«صفقة القرن» لبنانيّاً: مَن يدفع بلبنان نحو ١٧ أيّار جديد؟ – أسعد ابو خليل
تسود مغالطاتٌ كثيرة عن فحوى «صفقة القرن»: هناك مَن ينتظر عقد مؤتمر صحافي لإعلانها وهناك مَن يربطها بولاية ثانية لترمب. لكن صفقة القرن قد بدأت وهي سارية. هي بدأت بخطوات عديدة منها: نقل سفارة أميركا من يافا المحتلّة إلى القدس المحتلّة، تطويب أميركا لاحتلال (إسرائيل) للجولان، ثم منح حريّة مطلقة (أكثر من قبل) “لإسرائيل” كي تستوطن وتقتل وتحتلّ. مؤتمر البحرين كان خطوة من خطواتٍ أخرى، لا ينفصل عنها الحلف والتطبيع الخليجي (خصوصاً السعودي والإماراتي والقطري والبحريني والعماني) مع العدوّ (الإسرائيلي)، ومحاولة تنصيب ولي العهد السعودي ناطقاً باسم الشعب الفلسطيني بعد فشل محاولة تنصيب الملك حسين ناطقاً باسم الشعب الفلسطيني على مدى عقود طويلة. وتعتمد «صفقة القرن» (وهي في ذلك لا تختلف عن مقاصد سياسات أميركا في عهد أوباما وبوش بصورة خاصّة) على استفراد الدول العربيّة وحثّها على الاستسلام “لإسرائيل” مقابل عطايا ومنح أميركيّة ماديّة، (هل هناك مِن سبب غير الضغط على لبنان كي يخضع لاحتلال (إسرائيل) من وراء حظر الحكومة الأميركيّة السفر على شركة «طيران الشرق الأوسط»، فيما هناك شركات طيران ذات سجلاّت أقلّ آماناً بكثير منها كي تهبط في الأرض الأميركيّة؟ ولم تخفِ مادلين أولبرايت ذلك؟).
لكن هل يمكن أن يُجرَّ لبنان مِن قبل أميركا نحو اتفاق ١٧ أيّار ذليل جديد وحزب الله متمثل في الحكومة اللبنانيّة؟ طبعاً، هذا ممكن خصوصاً أن الحزب هو أضعف عنصر في الحكومة. استطاع حزبٌ لبنانيّ صغير (يستحوذ على تأييد ٧٠٪ من ٥٪ من سكّان لبنان) أن يقفل معملاً أذن بافتتاحه وزير لحزب الله. هل مَن يتصوّر أن معملاً افتتحته حركة «أمل» يمكن أن يجرؤ على إقفاله أي حزب لبناني آخر مثلاً؟ إن المبالغة في تقدير نفوذ حزب الله هو جزء من المؤامرة الدعائيّة التي تُدار من تل أبيب وواشنطن بترديد وترداد لبناني حرفي. المبالغة في تقدير نفوذ حزب الله هو للتغطية على نفوذ أعدائه وخصومه. المحور المعادي للمقاومة تحكّم بمفاصل الحكم في لبنان أثناء وبعد سيطرة النظام السوري في لبنان. ليس صحيحاً أن رفيق الحريري دخل في معادلة على أساسها تحكّمَ هو بالاقتصاد (أي أنه هو المسؤول الأكبر عن الأزمة الاقتصاديّة التي يعاني منها لبنان وليس هناك من يذكر اسمه إلا من باب التعظيم والتفخيم)، فيما تحكّمت المقاومة بالمقاومة. لم يكن حزب الله (العنصر الأقوى والأفعل في المقاومة اللبنانيّة على مرّ تاريخها، ولا ينكر ذلك إلا الجاحد أو الجاهل) متمثّلاً بالسلطة، وكان أعداء الحزب متمثّلين في السلطة بانتظام (باستثناء حكومة سليم الحصّ في عهد لحّود لمدة سنتيْن — وهي كانت أيضاً مخترقة من أعداء المقاومة — يكفي أن آل المرّ تمثّلوا فيها) ولم يتوقّف تآمر القوى الخارجيّة ضد المقاومة منذ أن تبوّأ رفيق الحريري السلطة. وقد أسهب إميل لحود (وهو صادق ووطني نادر في تاريخ الرئاسات في لبنان) في وصف تآمر رفيق الحريري (وصحبه في النظام السوري) ضد المقاومة ومحاولة استخدام الجيش لخدمة المصالح (الإسرائيليّة) في جنوب لبنان.
