شهادتي عن مجزرة صبرا وشاتيلا مختلفة عن شهادات الآخرين… نضال حمد
مقدمة صباح مثل هذا اليوم 15-9-1982 نهضنا من نصف نومنا في الفاكهاني ببيروت الغربية المحاصرة والتي غادرتها قبل أسبوعين أخر دفعة من الفدائيين الفلسطينين.
صحونا لنجد الدبابات الصهيونية الغازية مرابطة ومتموقعة تحت شرفاتنا ومقابل منازلنا، على شارع عفيف الطيبي، قرب الجامعة العربية وفي كلية الهندسة والمدينة الرياضية وفي مكتب الرئيس الراحل ياسر عرفات خلف كلية الهندسة، وعلى حدود مخيمي صبرا وشاتيلا في المدينة الرياضية، على دوار الكولا ومحيط السفارة الكويتية ومقر الأنروا، وفي مناطق أخرى كثيرة من بيروت الصمود والشموخ والحصار الطويل.
في ذلك الوقت ومنذ الصباح الباكر كان آلاف أو مئات من عناصر القوات الانعزالية اللبنانية الفاشية، المنتمية لعصابات الكتائب وآل الجميل ولنمور الأحرار وأبو أرز وسعد حداد وبالأخص عصابة أيلي حبيقة وسمير جعجع وأيتام بشير الجميل، تتوغل وتدخل الى الميخيم بصمت وتحت غطاء القصف والقنص وقنابل الانارة الاسرائيلية، حيث جيش الاحتلال الصهيوني بقيادة شارون حاصر المخيمين بما معناه كان يريد سد الطرق على المدنيين الأبرياء الذين يفكرون بالفرار من المذبحة الدائرة بصمت في حارات وبيوت وأزقة المخيمين. فليل الخميس 16-9 -1982 وفجر الجمعة الموافق السابع عشر من أيلول 1982، علمنا من ر فاق لنا داخل المخيم عن إبادة أفراد عائلة المقداد قرب المدينة الرياضية. وعهلمنا ايضاً أن هناك تحركات واشياء غير طبيعية تحصل في المخيمين. ثم تأكدنا من أن هناك مجزرة أو مذبحة تدور في صبرا وشاتيلا وأن علينا الدفاع عن المخيمين وعدم السماح للصهاينة بالتقدم على هذا المحور الهام، فإغلاق ذلك المنفذ والذي برأيي كان آخر منفذ لفرار الناس من المخيمين الى الأحياء اللبنانية المجاورة يعني ابادة كل السكان في المخيمين.
عمليات القتل والسحل والذبح في هذه المجزرة كانت تجري بصمت… عائلات بكاملها أبيدت. لا أحد كان يدري ماذا يدور في المخيمين.
المجزرة المروعة والفظيعة ارتكبها الصهاينة بقيادة الجنرال المتوحش شارون وقادة جيش الاحتلال الاسرائيلي والفاشيون الانعزاليون اللبنانيون عقب اغتيال اللبناني الأسوأ على الاطلاق بشير الجميل.
اليوم التالي بعد المجزرة فجر الجمعة بدأت تردنا بعض الأخبار عن حدوث مجازر في المخيمين… وعن وجود قتلى بالعشرات .. لا وجود لجرحى ولا يوجد أسرى، الكل كان يجب أن يقتل ويذبح بصمت، الصغير قبل الكبير… ورؤوس الأطفال الصغار تقطع بالسواطير والحراب أمام أعين ذويهم.. ثم فيما بعد يتم قتل الأهالي. تجمع الجثث وتنقل لدفنها في حفر قامت بحفرها الجرافات (الاسرائيلية).. تُوارى الجثث بشكل جماعي على مرأى الجنود والضباط الصهاينة فجرافتهم وبلدوزاراتهم هي التي حفرت وأعدت المقابر الجماعية.
كان الجنود الصهاينة يقنصون ويطلقون النار على أي شيء يتحرك. السكان المدنيون المرعوبين يختبئون في منازلهم. سكان المخيمين يتعرضون لعمليات إبادة منظمة داخل أزقة وبيوت المخيمين. نحن نتألم ونعمل ما بوسعنا لانقاذ من يمكن انقاذه ولمواجهة العدو في أماكن تجمعه حول المخيمين. يسقط منا الشهداء والجرحى والأسرى خلال ساعات من المواجهات الصعبة جداً جداً جداً. عشرات المقاتلين يواجهون عشرات آلاف الجنود والمسلحين بكل تسليحهم وقوتهم.
