صالح عبّود وديمةُ ربيعِهِ في حيْفاهُ!/ آمال عوّاد رضوان
أقامَ منتدى حيفا الثقافيّ برعاية المجلس المِلّيّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ/ حيفا أمسيةً أدبيّة، تناولت “ديمةُ ربيع” للكاتب د. صالح عبّود، بتاريخ 2-6-2016، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان في حيفا، وسط حضور كبير من الأقرباء والأصدقاء والمهتمين، وقد تولت عرافة الأمسية الإعلاميّة وفاء يوسف، ورافق الفنان سار هنو الأمسية بمعزوفات مرافقة، وقدّم مداخلات نقديّة حول “ديمة ربيع” كلٌّ مِن د. منير توما ود. لينا الشيخ حشمة، وقدّمَ الشيخ والأستاذ مصطفى خطيب أبو البراء مداخلةً حول سيرة د. عبّود كطالب، ودوْر المعلم بتمرير مَلكات اللغة العربيّة لطلابه وللكاتب عبّود، ثمّ ألقى قصيدة مخصّصة للأمسية، وقد تخلّل الأمسية قصيدة غزلية مُغناة بعنوان آية للشاعر د. صالح عبود، لحّنها عازف الأورغ الفنان سامر عِلّو، وغنّتها الفنانة حنان عثامنة، وكلمات قصيدة النجاح جميل لد. صالح عبّود ألقاها أبناؤه (بهجة، طه، مصطفى، ومرجان)، وفي نهاية اللقاء شكر د. عبود الحضورَ والمُنظّمينَ والمُتحدّثين، وتمّ التقاطُ الصّورِ التّذكارية!
مداخلة الإعلامية وفاء يوسف: ديمة أمطرت ربيعًا. ساقها الهوى، نفاها النوى، فعادت سطورًا تبكي سرورًا. ديمة أهرقت وعدًا وديعًا وحرفا رضيعًا. أجملُ مساء يَجمعني بكم أعزائي الحضور، من خلال هذه الأمسية الأدبيّة الثقافيّة بامتياز، والتي تقامُ هذا المساء احتفاءً بإصدار ونشر المجموعة الشعريّة “ديمة ربيع”، باكورة الإنتاج الأدبيّ لشاعرنا وكاتبنا المحتفى به اليوم د. صالح عيود، والمهتمّ بالأدب والفكر والنقد، والذي يُقدّم نفسه من خلال ديمة ربيع، عازفًا منفردًا متفرّدًا وطائرًا خارج السّرب، فهو لا يستعير لغته من أحد، تلك اللغة التي يراها القارئ لكتاباته مشتعلة دائمًا، تمسك بقارئها وتلسعه كلماتها كألسنة النيران، فيقف قارئ كاتبنا أمام ذاته ناقدًا، باكيًا، ضاحكًا، ومسكونًا بآلاف الأسئلة، لأنّ كاتبنا قويُّ الحدس في انتمائه وعشقه وعلاقته مع الكلمات، وفي لكلماته منحازٌ إلى الحرّيّة والجَمال والعدل، وله طقس نادر في حب البلاد وعشقه لها.
* “ديمة ربيع” ديوانٌ يقدّمُ كاتبُنا ما هو مغايرٌ عن المألوف في قيمِهِ وعواطفِهِ وانكساراتِهِ وأحلامِهِ، وهو بارعٌ في اقتناص السعادة المتجوّلة بين الكلمات، وهو شاعرٌ في كلّ نصوصه، فتولدُ قصائدُهُ ونصوصُهُ حاملة صورته واكتشافاته في الحياة واللغة، وكما قيل: لكي تكون شاعرًا عظيمًا يجب أن تكون صادقا، ولكي تكون صادقا يجب أن تكون حُرًّا، وهكذا هو كاتبُنا الذي ينصهر في شعره وفي ديمة ربيع، نراهُ ملأ الدنيا شعرًا وشغل الناس فعلا.