وهناك بوادر وأمارات خبيثة ومشبوهة في الحالة السياسيّة الراهنة توحي بتواطؤ أفرقاء لبنانيّين متنوّعين (سياسيّين ومصرفيّين) في مؤامرة أميركيّة – إسرائيليّة تطل برأسها فوق لبنان. الحكومة الأميركيّة تضع نائبيْن لبنانيّيْن (بمن فيهم رئيس واحدة من أكبر الكتل النيابيّة) على قائمة الحظر، فيما لم تكن هناك إلا أصوات خافتة في الاحتجاج. وقد كان ردّ حزب «الكتلة الوطنيّة» ضد الحظر أفضل بكثير من ردود (أو صمت) بعض حلفاء حزب الله في المجلس النيابي. وكيف يمكن ألا يصدر بيان استنكار عن رئيس الحكومة؟ وكيف يمكن ألا يصدر المجلس النيابي مجتمعاً بياناً رسميّاً في استنكار الفعلة الأميركيّة؟ وكيف يمكن ألا تصدر الحكومة اللبنانيّة بيان احتجاج رسميّاً في هذا الصدد؟ لم يستدعِ وزير الخارجيّة السفيرة الأميركيّة للاحتجاج (ربما لأن باسيل منشغل بالسياحة الشديدة التديّن). وهناك أيضاً بيان السفارة الأميركيّة حول «قبر شمون»: لم يصدر أيّ ردّ رسمي لبناني على هذا التدخّل الصفيق (المُخالِف لاتفاقيّات فينّا حول عمل البعثات الديبلوماسيّة) في الشؤون الداخليّة اللبنانيّة. لو أن السفير اللبناني في واشنطن أصدر بياناً يعطي فيه رأيه في تطوّر أمني في عهدة تحقيق قضائي، لكان قد استفاقَ في اليوم التالي في زنزانة في غوانتامو. المفارقة أن الحكومة الأميركيّة ممنوعة (قبل عهد ترمب الذي أخلَّ بالأعراف والقوانين الداخليّة) من التعليق على شأن أمني في عهدة القضاء الأميركي لأن فصل السلطات يسري (نظريّاً). أي أن الحكومة الأميركيّة تتدخّل في شأن لبناني لا تستطيع أن تتدخّل فيه في الساحة الأميركيّة.
لم يصدر أي ردّ رسمي على التدخّل الأميركي الصفيق في الشؤون الداخليّة اللبنانيّة
لكن ما استدعى القلق أكثر من غيره هو ما جرى في اللقاء الثلاثي الأخير بين ضبّاط من الجيش اللبناني وضبّاط من جيش العدوّ بحضور ممثّلين عن يونيفيل في ٨ آب الجاري. والبيان الذي وُضع، من دون ضجّة أو حتى ذكر في الإعلام اللبناني، ينذرُ بما هو مبيّت من قِبل أطراف «صفقة القرن» ومن يتواطأ معها في داخل لبنان. فقد ترأس قائد قوّات اليونيفيل اجتماعاً ثلاثيّاً «منتظماً». (جريدة «النهار» نشرت توضيحاً بعدما انتقدتُ هذه الاجتماعات وقلّلت من أهميّة التواصل المباشر مع ضبّاط العدوّ، لأن المجتمعين يلتقون حول طاولة على شكل «إل» (بالإنكليزيّة)، فاطمئنّوا، يا لبنانيّين ولبنانيّات). والبيان عن اليونفيل يشير إلى قوّات الاحتلال (الإسرائيلي)، التي احتلّت لبنان على مدى عقود والتي تمعن في الاحتلال والعدوان، بـ«قوات الدفاع الإسرائيلي». وهذه اللقاءات هي مفروضة على لبنان من قِبل الحكومة الأميركيّة ولا نعلم كيف ومتى بدأت ولماذا، إذ أن قرارات مجلس الأمن في الأمم المتحدة (من ٤٢٥ إلى ١٧٠١) لا يلحظ هذه الاجتماعات ولا يطلبُها. أي أن اللقاء الدوري مع العدوّ بات تطوّعاً من قبل الحكومة اللبنانيّة (تتذرّع الحكومة اللبنانيّة باتفاقيّة الهدنة كأنها بعد احتلالات وعدوان واجتياحات (إسرائيل) لا تزال سارية الأحكام). وهذه اللقاءات، على ما تسرّبَ منها، لم تعد لقاءات صارمة وجديّة، بل إن أواصر المعرفة تطوّرت وبات يتخلّلها المرطّبات والمقبّلات. أليست هذه سابقة؟ حفلات سمر منتظمة بين الجيش اللبناني وبين جيش عدوّ يحتلّ أرضاً لبنانيّة ويذلّ الجيش اللبناني بخروقاته اليوميّة؟ والذي يزيد من الريبة حول هذه اللقاءات هو غياب محاضر رسميّة معلنة ومنشورة.
