سيد قطب وظلاله!
قبل أعوام قليلة شاهدت المفكر السعودي “محمد سعيد طيب” علي قناة
LBC
يتحدث إلي “أحمد عدنان” مؤلف كتاب “السجين 32، أحلام محمد سعيد طيب
وهزائمه”، حتي ذلك الوقت لم أكن أتصور أن في السعودية ليبراليين إلي هذا
الحد؛ ولا أن ناصرياً يحمل كل ذلك التبجيل للشيخ “سيد قطب”، قال:
– عندما قرأت في السجن كتاب “في ظلال القرآن” كدتُ أن أقع في شراك “سيد قطب”!
ما زلت أتذكر اعترافه علي نحو واضح لأنه أثار في ذاكرتي ركناً مهجورًا،
أنا أيضًا مررت بالاختبار نفسه عند قراءة الظلال تحديدًا، ولولا يقيني
الذي كان آنذاك قد اكتمل بأن القيم الكبري ستواصل الزحف علي القيم الصغري
حتي ابتلاعها كاملة لسقطتُ في الشراك نفسها!
وأثناء عام “د. مرسي” وقبله وحتي الآن يضغط إعلام العسكر بقسوة علي
عباراتٍ بعينها وردت في الظلال، مثل:
(ما الوطن إلا حفنة تراب عفنة)
(الوطن وأهله مجرد كلأ ومرعى وقطيع وسياج)
ولقد وقف “قطب” علي جذور قناعته هذه وثبَّتها في “معالم في الطريق”،
وبصرف النظر عن صخب العوام، هي قناعة سابقة لأوانها بالقدر الذي يكفي
للحكم عليه كأحد المفردات الإنسانية الشرقية التي ساهمت في التأسيس لفكر
عالمي جديد علي أنقاض محاولات الأولين المزدحمة بشوائب المدرسية وعبادة
الآباء!
غير أنه لم يكن رائد هذا الكلام، فلقد لمس قبله هذا المعني فلاسفة كثر،
ورهبان الزن اليابانيون، أشد المفكرين بساطة علي الإطلاق، وأشهر ما قالوا
في هذا المعني:
(خلعتُ ثوب الأنا وأصبحت العالم الفسيح)
لقد هيَّجوا بلغتهم الخاصة قضية كبري، حتي عندما وضعوا تعريفا لـ “بوذا”
وصفوه بـ ” السروة في حوش الدار”، فهو موجود في كل مكان كشجرة السرو في
حوش الدار..
ولمسه العرب أيضاً في أشعارهم:
شَرِّق وغرِّبْ تجدْ عن مُعْرِضٍ بدلاً / فالأرضُ من تربةٍ .. والناس من رجل
وأنت برأيك، لماذا يقدس الإنسان سجناً لأنه فقط ولد فيه بالصدفة؟!
هل الحياة طويلة إلي هذا الحد ليقدس الإنسان الحياة في أوصال أرض ينفق
عمره فيها عبداً لإقطاعيين يسرقون حقوقه وحريته في وضح النهار؟!
إن الوطن محله الحذاء الذي يقف علي أرض للجميع بالتساوي، فكر، ليس العقل
وحمة أو مجرد زائدة لحمية لتعطيله والسماح للمنتفعين بالتجول فيه
بأحذيتهم القذرة، نعم، ما الوطن إلا حفنة تراب عفنة، يا لها من ومضة
فكرية بالنظر إلي الزمان الذي ولدت فيه وإلي المكان تحرض الدهشة علي
الإشعاع، لا يمكن أن تصدر إلا عن مثقف بلغ من وضوح الرؤية مرتفعات شاهقة
لا يطالها حتي الفلاسفة، لذلك، اتهم “عبد الرحمن بدوي” رابعة العدوية”
بالشطح الصوفي لأنها وصفت الكعبة بـ “الصنم المعبود في الأرض، وإنه ما
ولجه الله ولا خلا منه”، غير أنه اعترف بأن معاني كلامها لم تتكشف بوضوح
إلا ابتداءًا من “الحلاج”!
الغريب أن الإمام “أحمد بن تيمية” في واحدة من المرات القليلة التي تحلي
فيها بسعة الصدر هو من نزه “رابعة” عن نسبة هذا التصريح إليها كما فهم من
ظاهره، وبرره بأن المسلمين لا يعبدون الكعبة، وإنما يعبدون الله بالطواف
حولها!