مداخلة د. منير توما: عند قراءتنا لقصائد مجموعة “ديمة ربيع” للدكتور صالح عبّود نكاد نلمس تلك النزعة الذاتانيّة السوداوية في عددٍ ليس بالقليل من القصائد، حيث يُشعرُنا الدكتور عبّود بمدى الألم وخيبة الأمل من مواقف عديدة يعايشُها ويُعاصرُها في هذا المجتمع خاصةً والحياة عامةً، فالأجواء التي تكتنف ألفاظ ومعاني العديد من القصائد هي أجواء القلق والابتئاس والإحباط التي لا تبعث في نفس القارئ أو السامع مسحة من البهجة أو الفرح الداخلي , فالكلمات كما لا يخفى علينا هي معمار المعاني التي تعكس الشكل والمضمون نظرًا لتكاملهما في عالمي الشعر والنثر أو الأدب على وجه العموم.
وإنّه لمن دواعي الإنصاف والإشارة بشاعرنا أن نشيرَ الى أنه يجمع في عددٍ لا بأسَ به من القصائد بين وجدان رومانسي مشبوب وحس قوي بالواقع يحمل في ثناياه أبعاداً موحية في أنٍ واحد . ولكن مع كل هذا تظلّ الروح القاتمة الدكناء هي المهيمنة على معظم قصائد الكتاب , ولكن بنغمة هادئة لطيفة لا تتعمّد الإبتعاد عن الحيوية والنضارة أسلوباً ولغةً ً ونصاً شاملاً .
إنَّ الحفاوة باللغة والتصارع مع كلماتها وإيقاعاتها همٌّ مخامرٌ لشاعرنا فهو لا يفتأ يتأمل دلالاتها الصوتية والدلالية والنحوية والمعنوية، وطابَعَها التعبيري المرير للحال الكئيبة التي وصل اليها الإنسان العربي في هذه الأيام، مُتّخِذاً من نفسِهِ معادلاً موضوعيًّا في بداية القصيدة التالية، ليسترسل في السطور اللاحقة بالحديث تعميمًا حول ألمهِ واستيائِهِ ممّا يحدق بالعروبة.
وقصيدة “لُطفَكَ يا إلهي” (ص26) التي نحن بصدد الاقتباس منها لهي خيرُ دليلٍ على هذه المعاني حيث جاء فيها: ودَّعتُ لهفي والتحفتُ خريفا/ وجَرَعْتُ من نجعِ الجفاءِ لهيفا/ وشربتُ من سوءِ الطوالعِ جفنةً/ وطعمتُ من مرِّ القضاءِ رغيفا/ هل يهنأ العربيُّ في أوطانهِ/ ما دامَ يحيا مُقترًا وشظيفا/ أينَ الهناءُ وكلُّ أرضٍ سادها/ قتلٌ يُعَبّدُ بالدماءِ رصيفا
اللافت في هذا المقطع الطابع الاستعاري الذي يضفي على مضمونها الأصالة والتفرّد لغوياً وبلاغيًّا. وقصيدة “زماني” (ص34) تبلغ قيها الصورة الشعرية حداً ملحوظاً من الذاتانيّة السوداوية، كأنما حروف الشاعر مصبوغة بألوانٍ دكناء قاتمة لا تبشِّر بخيرٍ نحو الشاعر الذي يندب وينعي زمانه القبيح ذا الوجه الصفيق . وفي هذا تقول القصيدة: يأبى الزمانُ/ بأن يكون رقيقا/ يرميني عمرًا/ هائماً وغريقا/ لا يستحي منّي/ فيذكرُ أنّهُ/ أمسى قبيحًا/ وجهُهُ وصفيقا/ أمشي وحيدًا/ لا ألوذُ بوجهةٍ/ صمتي رفيقُ/ يشتهيني رفيقا/ ودمي يسيلُ/ من الجروحِ كأنهُ/ يسعى حثيثاً كي يَفِرُّ طليقا.
إنَّ الخبرة في هذه المجموعة الشعرية خبرة وجودية عاشها صاحبها الشاعر واكتوى بنارها وعرف – وهو الذي يعيش هذه الأوضاع المؤلمة البائسة للعروبة – أنماطا من الحياة متباينة، ومرَّ بخبراتٍ منها ما يبعثُ على الفرح وتنتشي له النفس ومنها ما يملأ القلب هَمًّا، والروحَ حبوطا، والعقل حيرةً في بيداء من الظنون والأوهام. ولنأخذ مثلاً تجربة الإيمان وما تتعرض له من زعازع كما يصورها شاعرنا في قصيدة “مِنّةُ رمضان” (ص 66): رمضانُ أقبلَ والأمورُ تسوءُ والعُربُ في شرٍّ رأيتُ تنوءُ/ شَهَرَتْ ديارُ العُرْبِ كُلَّ أسِنَّةِ/ صارتْ دماءُ المسلمينَ وَضوءُ/ بَلَغتْ سيولُ الكُرْهِ كًلَّ أفِجَّةٍ/ ما عادَ فينا مُصلِحٌ وَرَقوءُ/ يا ربِّ أكرِمْ مؤمنيكَ بشهرِكَ/ خيرُ العطاءِ إذا مَنَنْتَ هُدوءُ.