بعض الفلسطينيين واللبنانيين من سكان المخيمين دفنوا أحياء تحت التراب. بعض الفتيات اغتصبن وتمت سرقة مقتنيات وأموال الناس وتفجير الملاجئ بمن فيها من المدنيين. تم اعتقال واختطاف الآلاف من المدنيين الذين مازال مصيرهم مجهولاً حتى يومنا هذا.
أسأل نفسي دوماً لماذا لا يتم اعتقال سمير جعجع وغيره من الارهابيين السفاحين القتلة وأخذ أو نزع اعترافات منهم عن مصير آلاف المفقودين؟… ألم يكن الأجدر ببعض القادة الفلسطينيين المتفذلكين والمتصنعين الذين التقوا بسمير جعجع وانطون زهرا أن يعرفوا أولاً مصير الآلاف من أبناء شعبهم في صبرا وشاتيلا؟؟
المقبور بشير الجميل كان يردد اثناء حصارنا في بيروت صيف 1982 وقبل ذلك أنه سوف يقوم بجرف مخيمي صبرا وشاتيلا وتحويل المكان إلى حديقة حيوانات. لكن الحيوان المفترس نفسه ذهب إلى الجحيم قبل أن يحقق حلمه.
ذكرت في شهادتي على فضائية الميادين قبل 3 سنوات أنه عندما بدأت المواجهات مع الدبابات الإسرائيلية: “تعرضت أنا ورفيقي اللبناني محمد علي – أبو الفداء لقذيفة أطلقتها دبابة صهيونية. استشهد محمد على الفور وأصبت أنا اصابات بليغة وصعبة، فقدت خلالها ساقي اليسرى. بقيت حوالي عشر دقائق أو أكثر قليلاً بجوار صديقي محمد الذي لفظ آخر أنفاسه. بعد إصابتي كنت متروكاً وحيداً في مستشفى غزة بعد عملية إنقاذ حياة أجرتها لي الدكتورة البريطانية من أصل ماليزي أو سنغافوري، سوي شاي انغ ومساعدتها الممرضة الأميركية اليهودية ايلين سيغل، اللواتي عملن مع أخريات أثناء المجزرة ومع الهلال الأحمر الفلسطيني في مستشفيي غزّة وعكا في المخيمين.
بالنسبة لمصير مرتكبي المجزرة: “العالم الذي يُحقّق بجرائم الحرب الدولية في كل الدنيا تحايل على الدعوات التي أُطلِقت للتحقيق في مجزرة صبرا وشاتيلا وأفشلها عن سابق إصرار، حتى أن بعض الدول الأوروبية مثل بلجيكا وفرنسا وبريطانيا قامت عمْداً بتعديل القوانين المحلية من أجل عدم تمكين الضحايا الفلسطينيين واللبنانيين من رفْع دعوات قضائية وجلب القادة الصهاينة لمحاكمتهم في محاكم مجرمي الحرب الدوليين.
يسألني وسألني البعض: هل كنا نتوقع غزو شارون لبيروت الغربية بعد اغتيال أسوأ لبناني على الإطلاق أي بشير الجميل.
طبعاً كان شارون يحلم بذلك حتى قبل مقتل بشير الجميل وكانت تلك أمنيته الكبرى بع حصار دام ثلاثة أشهر ولم يستطع خلاله دخول بيروت الغربية.