وأضاف البيان الصفيق أن المباحثات تركّزت على الحالة عند الخط الأزرق (وهذا الخط هو ابتكار (إسرائيلي) كي يقتطع العدوّ لنفسه أراضي لبنانيّة لخلق حزام أمني جديد بعد طرد جيشه من معظم الجنوب، ومندوب (إسرائيل) الفعلي في الأمم المتحدة، تيري رود لارسن — وكان على صلة وثيقة ومشبوهة برفيق الحريري — تبنّى فكرة الخط الأزرق، لا بل هو أفتى في موضوع الحدود بين لبنان وفلسطين كأن الأمم المتحدة وديبلوماسيّيها يفتون في موضوع الحدود التي هي، حسب القانون الدولي، شأن بين الدول المعنيّة ولا دور للأمم المتحدة فيها إلا في حفظ ما يتم من اتفاقات بين الدول حول الحدود). لكن بيان اليونيفيل تخطّى ذلك الوصف عن اللقاء ليقول إن المباحثات شملت أيضاً «الخروقات في الجوّ وعلى الأرض» من دون أن يعطي صفة للجهة المسؤولة عن الخروقات. إن صياغة البيان كما هو بالإنكليزيّة توحي للقارئ أن الجيش اللبناني يقوم بخرق الأجواء الفلسطينيّة والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، كما أن جيش العدوّ يخرق الأجواء والأراضي اللبنانيّة. أي أن الخروقات متبادلة فيما يقوم اليونيفيل بالتوفيق بين الطرفيْن. لكن البيان لا يصل إلى نتيجة حول ما يجب فعله حول هذه الخروقات المنتظمة من طرف واحد، وهي تخالف قرارات مجلس الأمن. لا، والبيان انتقل برشاقة ما بعدها رشاقة وبخفّة لذيذة من الحديث العابر عن خروقات (غير معروفة المصدر) إلى الإقرار بأن حالة منطقة عمليّات اليونيفيل «تبقى هادئة». كيف تكون هادئة بوجود الخروقات المذكورة؟ لكن ما تلى هذا المقطع هو الذي يثير القلق.
لقد تجاوز قائد اليونيفيل المهمة المعطاة له ودخل في مواضيع سياديّة محض كان يجب على الدولة النائمة أبداً أن توبخّه رسميّاً عليها، إذ أنه قال بالحرف: «يجب أن نؤمن أن السلامَ ممكن. وبالفعل، فإن السلام يمكن أن يبدأ بكم هنا في الثلاثيّة»، واقترح إضافةً أن يستغل الطرفان فرصة وجود اليونيفيل من أجل «التقدّم في اتجاه السلام». (ثم أضاف كلاماً عاماً بخجل عن نفع إبلاغ اليونيفيل مسبقاً حول تحركات قريبة من الخط الأزرق لتلافي الاحتكاكات، كأن هناك من طرف مخالف غير الطرف الإسرائيلي). وتمتنع قوّات اليونيفيل عن توجيه أن نقد أو إشارة إلى مخالفات إسرائيليّة، فيما هي أثارت الدنيا بسبب المزاعم الإسرائيليّة عن أنفاق حماية دفاعيّة. وهي افترضت أن المزاعم (الإسرائيليّة) يجب أن تصدّق، فيما تبقى كل الشكاوى اللبنانيّة عن الخروقات (الإسرائيليّة) ليست إلا مناسبة من قبل اليونيفيل من أجل عقد حلقة سمر إضافيّة للجمع التطبيعي بين ضبّاط لبنانيّين وإسرائيليّين. إن خطبة هذا الرجل في مديح السلام بين لبنان ودولة الاحتلال (الإسرائيلي) يدخل في نطاق إشارات مشبوهة تدخل على لبنان مترافقة مع صفقة القرن والتحالف السعودي – (الإسرائيلي) الذي يلقي بظلاله على لبنان، وعلى كل المنطقة العربيّة.