وتبلغ المشاعر السوداوية ذروتها لدى شاعرنا في قصيدة “سهرٌ موتورٌ” (ص88)، ففيها العنصر الوجداني المُفعم بالشجن، والأقرب الى الاستبطان والانكفاء على دواخل النفس، يتخللها نبرة تأملية حزينة ذات لحنٍ ينطوي على أنغامٍ جنائزية ٍ تُؤَطِّرُ للآلامِ ذاتهِ. والمقطع التالي من هذه القصيدة يعكس هذه الروح : فحياتي نارٌ وجمارٌ/ لا تخبو/ كي أرتاحَ مدفونًا/ في رمدٍ ورمادْ/ أبكي مسمولَ العينينِ/ في وجهي أوديبُ يقتادْ/ يا دهرًا/ أسقمتَ هوائي/ أذهبتَ بهائي/ اِرحمْني/ أحتاجُ شفائي/ منْ خَنقٍ يزدادْ.
ويستأنفُ شاعرنا في قصيدة “رجاء” (ص104) رحلتهُ التعبيرية في صحراء الألم بتمازجٍ مركّب بين جسدانية العالم وعقلانية القلم والشعر فيقول: أبكي النَّوى/ ويَشولُني الوجْهُ/ سحًّا وشَجيبَا/ يا حِبْرُ لا ترْحَلْ/ وحيدًا فاردًا/ زوِّد رحالَكَ/ وفرةً ونصيبا/ خُذ في بكاركَ/ من شجوني آهَةً / آهاتُ نفسي/ عَجَلتْني كئيبا/ إنَّ ارتحالَ الحِبْرِ/ في بحرِ الجوي/ يشفيني داءً/ إنْ عَدِمْتُ طبيبا
وهنا نرى شاعرنا يقتفي أثر الشاعر الحداثي في أنّه أوغلَ في الغوص على أعماقِ ذاتهِ , ولم يعد يعكس الواقع الخارجي بقدر ما يعكس دراما داخلية حافلة بالرموز والذكريات والمخاوف والرغبات الشخصية , أي أنّه في هذا السياق يكون الشاعر صوتاً لذاتهِ الداخلية .
ويستمر شاعرنا في معايشة الأجواء السوداوية الأليمة المحيطة بعالمه ِ ليصل في قصيدة “ميلاد جديد” (ص119) الى انطلاقة جديدة لديه بالدعوة الى الخلاص، مشيرًا الى رسالة السيد المسيح بفداء البشر، بغية تحقيق الخلاص من الآلام والشدائد والنكبات المحدقة بالعالم، وبهذا الشرق الذي يعاني النوائب والكوارث الإنسانية وكافة أشكال الموت فيقول: يا فاديًا، قد آنَ وقتكَ فالخلاصْ/ فالشرقُ منكوبٌ/ والحبُّ مصلوبٌ/ فوق َ جُلجُلةٍ من حرائقَ ورَصاصْ/ باعَنا حقدُنا واشترانا فَقْدُنا/ في دربِ الآلامِ/ وسلاسلِ الأيّامِ/ وباتَ وجعُ الموتِ/ أهونَ من حياةٍ/ في جحيمِ الأصنامِ/ غاب َ المسيحْ../ غابَ في ملكوت ِ السماءِ/ وأرضُ الرَّب يسكُنها الجنونُ/ وشرٌ فسيحْ../ يحكمُها الأنين ُ ونارُ القهرِ/ تحرقُ قلبًا لا يستريحْ.
في هذه القصيدة نرى أنَّ الصورة الشعرية تبلغُ حداً فائقا من التوهُّج، حيث أنَّ الذاتي الخاص يتقاطع ويلتقي مع الخارجي الأشمل، على نحو يدعم الفكرة المطروحة ذهنياً وحسّياً ووجدانيًّا.