لكنه دخلها بعد أن رحل حماتها وغادروها على متن السفن … أما نحن فقد كنا من الشباب أو الشبيبة فتيانا وفتيات وكل من تبقى من مجموعتنا الصغيرة في بيروت ولم نرحل مع المقاتلين الفلسطينيين بحرا إلى شتات جديد… أقول كل من تبقى على الأقل من التنظيم الذي عرفته وكنت جزءا منه (جبهة التحرير الفلسطينية) التي كان أمينها العام الشهيد طلعت يعقوب، ونائب أمينها العام الشهيد أبو العباس (إنشق لاحقاً عن الجبهة)، وعضو أمانتها العامة ومكتبها السياسي آنذاك أبو ناصر – عبد الفتاح غانم، الذي أيضاً (إنشق لاحقاً عن الجبهة). هذا الأخير رفض الانسحاب من بيروت فكان أعلى مرتبة تنظيمية للجبهة بقيت في لبنان، وكان القائد في تلك المواجهة بحكم ذلك وبحكم وجوده في الميدان ورشاشه على كتفه. تم اعتقاله فيما بعد المجزرة بقليل من قبل المخابرات اللبنانية التابعة لآل الجميل وللفاشيين الانعزاليين، حيث بقي في السجن لأكثر من سنة ونصف. كذلك بعد المجزرة اعتقل أيضاً اثنان من قادة الجبهة هما الصديقان أبو نضال الأشقر اللأمين العام للجبهة حاليا، والذي كان معنا في بيروت ولم يغادرها. كذلك اعتقل الرفيق والصديق محمد ياسين عضو قيادتها المركزية ومسئول ساحة لبنان الآن. فيما استطاع الرفيق والصديق علي عزيز – أبو باسل – الناطق الرسمي بإسم الجبهة حالياً وعضو لجنتها المركزية في ذلك الوقت، التخفي وقيادة الجبهة تحت الاحتلال في لبنان إلى أن استطاع الوصول لاحقا إلى الجزائر ومن هناك الى دمشق.
لا يمكنني ما دمت حياً أن أنسى شجاعة الرفيق علي عزيز وجرأته وتحديه للاحتلالين الصهيوني والقواتي الانعزالي، إذ ذات يوم وخلال وجودي بعد إصابتي على سرير العلاج في الجامعة الأمريكية في بيروت، التي كانت محتلة ومستباحة، فاجأني بوقوفه أمامي في غرفة المستشفى واحتضانه لي ومواساتي بكلمات رفاقية راقية. بقدر سعادتي بتلك الزيارة قمت بلوم رفيقي أبو باسل على مغامرته تلك. لكنه قال لي سيأتي فلان ويكون حلقة الوصل بيننا (أتخفظ عن ذكر إسمه بدون موافقته فهو الآن كاتب وأديب ومفكر لبناني مرموق)… قال علي عزيز سنواصل المسيرة يا رفيق نضال… قلت بالتأكيد إن خرجنا أحياء من هنا … بالفعل واصلناها ولازلنا نواصل بالرغم من كل الصعاب، ففلسطين تستحق من كل فلسطيني أن يقدم لأجلها الغالي والنفيس.
في اليوم الأول لدخول العدو الى بيروت الغربية قمنا بتجميع أنفسنا واستطلاع أماكن تواجد الصهاينة في الفاكهاني، ثم شننا عليهم هجمات أخرجتهم من كلية الهندسة ومنزل الرئيس الراحل عرفات قرب كلية الهندسة ومن ثكنة ال17 والعمارات الملاصقة والمقابلة لها. حيث تراجعوا الى شارع بيروت – صيدا قرب المدينة الرياضية ومحطة أبو سعيد والكولا ومقر الانروا حتى السفارة الكويتية. فيما أصبحت العمارات هناك هي خط التماس والمواجهة بيننا وبينهم في تلك المنطقة. بنفس الوقت كانت دباباتهم تتمركز مكان حاجز الكفاح المسلح الفلسطيني على مدخل الفاكهاني قرب المدينة الرياضية، عند الطريق المؤدي إلى مخيمي شاتيلا وصبرا وحي الداعوق والخ. هناك خضنا معركة غير متكافئة استمرت عملياً من الخامس عشر الى وحتى السابع عشر من أيلول سبتمبر 1982.
