صفصافة بقيت في فلسطين مع زوجها رغم تشرد كافة أفراد عائلتها بعد النكبة
مقابلة خاصة بالصفصاف أجرتها “بيروت حمود” مع الحاجة فاطمة علي حمد ..
صفصافة بقيت في فلسطين مع زوجها رغم تشرد كافة أفراد عائلتها بعد النكبة
بيروت حمود – خاص – مجد الكروم – الجليل
مشيت كأنني أعرف وجهتي وكأن الطريق المتشعب والبيوت المتراكمة فوق بعضها , خاصتي .. أقصد خاصتنا.
استوقفني ضريح يتبع لزمن آخر غير زمننا ولطرق أقل تعرجًا والتفافًا لا تشبه الطرق التي نمر فيها في زمن كله عرج, فأخذت له صورة لأسأل عنه فيما بعد .. ولم أسأل .!
لم استفسر عن لون البيت وعدد طوابقه فمسبقًا تيقنت أن ساكنيه تعنيهم أشياء أرفع من ديكورات المنازل التي نشاهدها في المسلسلات التركية الحديثة. للبيت عندهم علاقة عاطفية خاصة بالمكان, الأطفال حول جدتهم في غرفة صغيرة؛ ربما قطع عليهم ظهوري المفاجئ حدوتة “الشاطر حسن” أو “إبريق الزيت ” التي كانت تسردها الجدة, فتفرقوا خارجًا وتركوني أصارع نفسي وأجتهد في إيجاد الكلمات والتعبيرات الاجتماعية تلك التي تخص الصحة وطيلة العمر, إلا أن الحاجة هونت عليّ كثيرًا فبادرت هي تسألني عن الأهل وعن الأحوال كيف تدور خارج غرفتها الصغيرة .
منذ يومين غادرت المستشفى وهي تلح على من حولها بإرجاعها إلى غرفتها الصغيرة قلت لهم أرجعوني إلى غرفتي ..هناك يبقى الأطفال حولي مثل الصيصان .
أخبرتها أنني جئت لأسألها بعض الأسئلة التي تخص قريتها فابتسمت بعكس الذين يعبسون عندما يدق أحد باب ذاكرتهم.
وقبل أن أشرع بأسئلتي باشرت هي بالحديث :
لمّا كنت في عمر (رهف ) بنت منير _حفيدتها وهي في سنها السادسة, أخذني أبي معه إلى العين وفي الطريق استوقفنا جندي انجليزي , هذا يا بنيتي على زمن الإنجليز مش اليهود .. فاهمه .. أجبتها بالإيجاب . سئلنا الجندي :
_معك بيبي ؟
قال له أبوي:
_ أه معي بيبي
قال له:
_ ارجع ..
رجعنا ..بالمساء كانت الصفصاف كلها عم تحكي بخبر الأربعين شب اللي صفوهم على العين وطخوهم وأوقعوهم بالبئر قفلوا عليهن وخلوهم جوا !.
أسمها فاطمة على حمد .
أم لأسير محرر .
مهجرة من قرية الصفصاف _قضاء صفد.
مواليد سنة 1928 .
هل تتذكرين كيف كانت الحياة قبل أن يحتل اليهود بلدتكم ؟
أه طبعًا أتذكر .. أتذكر مليح , أنا تزوجت وأنا عمري خمسة عشر سنة وزوجي كان متزوج قبلي ومرته ماتت وكان عنده ولد, وكسيت لعرسي من صفد .. من زمان العرس ما كان مثل اليوم كانوا النسوان يرقصن ويدبكن والزلام (الرجال) يدقوا على المجوِز وعلى الناي واليرغول مش مثل اليوم قيامة وقايمه . أنا كل سنة ..سنتين أجيب ولد مش زي نسوان الأيام بتخلف ولد بتقعد ورائه عشر سنين تتخلف كمان ولد. أنا تجوزت بمجد الكروم ..زوجي كان مختار اسألوا عنه الله يرحمه الكل كان يعرفه .. وأنا ابني سجنوه الله يخلف عليه أحمد جبريل كل ما أشوفه بالتلفزيون بقوم بدي أبوسه, وهجرونا.. آخ, آخ ما حدا قضى اللي قضيناه ..