وأخيرًا وليسَ آخرًا، يمكن القول أننا كنّا في مجموعة الدكتور صالح عبّود “ديمة ربيع” إزاء شاعر مفكِّر، له عين نافذة يُجيلها في زوايا العصر وأركان الذات، فيُنيرُ ما استخفى من الخبايا على الصعيدين الذاتي والعامّ، بكون الجزء يمثِّل الكلُّ، وبالتالي يلفتنا الى الغريب والمألوف بعقلٍ نيِّر، يبغي مخاطبة القارئ بكُلِّ سهولةٍ وسلاسةٍ وانسيابيّةٍ وتدفُّق، ويسعى إلى تحقيق التوازن الصّعب بين عنصر الفكر وعنصر الوجدان اللذيْن يندرجان أوّلًا، وأخيرًا، في دائرة ذاتانيّة الفرد، باعتبارهِ تمثيلًا للكثير من الأنماط البشريّة ومكوِّنات النفس الإنسانيّة، وذلك من خلال الرؤية الواضحة لشاعرنا ومعجمِهِ اللفظيّ، الذي يجمع بين تحدّد المعنى وغنى الإيحاء، فله منّا أصدق التحيّات وأجمل التهاني بصدور باكورة إنتاجه ُ الأدبيّ هذا، مع أطيب التمنّيات له بالتوفيق، والمزيد من الإبداع والعطاء .
عن د. لينا الشيخ حشمة: أديبة ومُحاضِرة حاصلة على اللقب الأوّل في آداب اللغة العربيّة والتربية من جامعة حيفا، حازت على اللقب الثاني من جامعة حيفا، وحصلت أطروحتها للماجستير على درجة امتياز خصّصتها لأدب السجون، بعنوان الحرّيّة والرقيب في أدب الخليج، وحصلت على الدكتوراه من جامعة حيفا، وأطروحتها تمحورت حول أدب السجون، بعنوان الحرية والرقيب في مصر سوريا والعراق، وتعمل محاضِرة في كليّة ديفيد يلين في القدس، ولها كتاب قيد الطباعة بعنوان “أدب السجون في مصر وسوريا والعراق”، ومِن مقالاتها حرّيّة المرأة الإبداعيّة والثالوث المُحرّم، وأدب السجون رحلة الاغتراب والهزيمة.
مداخلة د. لينا الشيخ حشمة: ديمةُ ربيعٍ هي حكايةُ شعريّةٌ تفترش أرضَ الأمل في ديمومة ربيع. هي حكاية تلتحف السماء بمطر يدوم سقوطه في سكون؛ في ربيع بلا رعود أو بروق. هي حكاية الحياة بعذاباتها. هي الشّوق إلى الخلاص.هي جدليّة الهوى في ظلال النوى. هي ديمةُ سطورٍ سكبت حرفا..
تسعى هذه المجموعة إلى سبر الأغوار الإنسانيّة العميقة، فتعنى بالإنسان والوجود. يستقي الشاعرُ مضامين صوره الشعريّة من هذا الواقع المهشّم المتشظّي، من عذابات الإنسانيّة المفجوعة بصليبها وجرحها النازف. فلا يترك حديقة إلّا ويرتوي منها، ولا يمسك زهرًا إلّا ويتعطّر منه، ولا يلمس شوكًا إلا وينزف منه. ومن مواجع الألم ودوافع الأمل ينزف حبره ألمًا وتفيض نفسه سرورًا.
يطرق مواضيع شتّى لامسًا بيراعه الغزل والمرأة، ثمّ مسجلًا احتجاجه الإنسانيّ والقوميّ، متناولًا مأساة الشّعوب العربيّة في ظلّ أنظمة قاهرة قامعة. كما نالت القضايا الاجتماعيّة حيّزًا من اهتماماته. وعدد من قصائده ذاتيّة وجدانيّة تغزوها ملامح القلق والاغتراب، باحثة عن الذّات والوجدان في تيه الزمان وسلب المكان. يتعانق صالح في كلّ مناسبة والكلمة، وكأنّي به أراه خطيبًا بارعًا ينظم شعرًا في كلّ مناسبة، أو كأنّي أراه شاعرًا يحسن يراعه رسم الصورة الشعريّة. فإذا جاء حيفا غنّى بها ولها، وإذا قدم يافا زيّن لها الكلمة، وإذا حلّ تشرين تغنّى به، وهو يهلّل كذلك لميلاد المسيح، ولهجرة الرسول ولجدّه وغير ذلك الكثير. فصالح يعشق الكلمة، يجعلها أداة لبنانه طيّعة. يرسم المضامين، يصوّرها، يسطرها، وبالكلمة يخلّدها.