إن عمل اليونيفيل كان عملاً مشبوهاً منذ بدايته في عام ١٩٧٨، لكنه بدأ بحجّة الإشراف البريء على انسحاب القوّات (الإسرائيليّة) المحتلّة — ليس من كل الجنوب وإنما من أراض جديدة احتلّتها (إسرائيل) بعد غزوتها في آذار ١٩٧٨. لكن عملها بدأ بقتل القوّات الفرنسيّة لمقاوميْن من «جبهة المقاومة الشعبيّة لتحرير لبنان من الاحتلال والفاشيّة» (استشهد في الجريمة الرفيقان، «راجي» و«إيهاب» من حزب العمل الاشتراكي العربي – لبنان في أيّار من تلك السنة). وثابرت قوّات اليونيفيل على حماية (إسرائيل) من أيّ مقاومة، فيما كان عملها من جانب واحد فقط. كم من الاعتداءات والاجتياحات والغزوات (الإسرائيليّة) جرت في لبنان بوجود قوّات اليونيفيل من دون أن تحرّك ساكناً.
لكن هناك جانب غير سياسي لوجود اليونيفيل وللتمسّك اللبناني بها. هي أصبحت جزءاً من شبكة الفساد والتنفيعات والعقود المحاصصيّة في جنوب لبنان، وهذا الدخول في نسيج المصالح في جنوب لبنان يجعل المطالبة بانسحابها صعباً إن لم يكن مستحيلاً. وعمل قوّات اليونيفيل لم يشمل يوماً ما جاء على لسان خطاب قائد اليونيفيل الجديد (وكان سلفه في المنصب قد ودّع مهمّته بحضور احتفال رسمي في فلسطين المحتلّة بمناسبة إنشاء دولة الصهيونيّة الاحتلاليّة.) ولبنان الرسمي لا يزال غامضاً حول مهمّة هذه اللجنة الثلاثيّة. وكل عدوان (إسرائيل) وكل خروق للسيادة بالبرّ والبحر تردّ قيادة الجيش عليها بانتظام بأنها أبلغت اللجنة الثلاثيّة بذلك. لكن، كم من السنوات يجب أن يمرّ قبل أن تدرك قيادة الجيش والدولة اللبنانيّة أن هذه اللجنة الثلاثيّة لا تؤدّي إلى وقف أي من عمليّات الخروق (الإسرائيليّة)، لا بل هي تجعل منها نكتة ومهزلة، إذ أن حفلة السمر تعقد ويتم تسجيل اعتراض لبناني غير رسمي ثم ينتظر الوفد اللبناني موعد الخروق التالي وحفلة سمر جديدة، وهكذا دواليك.
لا يمكن الافتراض أن خطاب قائد اليونيفيل جاء هكذا من عدم، أو أن ما قاله هو زلّة لسان، أو أن العرقَ اللبناني فعلَ فعله. وكلمة «سلام» في اجتماع رسمي بين ضباط دول لها مدلولات قانونيّة ودستوريّة غير إنشائيّة. ودعوة السلام هذه لا يمكن أن تكون صدرت من دون أوامر أميركيّة. يجب فهم هذا الخطاب والدعوة القبيحة بين دولة مُحتل مع دولة الاحتلال على أنه جزء من مبادرة أميركيّة جديدة لتغيير طابع عمل اليونيفيل. ومداولات مجلس الأمن في عمل اليونيفيل، خصوصاً أثناء عدوان تمّوز، تفصح عن نيّات صهيونيّة لتغيير عملها في صالح احتلال (إسرائيل). هل ستردّ وزارة الخارجيّة اللبنانيّة على دعوة على أرضها للسلام بين لبنان و(إسرائيل)؟ هل ستجري مساءلة في الموضوع؟ هل سيستدعي أحد هذا الرجل لإبلاغه رسميّاً أنه تجاوز حدود مهمته؟ حتماً، لا. ستمرّ هذه كما مرَّ وسيمرُّ غيرها.
