طنجة في عيون كتّابها مدينة واحدة يعيش فيها العالم كله – عبد الرحيم الخصار
كانت سفينة نوح قد فقدت وجهتها في البحر، إلى أن وصلت حمامة إلى السفينة وفي قدميها الصغيرتين قد علق الوحل، فعرف الناس أنهم على مقربة من اليابسة، ثم صاحوا «طين جا» أي «الطين جاء»، كانت اليابسة القريبة منهم هي تلك الأرض التي سيسمونها طنجة. هذا ما يتداوله الناس في ثقافتهم الشعبية بخصوص تسمية المدينة، لكن التاريخ يعود بنا إلى الملك الامازيغي سوفاكس الذي أسس المدينة في القرن الرابع عشر واستمد اسمها من اسم والدته الأميرة طنجيس.
طنجة مدينة محمد شكري، كان الكاتب الأميركي بول بولز الذي عاش فيها لفترة طويلة يسميها «المدينة الحلم»، المدينة التي سحرت دولاكروا، ومارست السحر ذاته على ثلة من شعراء وكتاب جيل البيث كآلان غينسبرغ، وليام بروز، تينيسي وليامز، فضلا عن الكاتب الفرنسي جان جيني والاسباني خوان غويتسولو، وغيرهم من الكتاب والفنانين الذين أمضوا فيها سنوات من أعمارهم، او كانوا يترددون إليها من حين لآخر، وكانت ملهمة لهم، ألَّفوا فيها وعنها كتبا ونصوصا تحتفظ بها الذاكرة الثقافية والإبداعية للمدينة.
في هذا التحقيق يستعرض نخبة من كتّاب طنجة علاقتهم بالمدينة التي تحمل في المغرب لقب «عروس الشمال».
مزوار الادريسي (شاعر ومترجم):
المدن تصنع كتابها
ليس المهندسون والسياسيون وحدَهم من يوجِدُون المُدنَ. هل يُمكنُ لأحدٍ أن ينتزع من الكتابة سُلطةَ خلقِها مُدُنًا… أليستْ «ماكوندو» غابرييل غارسيا ماركيز و «كومالا» خوان رولفو، وغيرهما، مُدنا غدتْ حقيقيّةً واستقرَّتْ فينا عبر الخَيَال. لكنْ هل يمكن أن نُصدِّقَ أن تبتكر مدينةٌ ما كُتّابَها؟ تلك فكرةٌ تُراودني وأنا أستحضر أسماءً مثل بيسوا مع لشبونة، وكفافيس مع الإسكندرية، ونجيب محفوظ مع القاهرة.
يتهيأ لي أن طنجة تُجيب ببلاغة استثنائية على السؤال؛ فهي مدينة اللقاء، حيث يُعانق فيها الماءُ الماءَ، والأصواتُ الأصوات، والأزمنةُ الأزمنة، إلخ. لقد أبدعتْ طنجةُ أسماءً مثل بول بولز وآنْخِلْ باثْكيثْ ومحمد شكري، بما هيَّأتْه لهم من شخصيات، وفضاءات، ومغامرات، وتجارب، ومواد للحكي، وصنَعتْهم صورةً أدبية تُقيمُ في نصوصِهم، ولا يمكن أن تكتب خارجَ أسوارها.
أنا لا أدّعي مقارنة اسمي بالكبار السابقين، لكن تهمّني حقيقةٌ أعيها جيدا، وهي أنَّ تطوان كانت ولا تزال مَرتعَ الحياةِ الأولى هوًى وفكْرًا، وأنّ طنجةَ كانتْ تُنازِعُها ذاك في دخيلتي دوما، وأني مدينٌ للأخيرة باسمي ككاتب ومترجم، فطنجة بمُصادفاتها اللانهائية لم تنفك تحرِّضني، أنا الوافد عليها، على اقتراف الحياة وعلى اجتراح الكتابة في أرجائها؛ فهي تربةُ المجاز الأزرق، لأنها اختلقت الأسباب لتورِّطني في الاتصال بالغريب واللقاء بالأليف، وفي تجلية ذلك في نصوص تأرجحت بين الشعر والسرد والنقد والترجمة.