بدورنا كنا المجموعة الوحيدة شبه المنظمة والأكثر عددا مع أنه كان عددنا قليل أيضاً. كنا نحو 20-30 من الرفاق والرفيقات الفلسطينيين واللبنانيين والعرب. كان معنا فدائيات وفدائيون من جبهة التحرير الفلسطينية فلسطينيون وأردنيون ولبنانيون وسوريون ومصريون وتونسيون. وهنا لا بد أن أذكر بعض الأسماء للتاريخ ، لأن هؤلاء المقاومين يجب ان يذكرهم التاريخ.منهم-ن: الرفيقة سمر من مصر، الرفيقة غادة من سورية، الرفيقة مريم من لبنان ،الرفيق أبو رفيق التونسي، الرفيق بدر الجولاني، الرفيق أبو خليل، الرفيق محمد شاتيلا، الرفيق فرج شاتيلا، الرفيق جورج شاتيلا، الرفيق جميل ابن جبل العرب في لبنان وشقيقه الرفيق سمير (لا أريد ذكر اسمهم العائلي). كان هناك الرفاق والأصدقاء منذ الطفولة في مخيم عين الحلوة، عبد القادرالسيد، جمال العلعل، خالد الراشد (الثلاثة من مرافقي الشهيد القائد طلعت يعقوب) والراحل وائل الخطيب. كذلك الرفيق الشهيد محمد علي – أبو الفدى – لبناني استشهد بنفس الصاروخ الذي أطلقته دبابة الميركفاه وأصبت أنا أيضا فيه. وكان ذلك حوالي الساعة العاشرة أو العاشرة والربع صباحا بتوقيت بيروت يوم 17-9-1982، خلال تصدينا للدبابات الصهيونية التي كانت تضيء وتقصف المنطقة والمخيمين .
أصبت بالضبط على جدار ثكنة ال 17 في الفاكهاني، حيث كانت المسافة التي تفصل بيننا وبين الدبابات الصهيونية لا تتجاوز العشرين مترا. بعد اصابتي واستشهاد الرفيق أبو الفداء (من مرافقي الشيهد القائد طلعت يعقوب) قام كل من أبي رفيق التونسي وبدر وعبد الفتاح غانم والآخرين بتغطية عملية إسعافنا وإيصالنا الى أقرب منطقة آمنة ثم نقلنا إلى مستشفى غزة في مخيم شاتيلا. كان أيضا ضمن المسعفين الرفيق أبو خليل وهو عم الشهيد محمد علي أبو الفداء، ابن بعلبك، مدينة التاريخ والقدم في لبنان. الذي استشهد معي في نفس المكان وبنفس القذيفة.
لم أعد الآن اذكر من كان معنا أيضا من الرفاق والرفيقات لذا اعتذر لمن نسيت ذكر أسماءهم-ن.. ولكن للتاريخ أقول انه كان معنا هناك في محور المدينة الرياضية – الفاكهاني – الكولا، أيضا أخ واحد من فتح، أخ واحد من منظمة أنصار الثورة وأخ واحد من قوات صلاح الدين واخ واحد من القيادة العامة. وكان هناك أيضا شهيد سقط في المعركة مع الصهاينة على مفرق الداتسون قرب مكتب طوارئ جبهة التحرير الفلسطينية وكلية الهندسة، أيضا لم أعد أذكر اسمه وجنسيته.
في مكان آخر قريب منا كان هناك الرفيق غازي ابن مخيم برج الشمالي زميل الرفيق الدكتور البرقاوي في مستوصف الجبهة بحي السبيل حيث مقر الأمين العام الرفيق طلعت يعقوب والأمانة العامة للجبهة.
كما وللتاريخ يجب ذكر بعض الرفاق من أبناء شاتيلا وصبرا وبرج البراجنة الذين قاتلوا مع رفاق لهم من الجبهة الشعبية، وجبهة التحرير العربية بقيادة صديقي الشهيد فيما بعد محمد حسين أحد القادة التاريخيين لمخيم شاتيلا وصموده أثناء حرب المخيمات فيما بعد، حيث استشهد في قلب المعركة والحصار.. أذكر أن محمد حسين بعد خروجي من العلاج في مستشفى الجامعة الأمريكية في فبراير- شباط 1983 ، حملني أنا وعربتي النقالة ، هو و شقيقه الشهيد أيضا فيما بعد بحرب المخيمات، وصعدا بي درجا إلى غرفة خاصة بمنزل العائلة بمخيم شاتيلا، حيث عرض أمامي فيلم فيديو عن المجزرة والحرب الأخيرة، ظهرت فيه أنا بعد إصابتي، وكنت متروكا وحيدا في مستشفى