وكثيرًا ما نلمس خطابًا مباشرًا، مرشدًا القارئ، إيّاه واعظًا، يكسبه من وعي تجربته، ومن مزايا خلقه، يدعوه إلى التّحلي بالقيم السامية، والتزيّن بالأخلاق الراقية. ولمّا كانت الحياة لا تدوم إلى الأبد يأتي صالح ويذكّر المتلقي، يذكّر فيه الإنسان بأن يختار منهجًا رفيعًا وعملًا جميلًا. ثمّ يرتقي إلى قمم الإنسانيّة، إلى الأمّ وجنانها. أمّا المرأة فيراها محارة الكون ودرّته، كنه الوجود وقرّته، مؤكّدا على دور حوّاء في هذا الوجود، مشيرًا إلى مكانة المرأة في ظلّ مجتمع ذكوريّ سلطويّ. ولا ينسى منفعة العلم وضرورته، والنجاح وجماله؛ فالعلم صديق خليل، والجهل عليل. ناهيك بالهمّ الإنسانيّ الذي يبثّه في قصائده فيظهر فيها داعية للسلام والوئام.
أمّا في الهمّ القوميّ فنرى صالحًا ينزف جرحًا ويذرف دمعًا، فلا يغضّ له طرف ولا يغمض له قلب، فيبكي العروبة وآلامها، ذارفًا آهاته، مصوّرًا حسراته، شاكيًا وحشيّة القهر في ظلّ أنظمة قمعيّة باتت تحوّل الإنسان إلى مجرّد رقم ملطّخ بالدّماء، رقم زائد في وطن رهين الشقاء، بل دماؤه تعبّد الأرصفة وتغطي ظلال السماء. متسائلًا إلى متى، متوجّهًا الى الله مناجيًا، مستغيثًا شاكيًا.
وديمة ربيع لا تخلو من الحبّ والغزل، فمن الحبّ عنده ما قتل، نراه عاشقًا يلتاع جراح المُقل، متيّمًا يذوق طعم الهوى، معذّبًا بالحنين والجوى، فيئنّ الوقت عنده وتطول الليالي، ويحلو صوتها؛ صوت الحبيبة، ويرجو عينيها، وكم من مرّة يخاطبها؟! وكم من مرّة يظهر ضعفًا وهوانًا؟! لكنّه لا يرى بانكساره لأجلها هوانًا أو ضعفًا بل راية و انتصارًا. ولعلّ قصيدة “أحنّ إليها” تكشف عن هذا العاشق الذي تمور في نفسه اللوعة.
وللحبيبة يسكب حروفه بقلبه النشوان، لمفاتنها ينظم بقوافيه سحر البيان، ناقلًا ياقوت الشعور من القلب إلى البنان، واصفًا حسنها بعينيه قبل اللسان، مصوّرًا جوى روحه، كاشفًا ما يجيش في حنايا ذاته، فبسمة الحبيبة عيد وفرح، فتنت فؤاده، روت حياته. وهو إنْ نظر الى وجنتيها سئم الكرى وطلب السهر. وفي شَعرها يقول: روض يحفّ الدنى، يلفّ بلادا، يزفّ عنادا، يذرّ المنى.. أمّا عيناها فساحرتان ويقول فيهما: عينا حبيبي سهر/ في ودّه أرد/عينا حبيبي سهر/ في وصله الرغد.. عيناها قدر، عيناها القمر. وفي “صمت الهداية” يقول: “عيناك عندي صميم السنا/ بريقٌ/ عتيقٌ/ عريق/ عميقٌ كيمٍّ/غريقٌ أنا/ غريقٌ أنا.