لقَّنتني طنجة دروسا في الاحتيال على الصعاب، رفقةَ أصدقاء مثل بهاء الدين الطود وخالد السليكي وعبد اللطيف شهبون وآخرين، كي نُمكِّنَ للثقافة مساحة في أفضيتها المتنوّعة، بما في ذلك السياحية منها… وطنجة رحَّبتْ بنصوصي وشَغبِ حروفي في بعض مقاهيها وحاناتها وفنادقها، وبعض من دور سينماها ومسارحها، وفي مدارسها ومكتباتها. وطنجة عرضتْ عليَّ مطابِعَها وبرامج إذاعاتها. ألا أكون بعد كل هذا الكَرَم صنيعَتَها؟ هل يُمكنني أن أنكر أنَّ المُدُنَ تصنع كُتّابَها أيْضًا؟
محمد أحمد بنيس (شاعر ومترجم):
لم تعد موجودة
المدينة التي تحدث عنها كتاب وأدباء وفنانون عالميون لم تعد موجودة.. خلال الفترة الدولية كان للمدينة سحر خاص ألهب خيال الفنانين والأدباء.. هذا السحر أنتجه في الواقع تفاعل غريب، يكاد يكون عصيا على التوصيف، بين المدينة الحديثة والمدينة العتيقة بكل ما كان فيهما من حياة.
أستغرب من بعض الكتاب الذي يفضلون السفر عبر الزمن ليعيشوا «حاضرا» ليس حاضرهم بكل تأكيد. يكتبون عن مدينة هادئة وحالمة تنام بين المتوسط والأطلسي، صنعت أسطورتها لتكون جزءا من تاريخها، مدينة يتردد عليها باحثون عن الغرابة والشرق والاسترخاء.. هذه المدينة لم تعد موجودة، فقد أضحت جزءا من التاريخ الاجتماعي لطنجة والمنطقة والمغرب.
الآن، طنجة تتحول إلى نموذج سيئ للمدن العربية الكبرى، التي تنمو وتكبر دون تصور عمراني ومعماري يربط بين ماضيها وحاضرها، ويأخذ بعين الاعتبار مشاكلها المتفاقمة. المدينة تكبر بشكل مرعب، وأغلب معالم المدينة التاريخية عبارة عن خرائب متداعية.
خالد سليكي (كاتب وباحث):
مدن دواخلنا
في طنجة اكتشفت حكاية اسمها الأدب والفن والتعدد واللغات والتواريخ. مدينة واحدة تستطيع أن تجعلك تعيش في العالم كله. وأن تقف قبالة الضفة الأخرى، على شاطئ المتوسط، يعني أنك تصنع حكاية وهم لا حدود له. وحتى حين هاجرت واخترت المنفى الاختياري، ظلت، وما تزال، طنجة حكاية ذاكرة لا أستطيع أن أتحرر منها رغم كل محاولاتي. طنجة فضاء يعج بالزمن والناس والمكان والأسرار. فضاء جعلنا نحترف التأمل وحب الترحال في الوجود. طنجة أنثى بامتياز.. غاوية، متمنعة، تهوى المجون واللاعقل… كانت طنجة فضاء منفتحا على الكون كله. وفي كل يوم كانت تصبح على ملامح أنثى الأساطير. عشقتها مثلما لم أعشق امرأة من قبل. بحر يصلي لجبل الشرْف في خشوع، يناجيه ويستلقي كخمار عذراء يغطي ما بين نهديها. ضوء يشع في الجانب الشرقي ينذر بشروق الشمس أو غروبها. زرقة الأطلسي الصاخب تملأ الأفق. وطنجة بشارعها الوحيد الذي نتغنى بترديده «البوليبار»… تؤثث العوالم السفلى والداخلية للأفراد. على كل جوانب البوليبار حانات. بمجرد ما تلج إحداها حتى تدخل أبعادا زمانية متعددة لا يمكن أن تدرك كنهها إلا إذا استطعت أن تغير نظرتك للعالم… أن تنظر إلى ما يوجد من حولك بمنطق الواقع الآخر. منطق يتخلخل فيه الواقع المعيش فيصبح مجرد صدى للمعيش اليومي. إنه الهامش وما يحبل به من تاريخ لغات وحكايات وأزمنة لا تعرف النهار… حيث اليوم هو الليل، والليل هو مركز الزمن. والتاريخ لحظة لا تنسج إلا بالحكي والخمر والعربدة، وقهقهات العاهرات وأثدائهن التي تتوسد ”كونطوارات“ البارات، وعيون السكارى تحط فوقها إلى الأبد كي تصنع حكايا الواقع الذي يثأر للواقع من الواقع… في هذا الفضاء صنعت حكاية طنجة الأدبية. طنجة التاريخ الحديث والمعاصر والقديم. طنجة اللغات والثقافات. طنجتنا وطنجة مدن دواخلنا وسواحلنا العائمة.