غزة بعد عملية إنقاذ حياة أجرتها لي الدكتورة البريطانية من أصل ماليزي سوي شاي انغ ومساعدتها الممرضة الأمريكية اليهودية ايلين سيغل، التي كانت بدورها متطوعة كممرضة في مستشفى غزة أثناء وقوع المجزرة. وقد ساهمت الين سيغيل كما د. سي شاي انغ والممرضتان النرويجية والسويدية في انقاد حياتي عبر إصرارهن لدى الصليب الأحمر على نقلي من مستشفى غزة الى مكان آمن آخر، كان أولاً مستوصف اللاهوت في شارع الحمراء ببيروت، لكن هناك تدهورت حالتي بعد ثلاثة أيام وأصابتني غرغرينا أدت إلى بتر ما تبقى من ساقي المبتورة” تدخلت ممرضتان نرويجية وسويدية وأصرتا على نقلي الى الجامعة الأمريكية وقامتا بذلك عبر الصلب الأحمر. كانت برفقتهما إبنتا عمي “نهاد” و”نيرمان”، اللتان لهما فضل كبير جدا جداً في بقائي على قيّد الحياة بعد الاصابة. ولا أنسى الدور الانساني والأخوي والبطولي للمرضة الفلسطينية الشجاعة والوفية دنيا الكيّ. بقيت بقربي على سرير المستشفى ومريلوها الأأبيض مصبوغ بدمي، بقيت معي هي ونيرمان وربما الأخت زاهرة حتى آخر لحظة وعند اقتراب الكتائبيين والفاشيين القواتيين (جماعة المقبوران بشير الجميل وإيلي حبيقة وزميلهما المجرم سمير جعجع). عند اقترابهما من المستشفى غادرن المكان وظن أنني قتلت مع من قتلهم السفاحون خلال دخولهم مستشفى غزة صبيحة السبت الموافق 18-9-1982. لم تدرين إلا بعد مرور وقت أنني اصبحت في مستوصف اللاهوت قرب شارع الحمراء والجامعة الأمريكية. هناك لم أكن بوضع صحي يسمح لي بتذكر الكثير، لكن تعرف علي أحد الممرضين وهو فلسطيني من بلدتي الصفصاف ومخيمي عين الحلوة، إنه الأخ طلال فرهود. كما هناك زارني وعرف بمكاني العم أبو إسماعيل حمد وعائلته، التي كانت أيضا سبباً في عدم عذابي أكثر مما تعذبت بعد إصابتي، إذ أنهم احتضنوني لأشهر عديدة. المهم بعد اللاهوت نقلت إلى الجامعة الأمريكية وتابعت إلين سيغل زيارتي هناك وفي احد الأيام طلبت مني عنوان والدتي واسمها ولا أدري لغاية اليوم لماذا. كما كان هناك أيضا ممرضتان واحدة نرويجية والأخرى سويدية عملتا مع الهلال الأحمر الفلسطيني في لبنان ، شاءت الصدفة أن التقي بهما في أوسلو بمؤتمر فلسطيني بعد 25 سنة من المجزرة وهذه قصة أخرى نتركها للحديث عنها فيما بعد. المهم أنني رأيت نفسي في الفيلم عند الشهيد محمد حسين، وكنت على سرير أبيض مغطى ببقع الدم الحمراء، فيما كانت النافذة مفتوحة على مصراعيها والريح تعصف بالغرفة… يبدو أنني كنت أتفوه وأتمتم بكلمات غير مفهومة، لا أدري ماذا قلت، كانت كلماتي غير مفهومة.
هناك أيضا جنديات مجهولات وبطلات فلسطينيات من بنات مخيماتنا هن : الممرضة دنيا التي بقيت تساعدني وتعنى بي مع الأختين نيرمان وزاهرة . كما كانت هناك الأخت نهاد والزهرة ناديا. ووالدة كل الفدائيين الفلسطينيين والعرب، العمة الراحلة أم إسماعيل حمد. يجب أن أذكرهن وأذكر تضحياتهن وبطولاتهن في تلك الساعات. وسوف نتحدث عن ذلك في رواية أخرى.
بعد انتهاء الفيلم الذي شاهدت نفسي فيه، وضع الشهيد محمد حسين كاسيت فيديو وشاهدنا معا مسرحية مدرسة المشاغبين وأذكر أنني كنت من كثر الضحك أتألم وأشعر بالألم في جراحي. كان يوما رائعا يا محمد رحمكما الله أنت وشقيقك الشهيد. فيما بعد محمد استشهد وكذلك شقيقه ورحلت والدته عن الحياة ودُمر مخيم شاتيلا وهُدم منزل العائلة وضاع الفيلم المذكور.
