شهريار يرحل وحيدا… – قصّة: رشاد أبو شاور
لا أدري كم أمتد نومي على هذه الحالة.
يدي تحت رأسي، وعنقي ملتو، وتنفسي مضطرب حتى لأكاد أختنق.
لا يد تربت بحنان على رأسي، أو كتفي، أو تداعب خدي، لتنبهني بسلاسة إلى أن نومي سيء، وأنه يوجد من يهتم بي، وبراحتي.
لم أجدها حيث ننام في مقصورتنا. تأملت الفراش الخالي، وتساءلت: منذ متى كفّت عن رواية الحكايات التي كانت تأخذني إلى عالم ساحر، وغريب، و..النوم الهانئ، وأنا أريح رأسي في حضنها، كما لو أنني طفلها.
تحاملت على نفسي، وأنا أترنح، وتوجهت إلى جناح ولدينا، وحين دفعت الباب الموارب، رأيتها تتمدد في سرير ابننا الأصغر، بينما هما يريحان رأسيهما على ذراعيها، وهي تستلقي على ظهرها، وشعرها الأسود ينبثق من تحت رأسها، ويؤطر وجهها الغافي المطمئن.
لبثت أتأملها هي وابنينا، ولوهلة شعرت كأنني غير موجود، فحضوري لا يلفت انتباهها هي والولدين.
تساءلت، وكأنني أوجه سؤالي لها، دون أن أنتظر جوابا: منذ متى اعتدت تركي نائما في جناحي الملكي، وحيدا، لتنامي مطمئنة بين طفلينا الغارقين في سبات عميق على ذراعيك اللذين ياما أرحت رأسي بينهما، وغفوت عميقا، لا أتقلب، ولا تقلقني الوساوس بفضل حكاياتك التي هدهدت قلق روحي المضطرمة بنيران حارقة؟! أبّت يا حبيبتي تستمتعين برواية الحكايات لهما أكثر من روايتها لي؟!
خطر ببالي أن أشدها من أصابع راحتها الجميلة، لأوقظها، وأزجرها بصوت راعد، لم أكن قد فجّرته في وجهها منذ ليلة بدأت أخذي إلى عالم حكاياتها في ليلة زواجنا الأولى، والذي ياما أرعد في وجه كل فتاة تزوجتها، وهو ما كان ينذر بوضع حد لحياتها.
وددت أن أصرخ بأعلى صوتي: ماذا فعلت بي؟! كيف تهجرينني، وتنشغلين بابنينا، وكأن..وكأن..وكأنني شيء لا لزوم له؟!
يا إلهي: أأغار من طفلّي؟!
منذ دخلت قصري لم يعد جنسها ملعونا، فهي باتت أما لابني الوادعين المفرحين الضامنين لدوام حكم أجدادي من بعدي، بدم نقي لا تشوبه شائبة!.
ولكن: من يضمن أن دما غير نقي لم يتسلل في عروقهما؟ آه ..آه من الشك الذي أكل روحي..حتى..حتى أنقذتني بحكاياتها، ومنحتني الأبوة!
آه! اللعنة على كل شيء. المهم عندي أن هذه السيدة النائمة قد حفظت لي نقاء دم أورثته لطفلي الحبيبين، لقد جعلتها حبيسة القصر لثلاث سنوات، ولم تغب عن (عيوني) في القصر.
ما أدراني أنها أحبتني كما كانت تردد بهمسها المدوّخ، ونحن معا في الفراش، و.. وأنا أريح رأسي على فخذيها، وهي تسكب حكاياتها الساحرة في أذني؟
تنسلل وتمضي على رؤوس أصابعها إلى جناح الأميرين السعيدين بها، اللذين لعلهما ينتظرانها في كل ليلة، بعد أن تنيم أبيهما الملك..منذ متى؟
أتراها ملّت رواية الحكايات لي، أو إنها لم تعد تملك حكايات تنيمني بها؟
اعتدت، وعودتها، أن نتمدد على السجاد العجمي الوثير، وبعد أن تطربني بما ترويه لي، ننتقل إلى السرير…
واضح أنها ملّت منّي، وأن الولدين اجتذباها مني، وأنهم، الثلاثة، باتوا أسرة لا تحتاج لي..وهكذا بت زائدا عن الحاجة!
هل انتهت حكايتنا يا سيدة روحي؟!
كان علي أن أتنبه إلى أن حكاياتك لي باتت سريعة، وأنك صرت تروينها بصوت جاف، وبلامبالاة، وهو ما أفقد مخيلتي متعة التحليق مع نبرات صوتك الهامسة الموحية التي تحملني على أجنحتها إلى بلاد بعيدة، ودنيا لا تخطر على بال بشر.
بماذا تحلمان يا أميراي؟ أتحلمان بما لا أحلم به؟ أنا لا أحلم، فليالي باتت خاوية بعد انتزاعكما لأمكما مني!
أجرجر ساقي تحت جسدي المتهاوي عائدا إلى جناحي الفارغ.
وضعت تاجي الملكي على رأسي، ثم رفعته ووضعته على السرير فوق وسادتين ركنتهما فوق بعضهما. تأملته، وراودتني فكرة تحطيمه، ولكنني دحرت الفكرة.
ها أنا أترك لك التاج، والولدين، والسرير الخالي، بل والمملكة..أمّا أنا فإنني قد عزمت منذ زمن، منذ عرفت أنك تزيحين رأسي عن حضنك، وتهجر أصابعك الرشيقة الحنون رأسي..على الرحيل!
مرّة، وأنا في موكب ملكي مهيب، في الريف، رأيت رجلاً يحمل على كتفه صرّة، ويتوكأ على عصا، وكان يغني، وهو يتمشى بين الحقول، متوجها إلى لا مكان، وباله مرتاح كما يبدو. حسدته، وتمنيت أن أكون مثله، برأس خال، وبال مرتاح، و..مجرّد رجل يتمشى بين الحقول، ويسافر إلى حيث يشاء، بدون حراس، ولا موكب، ولا حاشية…
سأفعل..سأفعل، وحين تستيقظين لن تجدي مليكك، ولن تكوني مضطرة لسرد الحكايات له لتهدهدي روحه الموجوعة.
هيا، فلأعد صرة تحوي بعض الملابس، ولأحمل قليلاً من المال، وعصا عادية من عصي كرومي، ولأمض مع هذا الفجر إلى حيث تأخذني أقداري، ولتؤلف سيدتي حكاية جديدة ترويها للأميرين عن ملك اختفى تاركا عرشه دون أن يعرف أحد إلى أين مضى.
هل ستخبرين الأميرين بأن والدهما الملك تزوج من جنية سحرته وأحبها، و..أخذته إلى مملكة أبيها تحت مياه البحر؟!
لعلّك، عندما ترين عجوزا يحمل بقجة على ظهره، ويمضي متوكئا على عصى بين الحقول، تتساءلين: أيكون قد صار حاله كهذا العجوز، مترحلاً في بلاد لن يعود منها؟!
وداعا لزمن الحكايات، فلأذهب وحدي في حكايتي التي تبدأ مع هذا الفجر…
شهريار يرحل وحيدا… – قصّة: رشاد أبو شاور