ظهور باسيل في الصورة نفسها مع وزير (إسرائيلي) هو سابقة أخرى شنيعة تُسجَّل
لكن اللافت، لا بل المزعج، أن بيان قيادة اليونيفيل عن اللقاء الثلاثي في ٨ آب يختلف كمّاً ونوعاً عن بيان قيادة الجيش عن الاجتماع عينه. فبيان قيادة الجيش تحدّث عن تبيان «الجانب اللبناني» لـ«خروقات العدوّ (الإسرائيلي) البريّة والجويّة والبحريّة وطالب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بإدانة هذه الارتكابات والعمل على وقفها». وأضاف. بيان قيادة الجيش أن الجانب اللبناني أكّد لبنانيّة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والقسم الشمالي من قرية الغجر وشدّد على «ضرورة انسحاب قوّات العدوّ منها». لكن لم يرد كل هذا في بيان الـ«يونيفيل»، ويمكن بناء عليه اعتبار مضمون بيان قيادة الجيش إما غير صحيح أو هو يتعلّق بما أضمره الجانب اللبناني في سرّه. ثم لنفترض أن الجانب اللبناني قال ذلك: هذا يعني أنه يقول ذلك في كل اجتماع لكن من دون نتيجة. يمكن لبيان قيادة الجيش عن الاجتماع اللاحق أن يذكر أن الجانب اللبناني شهر سيوفه من على صهوات جياد بيض وصرخ بكلمات قويّة نابيّة ضد صلف العدوّ، لكن يبقى ذلك غير مثبت من دون تأكيد ذلك ببيان من قوّات اليونيفيل.
وكيف نوفّق هذا الشكاوى والنواح المتكرّر لـ«الجانب اللبناني» في هذه اللقاءات وبين زعم قائد الجيش في خطاب أخير له أن الجيش سيستمرّ في «التصدّي» لعدوان إسرائيل؟ لكن أين وكيف يتصدّى الجيش لعدوان (إسرائيل)؟ هل التصدّي هو في تلك الاجتماعات الثلاثيّة التي تحدّث فيها قائد اليونيفيل عن السلام بين لبنان و(إسرائيل)؟ ثم، هل ردَّ الجانب اللبناني على مطالبة قائد اليونيفيل بإحلال السلام بين لبنان والمحُتل خلال الاجتماع؟ لكن الخطر(الإسرائيلي) لا يبدو أنه يشغل قائد الجيش: والحديث عن هذا الخطر قلَّ واضمحلّ باطراد منذ مغادرة إميل لحّود لقيادة الجيش ولسدّة الرئاسة. لكن قائد الجيش لديه من المشاغل: قائد الجيش يلتقي بالفنانين والفنانات بانتظام ومخابرات الجيش تلقي القبض على بائعي سيجارة الكيف وعلى مزوّري الأجبان في الشمال.
وترافقَ هذا التحريض العلني على عقد سلام بين لبنان و(إسرائيل) مع تحرّكات مكثّفة على الحدود الشرقيّة والشماليّة من لبنان من قبل الجيش اللبناني والسفيرة الأميركيّة والسفير البريطاني. لكن لماذا الحدود الشرقيّة والشماليّة فقط؟ هل انطلقت الغزوات الإسرائيليّة المتكرّرة عبر السنوات والعقود من الحدود الشماليّة والشرقيّة أم من الحدود الشرقيّة؟ وفي ١٥ تمّوز اصطحب جوزيف عون السفيرة الأميركيّة والسفير البريطاني في جولة على الحدود الشرقيّة للبنان وعقد اجتماعاً بحضورهما لـ«لجنة الإشراف العليا على برنامج المساعدات لحماية الحدود البريّة». وفي مناسبة أخرى، فاخر قائد الجيش بأن الجيش أنشأ أربعة أفواج حدوديّة (فقط للحدود الشرقيّة والشمالية، بأوامر الحكومات الغربيّة) وبنى ٧٤ مركزاً لـ«ضبط الحدود». وهذا الاهتمام الغربي المثير بضبط الحدود و«منع التهريب» يثير الكثير من التساؤلات التي لا يطرحها قائد الجيش. هل الاهتمام بالحدود الشرقيّة ينبع من قلق أميركي وبريطاني عميق من عواقب ومخاطر تهريب البطاطا والإجاص والتنباك المعسّل؟
