صباح المخيم بقلم مدير موقع الصفصاف في اوسلو
يوم 17-9-2017 اتصلت بي صديقة أوروبية تسألني عن حالي في هذا اليوم … سؤالها ليس عادياً لأنها تعرف أن هذا اليوم هو ثاني أيام مجزرة صبرا وشاتيلا وهو يوم إصابتي هناك، وهي نفسها تعرفت علي اثناء تلقي العلاج بعد الاصابة في تلك المجزرة.
صديقتي هي نفسها الفتاة الثائرة، التي كانت تحملنا كفلسطينيين على كتفيها وتضعنا في قلبها وتوزعنا على يومياتها وحياتها. وتطوف بنا المدن والعواصم والأرياف، تقدمنا كما نحن للناس كل الناس، وتضع الحقيقة أمامهم بلا رتوش وأدوات تجميل، فكم النكبات والمآسي الفلسطينية ليس بحاجة لإضافات وتلفيقات. فالأعداء الصهاينة لم يتركوا لنا ما نضيفه لأنهم فاقوا في جرائمهم كل مجرمي الدنيا. لذا صديقتي تعمل على طريقة وشعار المبدع الشهيد غسان كنفاني ومجلته الهدف: الحقيقة كل الحقيقة للجماهير.
هي لازالت تحمل فلسطين وهمها وقضيتها وتناضل لأجلنا بينما بعضنا الفلسطيني أنزل الحمل مُبكراً وتنازل عن فلسطين والقضية مقابل بعض المال والجاه وحرية الحركة. وأخذ منذ ولادة سلطة مسخ أوسلو ينادي ويدعو العرب والمسلمين واصدقاء فلسطين للتطبيع مع الكيان الصهيوني… كان ولازال يفعل ذلك.
هذا البعض هو الذي ترك صيف سنة 1982 مخيمات بيروت بدون حراسات وبدون خيارات حينما غادر بيروت المحاصرة بحراً تاركا خلفه المخيمات عرضة لكل شيء، فكانت المجزرة البشعة في المخيمين …
بعضنا ذاك ركن لوعود أمريكا والصهاينة فما كان من القائمين على ادارة رأس الحيّة الرأسمالية إلا أن نكثوا بالعهد. وفتحوا الطريق لدبابات شارون، الذي حَمَلَ عتاة الكراهية والعنصرية والانعزالية من فاشيي آل الجميل وأعوانهم من عملاء الكيان الصهيوني في لبنان، وأدخلهم بيروت الغربية، والمخيمين، حيث لم يكن فيهما مقاتلين. دخلوا على ما يبدو لتحقيق حلم المقبوربشير الجميل الذي كان يردد قبل أن يرسله ال (حبيب الشرتوني) الى جهنم، بأنه سيقيم مكان مخيمي صبرا وشاتيلا حديقة حيوانات.
تسللوا مع الظلام وقبل الفجر، بمساعدة قنابل الاضاءة التي كانت تطلقها القوات الصهيونية بلا توقف. كانت قنابل شارون تمهد لهم الطريق وتنير سماء المخيمين حيث مسرح الجريمة.
أخذوا يشحذون ويسنون سكاكينهم وخناجرهم وفؤوسهم وسيوفهم التي تذكرنا بسيوف الحملات الصليبية، ومحاكم التفتيش الأندلسية، وبسيوف الهاغاناة والاراغون وشترن وكل العصابات الصهيونية، التي ارتكبت المذابح والمجازر في فلسطين المحتلة.
دخلوا وذبحوا ونحروا وخنقوا ودفنوا وقتلوا وأختطفوا آلاف المدنيين الأبرياء والعُزَل في المخيمين.
“حقيقة المشاهد كثيرة من صبرا وشاتيلا وكلها عالقة في الذاكرة ومازالت غصة في الحلق وجرح في القلب لا يندمل ولن تتمكن السنين من علاجه”.