أذكر انه في البداية ، في اليوم الأول للمواجهة ، كانت هناك مجموعة تابعة للحزب الشيوعي اللبناني قاتلنا معا على محور الكولا الجامعة العربية. أذكر أحد أفرادها أصيب في رقبته بطلقة قناص صهيوني. كان ذلك قرب مبنى إذاعة صوت الثورة الفلسطينية خلف منزل الشهيد القائد طلعت يعقوب أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية على شارع عفيفي الطيبي. هذا الشارع كان تعرض لسيارة مفخخة أسفر انفجارها عن استشهاد وجرح المئات ومنهم الحاج سامي أبو غوش احد قادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وأصيب فيها بجراح الرفيق الراحل طلعت يعقوب أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية ، الذي رفض الإعلان عن إصابته كي لا يحقق الأعداء نصرا إعلاميا بإصابته وباستشهاد الحاج سامي كذلك. وأنا كذلك أصبت يومها بجرح طفيف جراء تناثر الزجاج نتيجة الانفجار.
الشاب الذي أصيب في رقبته كان على ما أظن من الحزب الشيوعي اللبناني، هرعت لسحبه وإسعافه، ثم شاهدت سيارة مدنية لبنانية طلبت من الذين كانوا بداخلها ان ينقلوه الى مستشفى المقاصد القريب فرفضوا، ما اضطرني لشهر السلاح بوجههم ووضعه في السيارة بالقوة. ثم عدت إلى موقع المواجهة عند كلية الهندسة دون أن أعلم ما الذي حل بالشاب الجريح ومن هو والخ…. أذكر فقط أنه كان شابا طويل القامة.
في مستشفى الجامعة الأمريكية كانت رائحة ساقي المبتورة من تحت الركبة والتي أصيبت بالغارغارينا بسبب نقص المواد الطبية في مستشفيي غزة واللاهوت، كانت ريحتها نتنة ولا تطاق، هكذا خبرني أصدقائي الجرحى في المستشفى فيما بعد. كانوا يضحكون ويقولون كانت “الرائحة القوية والنتنة” تصل إلى المصعد وهو الذي كان يوجد في مكان بعيد عن غرفتي.
هناك أجريت لي عمليات عديدة تم خلالها استئصال ما تبقى من ساقي ليصبح البتر شاملاً ولم يتبقى أي شيء يذكر من ساقي اليسرى.
كنت أمزح مع أصحابي وأقول لهم استهدفوا رجلي العقائدية.. لأنني كنت أنتمي لتنظيم فلسطيني يساري.. بتروا ساقي اليسارية لكنهم لم يبتروا انتمائي لفلسطين وللمقاومة…
في مستشفى الجامعة الأمريكية ألتقيت من جديد برفيقي الدرب والطفولة خالد ووائل الذين فقدتهما يوم اصابتي. علمت منهما أن صديقين آخرين لي هما عبد القادر وجمال قد اعتقلهما الجنود الصهاينة في نفس وقت إصابتي بجراح وهكذا تحولا الى أسيرين لدى الاحتلال.
كان خالد ينام في الغرفة بالمستشفى ويقوم بمساعدتي وبنفس الوقت يتخفى ويبتعد عن الفاشيين الذين بمساعدة جيش الاحتلال الاسرائيلي كانوا يلاحقون الفلسطينيين.
هناك أيضاً ساعدنني بنات عمي أبو اسماعيل حمد، بالإضافة لشقيقهم أحمد.
اقامتي في مستشفى الجامعة الأمريكية استمرت شهوراً عديدة ثم شهوراً أخرى في مخيم شاتيلا الذي كان لازال جريحاً وينزف بشدة بعد المجزرة،، بقيت هناك لغاية سفري الى ايطاليا للعلاج. ربما ستكون رواية عظيمة لو تمت كتابتها… ويا ريت يوماً ما أقدر أن أكتبها. في ختام هذه الشهادة لا أذكر هل قلت لأخي وصديقي خالد – أبو وليد- شكراً على كل ما فعله لأجلي في ذلك الوقت.. على كل حال أقولها له الآن: شكراً أخي خالد فقد كنت نعم الأخ والصديق. أما صديقي وأخي وائل الخطيب فلن استطيع شكره لأنه توفي فيما بعد.
ملاحظة:
هذه الشهادة هي جزء من مذكراتي عن حصار بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا 1982. سوف تكون ضمن كتاب مستقبلي عن تجربتي وكفاحي.
نضال حمد
أيلول – سبتمبر 2023