يعمّق قائد الجيش من تورّطه في مؤامرة أميركيّة مفضوحة ضد المقاومة في لبنان. وفي عيد المقاومة والتحرير، ألقى جوزيف عون خطبة عصماء طلعَ فيها ونزل من دون أن يذكر في هذا اليوم… المقاومة ودورها في تحرير لبنان، حتى كدتَ تخال أن جوزيف عون وصحبه هم الذين أذلّوا العدوّ على أرض المعركة وأنهم هم الذين منعوا العدوّ من التقدّم في حرب تمّوز. إن هذا العدد الهائل من المراكز الحدوديّة على الحدود الشرقيّة وتركيب أجهزة الكترونيّة ممنوحة بسخاء من المانح الأميركي (لا) تخفي نيّة تجسسيّة لا تُعنى بتهريب البضائع بقدر ما تعنى بوضع عيون وآذان (إسرائيليّة )(من خلال المعدّات) إضافيّة لمرافعة تحرّك وإمداد المقاومة. ثم لماذا هذا الهوس بالحدود الشرقيّة (لا بل إن قائد الجيش أضاف أنه يريد ترسيم الحدود الشرقيّة أيضاً)؟ وهل سأل عون نفسه عن سبب تمنّع المانح الأميركي والبريطاني عن تزويد لبنان بمعدّات للحدود الجنوبيّة؟ وبعيداً عن المعدّات، لماذا لا يُنشئ الجيش مراكز مراقبة بهذا العدد الهائل المدعوم بأفواج خاصّة للحدود الجنوبيّة — وهي المصدر الحقيقي الأوّل للخطر على لبنان وسيادته وحتى وجوده؟
ليس ما يجري في لبنان عفويّاً. هناك أصابع (إسرائيليّة) في ما يجري في البلد. تصريح جنبلاط عن (إسرائيليّة) مزارع شبعا (هذا هو المعنى الحقيقي للتصريح الشهير) لم يكن بسبب غضبه من فشله في نزع الحصّة التقليديّة له من معمل فتّوش. وظهور جبران باسيل كوزير خارجيّة لبنان في مؤتمر حريّة الأديان في واشنطن في الصورة نفسها مع وزير (إسرائيلي)، هو سابقة أخرى شنيعة تُسجَّل (أليس مهيناً للبنان وللمسلمين وللإنسانيّة حضور لبنان مؤتمراً عن حريّة الأديان برعاية الإدارة التي أرادت حظر دخول كل المسلمين إلى أميركا؟).
لم يعد فيلتمان إلى الصورة بل عاد مشغّلوه. ديفيد شنكر، مساعد وزير الخارجيّة لشؤون الشرق الأدنى (وهو في فريق مؤسّسة واشنطن — الذراع الفكريّة للوبي (الإسرائيلي) والتي تقاطرَ إليها كل قادة ١٤ آذار وكان جنبلاط خطيباً منبريّاً فيها في زمن ثورة بوش اللبنانيّة) تربّع للتوّ في كرسيه في وزارة الخارجيّة وهو ضليع بالملف اللبناني وعمل فيه على امتداد سنوات طويلة. واختصاص شنكر الأساس كان في موضوع الجيش اللبناني ورغبة اللوبي في استخدام الجيش لأغراض معادية للمقاومة. لكن أن يدفع شنكر وصحبه لبنان نحو ١٧ أيّار جديد، وخلسة، فهذه وصفة للوقوف على عتبة حرب أهليّة. وهذا النشاط الذي دبّ في عظام ١٤ آذار ليس إلا بأوامر من شنكر، كما هذا الاستئساد الجديد لجنبلاط، ومحاولة جمع صفوف ما بقي من ١٤ آذار. والتهويل بخطر اقتصادي داهم هو جزء من العمليّات الأميركيّة القذرة التي تجعل مصير بلدان رهناً بتنفيذ مطالبها. ونشاط مُشغّل فيلتمان في واشنطن يهدّد بإعادتنا إلى أجواء الثمانينيّات. لكن هل يصمد أتباع شنكر في مواجهة كهذه أكثر من صمود الساعات القليلة في ٧ أيّار، بالرغم من بطولات أكرم شهيّب الواردة في سيرة أبو زيد الهلالي؟
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)