أمّا في قصيدة “حرارة برد” ففي صورة غير مألوفة، فيها من الغلو والاستحالة، يجعل من البرودة حرارة، ولكنّها حرارة نيران شوق، منها يتلوّع من تعب الهوى، راضيًا بقلب، في أوج البرودة يمور فيه الشوق وقد اكتوى. كيف لا وحبيبته ورد قد تفتّح لونه، فتثير دفئًا وحرارة صيفٍ. وكيف لا، وصوتها رنين به يتدفّأ وبنسيمها يتلحّف، وككلّ محبّ عاشق يرى عمره بالحبّ يبدأ، وأعوامه مع الحبيب تشرع، وإنْ هو بالحبّ يُعذّب. فهيهات أن تسدل الليالي ستائرها إذا كان القلب يخفق، راجيًا يترقّب، أما الوقت معها فلا يحسب، وككلّ العشّاق يستحضر صالحٌ الليل، إمّا معاتبًا وإمّا إيّاه شاكيًا. وللبحر حضوره كذلك لكنّه لا يحضر على صورة واحدة ولا بلون واحد، بل تراه قاسيًا مرّة، لطيفًا مرّة أخرى، وثالثة كاذبًا، ثمّ ممزوجًا بعيني الحبيبة تارة رابعة.
وبعد كلّ هذا، يبحث عن ذاته ووجوده في قصائده الذاتيّة الوجدانيّة نحو اهتدائه لبرّ السكينة، حاملًا صليبه، باحثًا عن الخلاصِ، بعيدًا عن قوقعة الذات. ولعلّ قصيدة “بحث عن الذات” تبكي هذا التيه ولا تكتمُ. فهي حالة من حالات التشظيّ، يبحث فيها المرء عن ذاته في تيه يعجز هو عن إدراكه. فيجد حياته صلبانًا تتسربل بالدماء، باكية لدماء الإنسان، في ظلّ قبح الأزمان. وتتلوّى نفس صالح وهي تتوجّع وتتفجّع، كاشفًا لنا عن حسّ مرهف وحزن وجوديّ بدمعه يذرف، فصالح لا يفصل وجعه الشخصيّ عن الوجع العامّ، عن وجع الأوطان. وصليب الأوطان يثقله، لا بل يقيّده ويأسره، فنفسه كلمى جريحة ترقص مذبوحة من الألم.
وفي خضّم التيه والبحث تأتي “ليتني” لتؤكّد سرّ التوهان فيتمنّى لو كان زيتا، لو كان بيتا، نبتا.. ليت أرضه كانت أحلامًا. هي ليت تدلّل على تيهه وتشظّي ذواته، حيث يطوف مُلملمًا حرفًا بحرف، راسمًا لوحته بيراعٍ من الصّمت. وفي خضّم هذا البؤس نجده يخاطب الدّهر شاكيًا، راجيًا إيّاه أن يرحم، فشاعرنا شقيّ والدهر قسيّ. وفي ظلّ الألم يحلو القلم، فالكلمة لصالحٍ شفاء، والحبر له ملاذ، فعندما يمسي صالحٌ رهينة المرض يجد الملاذ في حبره، فيخطّ آهاته ويجعلها سطورًا، فيقول مخاطبا الحبر: يا حبرُ لا ترحل وحيدًا/ إنّ ارتحال الحبر/في بحر الجوى/ يشفيني داءً/ إنْ عدمت طبيبًا.
أمّا في الجماليّات الفنيّة فتتباين القصائد بين مقطوعاتٍ قصيرة وأخرى طويلة؛ بين الكلاسيكيّة العموديّة وشعر التفعيلة؛ بين الوجدانيّة والخطابيّة؛ بين الأنا والأنت والأنتِ. وشعره لا يخلو من قدرة حسيّة بصريّة، ولا يخلو كذلك من وجدانيّة مرهفة تنتقي صورها بشاعريّة رشيقة. فتشهد له الصور الشعريّة بالقدرة والتميّز حيث تتدفّق الألفاظ بانسيابيّة دون تعثّر، وتعبّر الكلمة عن شكوى وتفجّع، قادرة بصورها على الاستحواذ على انفعالات القارئ وإشراكه في بوتقة انفعالات الشاعر. وكثيرًا ما تتدفّق الأحاسيس بتكرار الأفكار والمضامين. هذا إضافة إلى ما توظّفه من محسّنات بديعيّة وبلاغيّة تضفي مزيدًا من الموسيقى، كظاهرة التصريع في استهلال كثير من القصائد.