مصطفى الورياغلي (كاتب وباحث):
سحرها الأسطوري
ليس في وسع كاتب عاش أو يعيش في مدينة طنجة أن يُفلت من سحرها الأسطوري، هي التي استوقفت العابرين، المغامرين والقلقين، فانجذبوا إلى حضنها وألقوا في دروبها وساحاتها وفنادقها وحاناتها مراسيَ همومهم وأحلامهم، جيلا بعد جيل. عندما راودتني كتابة الرواية، أنا ابن طنجة المهووس بناسِها وفضائها وتاريخها وأساطيرها، لم أجد بدّاً من ان أمنحها صوت المتخيَّل لتُسمِعَ صوتَها المتفرِّدَ، فتكون كلماتي صدى لأرواح تيَّمها العشقُ واكتوت بحقائق التاريخ وحماقاته.
انغمست أحداثُ الرواية في تفاصيل تاريخ طنجة الدولية (1925 – 1958) فاكتشفتُ عوالم متعددة الأعراق واللغات والثقافات، وكلٌّ يلهج بجمال المدينة وبُعدها الإنساني الكوسموبوليتي. فضاء الحرية والتسامح والإبداع. إسبانٌ، وفرنسيون، وإنجليز، وإيطاليون، وبرتغاليون، وأميركان. مسلمون، ونصارى، ويهود. تتعايش المساجد والكنائس والبيع إلى جنب الأبناك والخمارات والنوادي الليلية الشهيرة.
لكن كل تلك الصورة التي استجمعتُ أجزاءها وتفاصيلها من الروايات الغربية وكتب التاريخ والمذكّرات، كان ينقصها ركنٌ أساس، يشوِّهُ غيابُهُ مصداقية الصورة وحقيقتها؛ كل الأصوات التي أعلنت طنجةَ الدولية جنّةً للإنسان فوق الأرض، لم يكن بينها صوتٌ مغربيٌّ مسلم! الآخرون الذين استوطنوا المدينة، حاجّين إليها من كل فجٍّ بعيد، استفردوا بصوت المدينة وتكلّموا باسمها. أما المغربيُّ، سليل المدينة، المعجون بترابها ومائها وريحها الشرقية العتيدة، فهو الأهليُّ، البدائيُّ، الغرائبيُّ، الخادم، المستوطن بين الخرافة والحشيش.
كتبتُ رواية «جنة الأرض» لأعيد لذلك «الأنا» صوته المصادَر؛ لِيَلِجَ فضاء الحوار، ويرسم ملامح جنّته التي تراوده في الحلم والحياة، من غير وصاية ولا حجر.
نسيمة الراوي (شاعرة):
علاقة دهشة
طنجة بالنسبة لي ليست مكانا عاديا، فرغم أنني أعيش بها في الحاضر إلا أن علاقتي بها علاقة ذاكرة وتاريخ يعود إلى ما قبل ولادتي، إنها علاقة حكي وسرد ودهشة، عندما أمشي في السوق البراني أرى أبي شابا يلج سينما كازار ببنطال جينيز ممزق عند الركب، في عقبة مرشان أراه صبيا يجرجر محفظته المدرسية كما أجرجر ذاكرتي، وفي مقهى الحافة أسمعه يردد أغاني البيتلز. عندما أمر بالقرب من فندق ريتز أشعر وكأنني انسلخ مني وألبس جسد محمد شكري أحس بالسوط وهو يمتد صوب جسد الطفولة. عندما تحط الذكريات على رأسي أحسبها نزلت من فوق، أحسبها عصافير توقظ الذاكرة بزقزقتها، لكن عندما أرى العربي اليعقوبي بعصاه التي ينقر بها وجه أرض طنجة لتستيقظ الذاكرة أجزم أن الذاكرة توجد بالأسفل تلتصق بالأرض وبالمدينة.
(كاتب مغربي)
المصدر: السفير الثقافي