سيرجيو دي ميلو ضحية السلام المفقود
نضال حمد
اهتز العالم يوم أمس بسبب دوي الانفجار الذي نتج عن الهجوم التفجيري على مقر الأمم المتحدة في بغداد فالهزة لم تكن هزة عادية، بل كانت مثل الهزة الأرضية وأقوى من الزلزال لأن الضحايا من عمال وموظفي الأمم المتحدة، وكذلك من الأبرياء والمدنيين. وعلى رأس الضحايا ممثل الأمين العام للأمم المتحدة سيرجيو دي ميلو، الذي قضى تحت أنقاض المبنى المدمر بعدما عجز المسعفون والمنقذون عن إنقاذه. فالهدف مدني ودولي وليس عسكري أو أمني ولا هو (إسرائيلي) أو أمريكي أو حتى للحلفاء الذين يحتلون العراق.
لم يكن دي ميلو من أعداء العراق ولا من أصدقاء الاحتلال ولم يأتِ إلى بغداد بحسب الأمم المتحدة إلا لمساعدة الشعب العراقي في استعادة كيانه والثقة بنفسه وبناء ذاته من جديد. يقال أن الرجل كان من الذين وهبوا أنفسهم للسلام لذا وصل بغداد وباشر عمله من مكتبه الصغير، الواقع في إحدى زوايا فندق القناة، في قلب عاصمة الرشيد، هذه العاصمة التي تبدلت حياتها وأصبحت أيامها سوداء ولياليها مُنارة بقنابل الإضاءة.
إنها يد الإرهاب التي لا تريد السلام للعراق إمتدت لتعصف بسيرجيو دي ميلو، ولتقتل معه الآمال التي علقت على دور ما للأمم المتحدة، ليكون بداية الطريق لطرد الاحتلال الأمريكي، البريطاني، اللممي (من لمم) ولا يمكن تسميته الأممي ( من أمم)، لأنه لا يعبر عن موقف الأمم المتحدة، أو مواقف شعوب العالم، التي تمثلها تلك الدول. ودي ميلو كان ممثلا للأمم المتحدة وليس لبوش أو الإدارة الأمريكية حتى يتم قتله وأغتياله بهذه الطريقة الأفتراسية، التي لا تنم عن شيء سوى العداء لكل ما هو دولي بحجة أن الدول والأمم المتحدة مرتهنة لإدارة بوش.
هذا المنطق العاجز لا يمكن أن يحرر العرب من الاحتلالات القديمة والجديدة لأنه منطق يائس وبائس. ولا يستطيع إعادة الأمور الى نصابها والبلدان لأصحابها والاحتلال لمصادره ومنابعه. ولا يمكنه كسب معركة الرأي العام أو التعاطف الدولي بل أنه جلاب للغضب والسخط والعداء على كل ما هو مقاومة وعربي، هذا إن كان الذين قاموا بالعملية مقاومين عربا. فهذه العملية ليست وليدة الصدفة ولا هي من بنات أفكار شخص معين أو مجموعة صغيرة لأنها عملية لها رسالة معينة وسيترتب عليها عواقب كبيرة ووخيمة، ثم أنها سوف تمتد مثل خيوط العنكبوت لتشمل وتغطي جهات عدة وكثيرة. فهل ستكشف الأيام القادمة من يقف خلف تفجير سفارة الأردن في بغداد وهذا التفجير كذلك.
نقول العملية ليست سهلة ولا هي بالصدفة لكنها مرتبة ومعدة سلفا بإصرار وتدبير رؤوس تعي ما تريد وهذا ما يجعلنا نتوقف عندها والتحري عن الجهة التي تقف وراءها، لأنه لا يوجد مصلحة للمقاومة العراقية في ضرب الأمم المتحدة لأنها تنعكس سلبا على تلك المقاومة. هذا وصدر اليوم الأربعاء بيان عن المقاومة العراقية يدين تلك العملية. فعلت المقاومة خيرا عندما دانت الهجوم على مقر الأمم المتحدة لأنه لا يخدم سوى الأعداء ويعطي الأمريكان ومن معهم من التابعين، والموالين والعاجزين في هيئة الأمم مبررا لتكريس الوجود الاستعماري والاحتلال الأجنبي في العراق. خاصة أن أمريكا ومن معها لازالوا غير قادرين على انتزاع اعتراف رسمي بحكمهم للعراق لان حكمهم حكم احتلال وليس برضا الشعب العراقي أو على الأقل بموافقة أغلبية هذا الشعب، فلا يوجد ما يؤكد عكس ذلك لأن المجلس الانتقالي في العراق لم ينتخب من قبل الشعب، ولا يمكنه تمثيل كافة فئات الشعب مع أنه يمثل قوى عراقية أساسية لها وزنها ودورها في العراق كما أن لها جماهيرها في الشارع العراقي.
إن مقتل ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق لن يمر بسهولة وسيبقى مؤثرا لفترة طويلة على عمل المنظمة الدولية خاصة أن دي ميلو سبق وخدم في كوسوفو وتيمور الشرقية ورواندا وكان يستعد لممارسة عمله في بغداد في مفوضية حقوق الإنسان، حيث أن هذه المفوضية كانت موكلة بمتابعة ملف حقوق الإنسان التي أُنتهكت سابقا ولازالت تنتهك يوميا في العراق. كأن البلاد لازالت على سابق عهدها وكأن الأمريكان ومن معهم من القوى المحلية حلوا ليكونوا مكان النظام السابق، ولكي يعملوا بطرق لا تتصل بالعمل والوسائل الديمقراطية التي تكفل حقوق الإنسان وخاصة المدنيين في زمن الحرب والاحتلال..
إنها فعلا نهاية محزنة لرجل كانت مهمته حفظ السلام والحفاظ على حقوق الإنسان في بلد لم تكن فيه أية حقوق للإنسان ولم يزل الإنسان فيه بلا حقوق، وبشوق وحنين للسلام المفقود حتى الآن.
Oslo / أوسلو
2003 / 8 / 21