كنا زمان نملي ميّ من العين .. نعجن ونخبز في البيت وكلوا على أيدينا ..هذا كله اليوم فش منه .. يا حسرة .. كنا نروح راكبيين الحمير على بنت جبيل على لبنان نجيب شوالات بطاطا ..
هل تتذكرين أسماء القرى التي كانت تحيط بالصفصاف ؟!
في بلد اسمها الجش ما تهجرت وفي إلي أصحاب فيها. بعرف بلد اسمها سعسع .. تهجرت , بعرف الرأس الأحمر , وبعرف يا ستنا العزيزة بلد اسمها الريحانية للشركس ما تهجرت بعدها لليوم .. بعرف طيطبة .
قاطعتها إبنتها التي كانت هي الأخرى في الغرفة معنا :
_أول مرة بسمع بطيطبة .
قالت الحاجة لها :
_وأنت ايش بده يسمعك فيها , مهي البلاد راحت ..كنت أروح مع أمي ماشيه على إجريّ نجيب لبن من الرأس الأحمر ..
كان في بلد اسمها ميرون كنّا نروح عليها نتفرج على اليهود لمّا يعملوا “سدييت“ بعرفش شو هذا “السدييت“ إشي عندهن .. ناسيه ..
يعني كان في يهود هنا ؟!
آه كان في.. وكانوا أقليه وعايشين مع العرب .. يحكوا عربي وكانوا أصحاب, وكان في حتى في صفد حارة اليهود.
اليهود يقولون أن معظم البلاد لم تؤخذ بالقوة وأن أصحاب البلاد هم الذين باعوا الأراضي .. فهل هذا صحيح ؟
اسمعي شو أنا بقلك , الفلسطينيين ما كان معاهم أراضي كان معظمنا فقراء إلي باع ,باع أراضي ما كان فيها سُكان باعوا سهول ..وطواحين أبطن بس اللي باع مش الفلسطينية اللي باع هم ملّاكين من لبنان ومن سوريا ومن الأردن اللي باع هم العرب .. بس إنت إفهمي عليّ.. أغلب الأراضي والقرى احتلوها اليهود في قريتنا جاء اليهود كانوا وقتها عصابات أذكر كانوا يقولون جاءت عصابات الهجاناه .. وقتلوا مائة شب من خيرة شباب الصفصاف قتلوا النخبة ولمّا شافوا أهل البلد اللي عم بصير حملوا حالهن على لبنان ..مفاتيح بيوتهم , حملوا أطفالهن, في نسوان نسوا الطبيخ على النار في ناس من الرعبة نسوا أطفالهن في السرير ..شو بدي أحكيلك؟ إلي ذقناه ما حدا ذاقه..!
ألم يكن هناك مقاومة ؟!
اللي كان معاه سلاح كانوا يطخوه .. أقول لك قتلوا مائة شب .. وأجا جيش الإنقاذ الله لا يبارك لهم خربوا أكثر مما صلحوا..كان جيش أردني .. كانوا يقولون بدنا نكرت (نطرد) اليهود بالمرشقة (المكنسة الطويلة المصنوعة من القش), ولاد الميتة قتلونا وشتتونا .. سبع دول عربية ما قدرت عليهم .
لماذا بقيت هنا؟!
أنا زوجي من مجد الكروم , سألنا أبوي إن كنا بدنا نطلع مع أهل البلد على لبنان أنا قلت له بدي أبقى مع زوجي في مجد الكروم.. وبقيت ..!
هل التقيت بأهلك بعد التهجير ؟!
