية النضالية المقاوِمة إلى المد القومي العربي.
لقد ثبتَّت قوى الشر التي تقودها بريطانيا وجهة بوصلتها إلى الوطن العربي وتركت طبخ سلسلة المؤامرات على نار هادئة وأوصت مفكريها الاستراتيجيين وأسندت إليهم مهمة وضع السيناريوهات ورسم خطط واضحة المعالم وبدقة متناهية لبناء شرق أوسط جديد يضمن مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية ويحقق مآربها، معطية إياهم الخطوط العريضة للنوايا.
كانت التوجيهات خطيرة جداً على مصير ومستقبل الوطن العربي من المحيط إلى الخليج وشعوبه العربية، أولها إنشاء شبكة أخطبوطية من العملاء والأجراء تضم بعض الحكام، خاصة في مؤسسات الدولة وأجهزتها ووسائل الإعلام، تنفيذ وعد بلفور وإقامة دولة الكيان الصهيوني اليهودي على أرض فلسطين العربية التاريخية لتكون خنجراً مدمياً في قلب الوطن العربي على مدى الزمان والذراع العسكري الضاري لها. وتم ذلك في عام 1948 الذي أُطلق عليه اسم عام للنكبة، مما أدى إلى إيقاظ الوعي العربي وقيام انقلابات عسكرية ثورية، وعلى رأسها ثورة مصر العربية بقيادة عملاقها القائد العروبي الوحدوي الخالد جمال عبد الناصر، الذي قضى على الحكم الفاروقي الفاسد البائد، وأمّن كل المؤسسات وفي مقدمتها قناة السويس، مما أثار غضب بريطانيا وحليفتها فرنسا العنصرية، وشنوا حرباً ثلاثية تقودها دولة الكيان الصهيوني، مما أشعل نار غضب الشعوب العربية التي نزلت إلى الشوارع للوقوف ضد حلف بغداد العسكري ومؤيدة للقائد العروبي. وتمت الوحدة بين البلدين العربيين بامتياز وانتصرت الثورة في اليمن على الحكم المتخلف الرجعي الإمامي وتم إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية بناء على اقتراح تقدمت به مصر العربية في مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في القاهرة في شهر يناير عام 1964 لإنشاء كيان فلسطيني مستقل. وكان الاسم إلى جانب تجسيده للكيان يحمل إشارة لها قيمتها في زمن تعددت فيه حركات تحرير الشعوب، وتم اختيار شخصية فلسطينية معروفة دولياً لرئاسة المنظمة هو أحمد الشقيري الذي كان سفيراً لسوريا والسعودية لدى الأمم المتحدة. وفي مؤتمر القمة العربية الثاني الذي عُقد في الإسكندرية في شهر سبتمبر 1964 تقدم اللواء أمين الحافظ القائم بأعمال رئيس الدولة في سوريا، حيث كان حزب البعث العربي الاشتراكي في الحكم، باقتراح القيام بهجوم مسلح سريع على دولة الكيان الصهيوني لتصفيتها قبل أن تنتبه الولايات المتحدة والعالم. لكن مصر رأت أن هذا الهدف يتخطى إمكانيات الدول العربية في ذلك الوقت، وقد يؤدي ذلك إلى كارثة. وأطلقت فتح إشارة البدء في الكفاح المسلح لشعب فلسطين، واختارت أن تبدأ من سوريا قلب العروبة النابض. ثم قام عبد الناصر باحتضانها ومباركتها وإبرازها في المحافل الدولية، وخاصة الاتحاد السوفياتي. ولما بدأ يبزغ فجر التحرير قامت قوى الشر بحرب مفاجئة واستباقية على مصر وسوريا، محدثة النكسة في الخامس من حزيران 1967. ومن المؤكد أن ذلك كان نتيجة الخيانة وتسريب المعلومات بنوايا مصر وسوريا من قِبل نظام عميل وخائن. أدت هذه النكسة إلى قلب الموازين وعودة عقارب الساعة إلى الوراء والسير في الاتجاه المعاكس وبقاء جمرات الثورة تحت الرماد، وأصيب الملايين من أبناء الأمة العربية بالإحباط.