ولسنا بحاجة إلي كلام “ابن تيمية” لندرك أن كلام “رابعة” يحتاج فقط إلي
نظرة إسكاتولوجية لإدراك مراميه، فهي بالتأكيد لم تقصد ما فهم العوام من
كلامها، ولا “الحلاج” عندما قال: “ما في الجبة إلا الله” كان يقصد ما فهم
أصحاب الحد الأدني، ولا “ابن عربي” كان يقصد ما فهم المتلقون من أبياته:
لقدْ صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورة ٍ/ فمَرْعًى لغِزْلاَنٍ وديرٌ لرُهْبانِ
وبَيْتٌ لأوثانٍ وكعبة ُ طائفٍ / وألواحُ توراة ٍ ومصحفُ قرآنِ
أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ / رَكائِبُهُ .. فالحُبُّ ديني وإيماني
فما من شك أن القلائل جدًا بلغوا المطلق عقب رياضة عسيرة للنفس، “سيد
قطب” أحدهم، لكن الفرق بين مطلق “رابعة” و “الحلاج” و” بن عربي” وبين
مطلق “سيد قطب” هو طريقة التحليق في المطلق، ذلك أن مطلق “رابعة” ومن
يشبهونها شديد السلبية يدعو إلي الانسحاب من الحياة، بوحدة الشهود،
والفناء في ذات الحبيب، بينما مطلق “سيد قطب” مطلق إيجابي يحرض علي
الاشتباك مع الحياة بخشونة في سبيل الحبيب والحياة معًا!
معروف أن “قطب” كان واحداً من شعراء “أبوللو” المطبوعين تعيسي الحظ في
الوقت نفسه، معروف أيضًا أنه كان من أوائل من انتبهوا للوعد الذي يحمله
قلم “نجيب محفوظ”، لذلك، هو عندما انتسب إلي الجماعة لم يكن محتاجًا إلي
مطلق يتحرك من خلاله، فهو قادم إليها من مطلق الشاعر، لذلك، من المنطقيِّ
أن يستوعب فكرة “حسن البنا” أكثر من “حسن البنا” نفسه!
الأسرة هي الحجر الذي بني عليه “البنا” فكرته، ونظرة عابرة، من الخارج
حتي، تكفي للحكم عليها بأنها فكرة صالحة للتحقق، ولقد تحققت فعلاً، وفي
أكثر من مجتمع، لأسباب عدة، أهمها هو أن الجماعة هي البديل الوحيد
للكابوس العسكري المزمن الذي يلتحق كالأفكار السوداء بنوم المصريين
والتونسيين والليبيين ومن قبلهم الأتراك، لكن الوصول إلي سدة الحكم شئ
والحفاظ عليه، لا أقول الزحف إلي الأمام، شئ آخر، فالعالم كريه بشكل أعمق
مما كان يتصور “البنا”، لذلك، لا يمكن لفكرته أن تتمدد ما لم يكن لها
عضلات صلبة تحميها، كالفكرة الإيرانية، كما أن هناك عوائق دقيقة تناستِ
الفكرة وضع حلول للقفز فوقها، أقلها خطرًا أن “البنا” لم يتوقع “صفوت
الخرباوي” مثلا، شخص ينتمي لبعض الوقت إلي الجماعة ثم عند أول فرصة يتخذ
من رجمها “سبوبة”، إن للخسة عادةً أخلاقا!
الأخطر أن الفكرة رحمٌ صالحٌ لولادة “الجيتو”، “جيتو” ذهني علي كل حال،
وضَّحتُ هذا في كلام قديم تحت عنوان “السيسي.. والرقص في درجة الغليان”،
وأزعم أن ثقافة “الجيتو” هي خاصرة الجماعة الرخوة، كما أزعم أن الإخوان
لو أدركوا أن خارج الجماعة أيضًا أنقياء لبلغوا الدرب، لو احترموا قوس
قزح، لو صدقوا أن تجسيد شخصية “ياسر برهامي” لا يحتاج أكثر من قول
الشاعر:
شمِّرْ قميصَكَ إنْ أردتَ ولايةً / واحْككْ جبينَكَ للقضاءِ بثوم
مع ذلك، لقد انتهت صلاحية الفكرة مؤقتاً، وأصبح الحديث الآن عن الخلافة
حديثاً ضارَّاً، وإن موجة من الشك تضرب الآن عقلي في أن الهدف من ثورات
الربيع كان ضرب الظاهرة الإسلامية في الصميم لا تحرير الشعوب، كل ما حدث
بعد ذلك يرجح هذا الشك، لا يمكن أن يكون الغرب يكترث لآلامنا المزمنة إلي
هذا الحد، وعليه، يجب أن ينسحب الحديث عن الخلافة إلي أطراف لهجة
الإسلاميين، مؤقتاً علي الأقل، وأن ينتقل الحديث عن الحريات إلي المركز..
الغريب أن الإخوان لا يفهمون الحدوث العميقة لفكرة “البنا”، وما زالوا
يرددون أن الجماعة دعوية وهذا خطأ، فالجماعة ثورية لسبب بسيط، ذلك أن
الدعوة تنتهي بقول الداعية: “اللهم بلغت.. اللهم فاشهد”، لا يحدق الداعية
النظر إلي الأمام، فما معني “أستاذية العالم” إذاً؟
وبمناسبة “أستاذية العالم”، ضغطت جوقة العسكر علي ماسونية المصطلح، ولا
أنفي ذلك بل أؤكده، لكن، هل يعني هذا أن الجماعة ماسونية؟
يقول “حافظ إبراهيم”:
الأُمُّ أُستاذُ الأَساتِذَةِ الأُلى / شَغَلَت مَآثِرُهُم مَدى الآفاقِ
لقد كان مصطلحاً شائعًا تجده بسهولة في كل ما ترك كتاب تلك الفترة،
كتابات الذين اقتربوا من “جمال الدين الأفغاني” خاصة، وهذا التأثير
والتأثر شائع جداً في كل مكان، علي سبيل المثال:
في التسعينيات كان هناك برنامج يومي يقدمه المذيع “أحمد مختار” لا أتذكر
أن حلقة من حلقات البرنامج خلت من ضيف يردد جملة:
(الكومبيوتر لغة العصر)
عمومًا ينفي هذه التهمة عن الجماعة إخلاصها في قتال اليهود الذين لم تعمل
الماسونية يومًا إلا علي تجذيرهم في فلسطين!