“أذكر صور الرجل العجوز الذي كان ملقى على الشارع ومضرجا بدمائه وساقه الخشبية ملقاة بالقرب منه. واذكر صور بعض الفتيات اللواتي قتلن ببشاعة واللواتي اغتصبن بوحشيّة قبل الإجهاز عليهن بأساليب قتل سادية. واذكر قصص عن الأطباء والممرضات اللواتي اغتصبن وعذبن حتى الموت، وعن الحوامل اللواتي قام الفاشيون أتباع بشير الجميل وايلي حبيقة وسمير جعجع و سعد حداد وأبو أرز ببقر بطونهن وانتزاع وإخراج الأجنة وقتلهم. أذكر الملاجئ التي احرقوها بقنابل النابالم كما فعلوا في شاتيلا بملجئ حي فرحات. وأذكر قنابل الإضاءة الإسرائيلية التي استمرت المدافع والدبابات والسفن الحربية والطائرات الصهيونية بإلقائها فوق المخيمين على مدار ليلتين كاملتين في 16 و17 أيلول 1982 لتسهيل الرؤية وتجول القتلة والجزارين في المخيمين”.
“وأذكر هدير جنازير الدبابات والجرافات (الإسرائيلية) التي كانت تحفر الحفر لدفن الموتى أحياء وجماعيا في المدينة الرياضية. واذكر إصابتي وانفجار الصاروخ أو القذيقة التي أطلقتها دبابة (إسرائيلية) على مدخل شاتيلا من جهة الفاكهاني والمدينة الرياضية، قرب المفرق المؤدي الى جسر الكولا ومقر الانروا هناك. حيث أصبت أنا واستشهد صديقي اللبناني محمد علي ابن مدينة بعلبك اللبنانية، ونحن نحاول إيقاف قصف وتقدم الدبابات باتجاه مخيم شاتيلا”.
المجزرة أذهلت العالم وكان الصحفي النرويجي أود كاشتن تفايت مراسل تلفزيون النرويج في بيروت من أوائل الصحافيين الذين دخلوا المخيمين وشاهدوا هول المجزرة. ولم يتمالك نفسه حين أخذ يتحدث عنها فكان يروي مشاهداته بدموعه التي تساقطت على وقع كلماته وأضاف في مقابلة تلفزيونية أنه وقف أمام الجثث المتراكمة في أزقة المخيم.
كان تفايت أول الواصلين الى صبرا وشاتيلا من الإعلاميين الغربيين هذا الشخص كان ينقل الصور من صبرا وشاتيلا ويعلق عليها باكيا. وهو أول مراسل غربي نقل صوراً من شاتيلا وصبرا أثناء المجزرة.
تعرفت على تفايت بعد أن لجأت الى النرويج وأقمت في عاصمتها أوسلو، وأخذت أنشط سياسيا من خلال لجان التضامن مع الشعب الفلسطيني والاحزاب النرويجية، وضمن الجالية الفلسطينية والعربية في بلاد سلام الشجعان، الذي أذل الفلسطينيين وعرّى قيادتهم المتنفذة والتي غامرت بالقضية وأوصلتنا الى ما نحن عليه هذه الأيام.
تفايت رجل متمكن ومتحدث ويملك معلومات ولديه خبرة وحنكة وتجربة سنوات من العمل مراسلا تلفزيونيا في شرق المتوسط. وألف عدة كتب عن الصراع في الشرق العربي، وفي بعضها تحدث عن المجزرة في المخيمين. وفي يوم من أيام المنفى في أوسلو أستعان بي من خلال مقابلة أجراها معي قبل سنوات طويلة لإضافة ما لدي من معلومات عن تلك الحقبة من الزمن الى كتاب جديد كان يعد لاصداره قبل سنوات.
صديقتي الأجنبية، الأوروبية، الشيوعية، اليسارية، الثورية، الأممية، الإنسانة قبل كل شيء، التي تركت عائلتها وعملها ووطنها وجاءت الى بيروت لمساعدة أهل المخيمات الفلسطينية، كانت تعرف ما هو جوابي على سؤالها …
لكنها اتصلت بي لتذكرني أنها لم تنسى صبرا وشاتيلا وإن نستها ألسنة الخيانة الفلسطينية والعربية، وألسنة المتشدقين بحقوق الأنسان والعدالة الدولية، ألسنة موظفي الادارة الأمريكية في القارة الأوروبية…
صديقتي لا تعرف شاعر العرب وتونس الكبير ابو القاسم الشابي، كنت أود أن أتجرم لها ما كان أنشده شاعرنا الراحل العظيم :
“أن السلام حقيقة، مكذوبة
والعدل فلسفة اللهيب الخابي
لا عدل إلا إن تعادلت القوى
وتصادم الإرهاب بالإرهاب
صباح المخيم
بقلم نضال حمد – مدير موقع الصفصاف في اوسلو
كان من المفترض ان تنشر في مجلة الآداب اللبنانية ولا ادري لماذا لم تنشر