لقد أدت الهزيمة والاحتلال إلى حدوث أزمة خطيرة في منظمة التحرير الفلسطينية أدت إلى استقالة الشقيري الذي كان يمارس سياسة التسلط الفردي، معتبراً نفسه رئيس دولة أكثر من كونه رئيس منظمة التحرير، ولم يعمل أبداً على التطوير الثوري لمنظمة التحرير، وكان رأيه أن تستمر المنظمة في عملها كما تعودت روتينياً وترك القضية في يد الدول العربية ومهمة إزالة العدوان، مما واجهته فتح والجبهة الشعبية برفض قاطع، واللتان أصرتا غلى ضرورة تعبئة العمل الفلسطيني وحقنه بجرعة من الثورية المسلحة تسمح له بالمشاركة في الكفاح المسلح. وباستقالته فُتحت أبواب ونوافذ المنظمة لقائد فتح لتولي رئاسة المنظمة، والذي أصدر فور إعتلائه منبر المسؤولية البيان التالي الذي يجب الوقوف عنده وقراءته بالتأني:
تسعى الحركة الصهيونية والاستعمار وأداتهما إسرائيل إلى تثبيت العدوان الصهيوني على فلسطين بإقامة كيان فلسطيني في الأراضي المحتلة بعد عدوان الخامس من حزيران، كيان يقوم على إعطاء الشرعية والديمومة لدولة إسرائيل، الأمر الذي يتناقض كلياً مع حق الشعب الفلسطيني في كامل وطنه فلسطين. إن مثل هذا الكيان المزيف هو في حقيقته حالة مستعمرة إسرائيلية يصفي القضية الفلسطينية تصفية نهائية لمصلحة إسرائيل، وهو في نفس الوقت مرحلة مؤقتة تتمكن فيها الصهيونية من تفريغ الأراضي الفلسطينية المحتلة من السكان العرب تمهيداً لدمجها دمجاً كاملاً في الكيان الإسرائيلي، هذا بالإضافة إلى خلق إدارة عربية فلسطينية عميلة في الأرض المحتلة تستند إليها إسرائيل في التصدي للثورة الفلسطينية.
لقد كان الرئيس الشهيد صائباً في كل ما قاله وكأنه كان مكشوفاً عن بصره ويعلم ما في للغيب بفضل من الله سبحانه وتعالى لأن ما يحصل اليوم على الساحة الفلسطينية يطابق تماماً ما حذّر منه وأعلنه في بيانه.
لقد أثبتت جميع الأحداث والصراعات والمشاغبات السياسية والتجارب في الحرب الباردة والساخنة والناعمة أن الولايات المتحدة والغرب وخاصة بريطانيا وفرنسا المقيتتين ما هم إلا دمى في يد اللوبي الصهيوني اليهودي ومحكومون له، ومعنيون فقط بدولة الكيان الصهيوني ويحتقرون العرب الذين انسحبوا مرة ثانية من التاريخ. وما يقوم به التحالف الصهيوني الأمريكي والأوروبي يتوافق تماماً مع الصليبي المغولي في زمانه، لكن الصهاينة يشكلون خطراً على الإنسانية والبشرية أكثر من التتار وأن المجرم شارون ونتنياهو العنصري الغازي الفاشي أكثر تعطشاً إلى القتل وسفك الدماء من هولاكو وكل السفاحين المجرمين الذين عرفهم التاريخ.
إن وضع الأمة العربية اليوم وحالها ليس بأفضل من حال العباسيين والفاطميين في نهاية حكمهما ويتوافق تماماً ويتشابه مع وضع وحال دول الطوائف في الأندلس أنذاك، التي كانت في سباق مع بعضها لتقديم مواثيق الولاء والطاعة والإذعان ودفع الجزية لملك قشتالة أملاً في منحهم الأمان وحمايتهم من الويلات. ورغم ذلك كانوا أول الضحايا في السقوط، تماماً كما يحدث اليوم بتسابق حكام وجلادي الشعوب العربية من ملوك وأمراء وشيوخ لتقديم صكوك الطاعة وكسب رضاء دولة الكيان الصهيوني والطاغوت الأمريكي أم الإرهاب ومعها بريطانيا صانعة إسرائيل. وجدير بالذكر أن الجنرال البريطاني اللنبي دخل القدس في 9 / 12 / 1917 على رأس جيش كبير تنفيذاً لوعد قطعه رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج بأن يقدم القدس هدية عيد الميلاد وتنفيذاً لوعد بلفور. ونراهم أيضاً يركضون لاهثين إلى قصر الإليزيه الفرنسي وكر الصهاينة، المسؤول الأول عن جلب اليهود إلى فلسطين. وكان أولهم نابليون بونابرت القاتل المجرم الذي ارتكب مذابح جماعية وأحدث مجاعة عامة طوال الستة أشهر لحصاره مدينة عكا، حصن التاريخ الفلسطيني، وهو الذي وجّه دعوة إلى يهود أوروبا للحاق به عند بدء حصاره عكا من أجل بناء مملكة يهودية في القدس، وهو يعتبر الرائد الأول لمشروع الغزو الاستيطاني الصهيوني لفلسطين. وفرنسا هي الدولة التي مدت إسرائيل بالخبرة النووية واليورانيوم وقتلت مليون وخمسمئة ألف شهيد عربي جزائري. وها هم شيراك والعاشقين ساركوزي وهولاند يطبقون نفس سياسة أسلافهم المؤيدة لدولة الكيان الصهيوني والمعادية الكارهة للأمة العريية والإسلام.
د. راضي الشعيبي
ملاحظة:
الجزء الثاني من المقال سيُنشر الأسبوع القادم وسيتناول عباس والسلطة.
سوريا والمقاومة أعادانا للتاريخ – د راضي الشعيبي