يتحرك الإخوان بلا منطق، لذلك، وبعد عامين من اندلاع المعركة ما زالوا
مجرد رد فعل، مكاسبهم ناجمة عن الصراع بين أجنحة الانقلاب، وهي مكاسب
ضحلة، خدوش سطحية في المكونات الصلبة للنظام يكفي لالتئامها كذبة ككذبة
(قناة السويس)، وماكينة أكاذيب النظام وتر مشدود لصناعة المزيد من
الأكاذيب المؤجلة، وانتظروا عما قليل من فقدان كذبة القناة بريقها صناعة
كذبة “محطة الضبعة” ودخول مصر النادي النووي!
وأقسم، لو أن لمديري معركة الجماعة قدرًا من الذكاء يوازي عُشْر تضحيات
قواعدهم لما صمد الانقلاب أكثر من ثلاثة أشهر، لقد كانوا يوم 25 يناير
الماضي علي مشارف مشهد جديد لولا الجزر غير المبرر لأسباب غامضة، عندما
اعتبرهم العالم لأول مرة طرفاً، هل كانوا يظنون أن ثمة حرية بدون تضحيات
كبيرة؟
لا يمكن أن نتجاوز هنا دور مرتزقة الثورة، فمن الخطأ اختزال مفردة
“المرتزقة” علي الذين يؤجرون أنفسهم لمن يدفع في الحروب، إنهم حولنا في
كل مكان، في السياسة وفي الطب وفي الثقافة وفي كل مهنة عرفها الإنسان!
مفردات بشرية وفدوا مباشرة من الظل دون تجارب سياسية إلي المقدمة، وجدوا
أنفسهم فجأة أرقامًا صعبة، تحت طائلة الأضواء المبهرة، كل ما يلزم أحدهم
للبقاء في قبضة الضوء تصريح عقب كل هزيمة تلحق بقواعدهم، أو رهائنهم عند
العسكر علي وجه الدقة، ويبدو أنهم استراحوا لهذا الوضع!
وسدًا لثغرة من الممكن أن ينفذ منها قائل:
– لماذا يطالب الإخوان وحدهم باستعادة الحرية؟
لأنهم، ببساطة، قلب المعركة وأصحاب الحق وأولياء الدم الذي سال مجاناً
وصارت أطرافه نعيق البوم، ومما لا شك فيه أن الآخرين، عند اتزان المعركة،
أو انتصافها، سوف يتسللون من حوافها إلي القلب، ليس العنف بالضرورة، يكفي
أن يكسروا حاجز الخوف فقط!
ويجب أولا أن يستوعب الإخوان المسلمون أن لا أحد غير المصريين بإمكانه أن
يعيد الأمور إلي نصابها، لا السعودية ولا قطر ولا تركيا ولا الغرب، وأن
الغرب يدرك تمامًا أن حكم العسكر صار “إكسباير” وهو عاكفٌ الآن علي تصميم
سيناريو ما بعد العسكر بمعاييره الخاصة، لكن السؤال المتطلب هو:
– متي يتدخل الغرب؟
والإجابة صادمة وملتبسة، وهي:
– عندما يتفضل “نادر بكار” بإنهاء منحته الدراسية في “هارفارد”، أو ينتهي
من مراقبة بعض أيقونات الثورة هناك والتلصص علي مخططات الجامعة لوجه مصر
القادم!
حتي يجئ ذلك الوقت، تري كم من الأحلام سوف تحترق؟
الأحداث العظيمة لا تولد من تلقائها، ولا تولد في الألفة، و “هارفارد”
رحم صالح لولادة حدث عظيم، لماذا “هارفارد”؟ الجواب في عهدة هذه المعلومة
التاريخية:
عند تأسيس “هارفارد” عام 1636 كانت اللغة العبرية هي اللغة الرسمية
للدراسة، كما حملت أول رسالة دكتوراة نوقشت في الجامعة عنوان:
“اللغة العبرية هي اللغة الأم”!
كان “طلحة بن عبيد الله” أحد الستة الذين اقترحهم “عمر” لخلافته غائبًا
عندما تمت البيعة لـ “عثمان”، وعندما عاد إلى المدينة قال علي عهدة صاحب
العقد الفريد:
– أعلى مثلى يُفتات؟!
بالمصرية:
– أنا ينطبخ فوق راسي الطبيخ؟!
وهذا تمامًا حال الإخوان المسلمين، مع ذلك، ما زال أمامهم متسع من الوقت
لكبح المخطط، ويستطيعون!