ولمّا كانت النغمة الخطابيّة ذات النبرة المباشرة تسيطر على لغة القصائد، فإنّ لاستخدام الجمل الإنشائيّة حضورًا واضحًا من خلال أفعال الأمر والنّهي والنداء، والتي تأتي لخدمة الوعظ والإرشاد، والذي يبرع فيه صالح بمهارة خطيب. وننوّه هنا الى أنّ هذه الخطابيّة والمباشرة لم تعدم عنده استخدام الرموز أحيانا، ولكنّها تبقى رموزًا بسيطة تفتح حوارًا مباشرًا مع القارئ بعيدة عن الرموز المكثّفة كتيّار الحداثة وما بعده، والتي تتطلّب جهدًا من القارئ ليفهمها أو يفكّ شيفراتها. فحبّذا يا صالح، وإنْ كنت تميل كما أعرفك إلى الشعر العموديّ الموزون، وتعشق الخَطابة، لو تقلّل من الأسلوب الخطابيّ المباشر وتغلّف قصائدك بالحداثة، معتمدًا على الترميز والتلميح والإيحائيّة لا التصريح والخطابيّة، فتواكب فيه هذا العصر، بما فيه من تعقيدات وغموض. فعصرنا هو عصر الحداثة وما بعدها، هو عصر التعقيد لا الوضوح، هو كسر للسلطة والقيود. هو واقع غامض لا منطقيّ، مهشّم لا إنسانيّ، مشروخ من القمع والإرهاب، القلق والاغتراب. نحن في زمن البحث عن الذات في ظلّ تشظي الحياة، نتخبط في قوقعة التيه والظلمات. الأمر الذي يستدعي خلق هذا الموازي لهذا الواقع من خلال الانطلاق نحو الانفلات من الشكل الكلاسيكيّ الواضح. ويوجب نصًّا ملتبسًا متشظّيًا، يتطلّب تلميحًا وترميزًا لا تصريحًا، لأنّه لا شيء، لا شيء في عالمنا واضح صريح، بل هو ضبابيّ خبيث. إلّا أنّ هذه الهمسة ليست إنقاصًا من شعرك، بل هو إبداعك يفرض تميّزه، كاشفًا عن غزارة نبع، وفيض قريحة وموسيقى عذبة تدغدغ النفس، بحرارة التعبير وإيقاعيّة الألفاظ. فهنيئًا لك إصدارك، هنيئًا لك يراعك، وطوبى لنفسك الأبيّة بأخلاقها شجيّة.
مداخلة د. صالح عبود: السّيّداتُ والسّادة، طَوَيتُ نَفسِي منذُ وُلِدتُ علَى عزيمةٍ صامتَةٍ حَذَّاءَ ماضِيةٍ أنْ أبدأَ وحيدًا منفردًا، رحلةَ عُمرٍ أربعينيَّةً طويلةً شاقَّةً ومثيرةً جدًّا، إذْ قَرَأتُ خلالَها كلَّ ما وقعَ تحتَ يَدَيَّ من موادَّ لا تقفُ عندَ لونٍ واحدٍ أو نسَقٍ يَتيمٍ، بلْ أذكُرُني حريصًا في نَهمَتي على تناولِ وَجْبَاتٍ يوميِّةٍ ليلَ نهارٍ، جُلتُ خِلالها الأدبَ العربيَّ وأنا أقرأُهُ بِأناةٍ وَتَجَمُّلٍ عندَ كلِّ لفظةٍ ومعنًى، وكأنِّي ما زِلتُ ذاكَ الطَّالبُ الرّاغبُ الرّاهبُ في صَومعةِ الكتابِ، أقَلِّبُهُ بِعقلي وأرُوزُهُ بِقلبِي، والفرحةُ والغِبطةُ تَغمرُني حينَ أجدُني مسافرًا في شُجونِ الحديثِ وأنَا أَجُسُّ جَسًّا بِبصري وبَصيرتِي، وأنا أجمعُ إليَّ كنوزًا منَ النّثرِ والشِّعرِ، قديمهِ ومُعاصِرهِ، أَدَّخرُهَا خَبيئَةً لصالحٍ طالمَا أحبَّ النّفائسَ وانتقَى الفَهارسَ وَعَلِمَ المدارسَ، وهوَ هوَ، يُضمرُ حُبَّهُ للعلمِ، ويُقيمُ أَوَدَهُ بِسَمتٍ وَصَمتٍ، وكَذَا اختارَ لنفسِهِ ديمةَ ربيعٍ، تُمطرُ كلماتِهِ قَطرًا صَافيًا صَبًّا غَدَقًا، تُغرِقُ القارئَ وَتَغمِسُهُ في ذاتِهِ قبلَ غيرِهِ غَرَقًا.