أبوي وأمي ماتوا في مخيم شاتيلا ولم أحضر جنازتهم يا حسره عليّ .. بس لمّا زوجت ابني منصور أهلي عملوا تصريح _كان زمان مش مثل اليوم _ وحضروا العرس . كان عندي ثلاث أخوات واحدة ماتت لمّا كنا صغار في الصفصاف ووحده اسمها آمنه في السعودية زمان كانوا يأخذون بنات الفلسطينيين إلى السعودية ليخدموا الأمراء . وأختي الثالثة اسمها فتحية عايشه في مخيم عين الحلوة في لبنان قتل الكتائب ابنها* .. الله يعينها .. وعندي أخويين واحد في أبو ظبي وواحد في إيطاليا .
بالنسبة لأخواتك هل التقيت بهم ؟!
أختي اللي في مخيم عين الحلوة بالفواحة ما التقيت فيها ولا سمعت عنها خبر من لمّا تهجرت البلد, وأختي اللي في السعودية لمّا رحت على الحج تدبرت رقم تلفونها وتلفنتلها وقلت لها إني بالسعودية .. بس ما شفتها قالت لي كنت لازم احكي معها قبل بشهرين عشان تعمل تصريح هي ساكنه في الرياض .. نفسي أشوف حدا من الأقارب أسمع صوتهن أشم ريحتهم .. ما إلي غير الله .. الله أحسن من الكل ..
كانت فرصة لتتحدث عن معاناتها الممتدة من النكبة المرة إلى أسر ابنها منير :
كنت افرش فرشه لزوجي على البر نده(البلكون) برا وافرش جنبها فرشه لمنير .. هذيك الليله منير ما رجع على البيت طلع على لبنان ..كان بصف تاسع كنا بدنا نشتري له شنته من عكا عشان بدنا نوديه على الرامه يتعلم قال لنا فش حاجه للشنته .. ثاني يوم فقدناه ما لقيناه .. بعد شهر .. شهر ونص سمعنا انه منير في لبنان عند دار سيده كان في ناس تروح وتيجي على لبنان وتجيب أخبار .. وحتى أمي بعثت لي خيطان وأبر مع ناس, وقالوا لنا منير عند دار سيده وانو ستو بتلبسه أواعي خواله .
إسا لمّا رجع لهون مسكوه اليهود وحبسوه وبعد أربعين يوم أجا واحد كان يشتعل مع البوليس هو عربي سئلنا إذا بدنا نشوف منير أخذنا شفنا منير كان بسجن اللد .. أربعين يوم وهو في الحبس وما قر وما اعترف بشيء . ولمّا إجت محكمته قالوا له قول أطلب الرحمة من الحاكم لكن هو قال لهم لا . ولمّا سأله الحاكم قديش نحكم قال له أعلى ما بخيلك اركبوا (مثل شعبي ). وقام الحاكم يومها وحكم عليه اثنين وعشريين سنة. كنا نزوره كل خمسة عشر يوم .. ولمّا طلع من السجن , طلع مع الأسرى .. الله يخلف عليه أحمد جبريل لمّا يبين بالتلفزيون بهد عليه بدي أبوسه ..
آخ لو بدي أحكي راح تكتبِ عني كتاب يا بنيتي ..
هل لديك بصيص أمل بعودة الحق إلى أصحابه والبلاد إلى أهلها الأصليين ؟!
أقول إن شاء لله .. إن شاء لله بكحل عيوني بشوفة الأهل والأقارب ..!
* ابن فتحية شقيقة الحاجة فاطمة استشهد في معارك شرق صيدا سنة1986 .
موقع الصفصاف يشكر الزميلة ” بيروت حمود” على هذه المقابلة التي أجرتها خصيصاً للموقع
مقابلة خاصة بالصفصاف أجرتها “بيروت حمود” مع الحاجة فاطمة علي حمد
الصفصاف- تاريخ النشر: 06-01-2011