لا أُخفي عليكمُ، سيّداتي وسادَتي، أنَّني أذهبُ في الشّعرِ مذهبًا، لستُ وَجِلًا فيهِ ولا هَيِّبًا، فالشّعرُ عندي، كما هوَ عندَ شُيوخي وَأساتذَتي فيهِ، كلامٌ صادرٌ عن قلبِ إنسانٍ مُبينٍ عن نَفسِهِ، وكلُّ كلامٍ صادرٍ عن إنسانٍ ابتغَى الإبانةَ عن نَفسِهِ، وَليٌّ بهِ وَجديرٌ أنْ أُجرِيَ عليهِ ما يُجرَى على الشّعرِ الّذي يَتذَوَّقُهُ القارئُ، فيَنجذِبُ إليهِ اِنجذَابًا، وَيُقَرِّبُهُ منْ نَفسِهِ النَّقيَّةِ زُلْفَى واقترَابًا، وأنا لا أَضرِبُ بهذَا صَفحًا عنْ النَّثرِ الّذي أقَمتُهُ عِندي مقامًا عَلِيًّا، وَارتَضَيتُهُ لي مِيسَمًا سَمِيًّا، فقدْ قرأتُ في كُتبِ السَّلفِ والخَلفِ منَ المنثورِ مَا استقامَ بهِ لسانِي، وصالَ بهِ جَناني، والمرءُ، سيّداتي وسادتي، بأصغريهِ، قلبهِ ولسانهِ، فإنْ قالَ قالَ بلسانٍ، وإنْ صالَ صالَ بِجَنانٍ، وَإنْ اُسْتُجيدَ للمرءِ في دُنياهُ منَ الخيرِ شيءٌ، فليسَ لهُ بِأجودَ من لِسانٍ لافظٍ وقلبٍ حافظٍ، وَلعمري تلكَ أجودُ الحِلَى، وَصَونُ الحياةِ مِنَ البِلَى..
أيّها الأحبّة الّذين اجتمعتمُ اللّيلةَ في أمسيتي هذهِ، في أحبِّ البلادِ إلى قلبي، وفي مَسرايَ الأوَّلِ في غُرَّةِ دَربِي.. فحيفايَ قِبلةُ المُهجَةِ، وَرَوضةُ الرّوحِ، وَثَغرُ البحرِ، وَأقنومُ الذِكرى، وهيَ إلى ذلكَ الّتي عَجَمتنِي حَرفًا، وَطَيَّبَتني عَرْفًا.. أشكرُكم وأدينُ إليكم جميعًا دونما استثناءٍ، تلبيَتَكم دعوَتي، وتشريفَكُم أمسيَتي، طِبتُمْ وطابَ ممشَاكُم عُبُورًا، وتبَوَّأتمِ منَ الخيرِ منازلًا وَقُصُورًا..
سيّداتي وسادتي، مَن ضَيَّفتُموني اللّيلةَ بِجميلِ حضُورِهِمْ، وكَميلِ سُرورِهِمْ، وَسليلِ حُبورِهِمْ/ أدينُ لكمْ بِشُكرٍ جَزلٍ رَفيعٍ كريمٍ، وَحَمدٍ رَحْبٍ شَريفٍ جَسيمٍ: شكرًا لكم.. شكرًا لكم/ مدادُ حِبري أَبكمُ/ خَفْقَاتُ سَطرِي تَهْرَمُ/ فِي أَظلَّةِ أَقمَارِكُمْ/ أَنتمْ ثُريَّا لِلثّنَاءْ/ وَبِودِّكُمْ سَطَعَ الْبَهَاءْ/ أَنتمْ ورودٌ تَرْتَوي/ ألَقًا وَحُبًّا في صَفاءْ/ شُكرًا لكمْ/ فَأنا أَسيرُ جَمالِكُمْ/ وأنَا أَخيذُ كَمالِكمْ/ أقْرَضْتمونِي وَقتَكمْ وحَلالَكُمْ/ سَأظَلُّ في التَّقصيرِ أَرْفلُ عُمرِيَ/ والعمرُ فيكُمْ سَوفَ يُثريهِ الوَفاءْ/ شكرًا لكمْ